Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجزائريون يخرجون "موتاهم التاريخيين" لتصفية الحسابات السياسية الراهنة

زمن ما قبل حراك 22 فبراير لن يكون كبعده وكثير من الطابوهات أسقطت

تظاهرات في العاصمة الجزائر (أ.ف.ب)

تمتلئ الشوارع في أيام الحراك الشعبي الجزائري، الجمعة والثلاثاء من كل أسبوع، بصور كثيرين من الزعماء الذين قضوا شهداء على يد الاستعمار الفرنسي أو الذين جرت تصفيتهم من قبل إخوانهم في السلاح سنوات الثورة، لخلافات ونزاعات داخلية شخصية أو سياسية، أو الذين جرت تصفيتهم بالاغتيال أو الإعدام في فترة الاستقلال الوطني ما بين 1962 و1970.

بمثل هذه الحال، يتخذ الحراك الشعبي في الجزائر بعداً سياسياً مفصلياً وجديداً، إذ إنه انتقل من رفع الشعارات المطلبية السياسية أو الاجتماعية التي انطلق بها في 22 فبراير (شباط) 2019، والمتمثلة في رحيل رموز بوتفليقة وتغيير النظام بمفهومه السياسي، إلى مطلب فلسفي أساساً، وهو تأسيس دولة مدنية جديدة على أساس محاكمة التاريخ، وتصفية ما ظل غامضاً ومغلقاً فيه.

لقد حوّل المتظاهرون الذكرى الـ62 لاغتيال عبان رمضان إلى قفزة نوعية في المطالب التاريخية لبناء الدولة الصلبة، وعبان رمضان هو أحد قادة ثورة التحرير الجزائرية ومهندس الثورة ومثقفها الأول وأحد المشرفين على مؤتمر الصومام (الذي عُقد في 20 أغسطس 1956 في منطقة القبائل)، وهو صاحب المقولة النظرية الشهيرة في الثورة والداعية إلى "أولوية السياسي على العسكري"، وهو من أقنع جمعية "العلماء المسلمين" بالالتحاق بصفوف الثورة، بعدما كانوا يعتبرونها "أحداث شغب وتخريب"، وهو ما عبرت عنه جريدتهم ولسان حالهم الرسمي في نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، مستنكرةً ومستغربةً في افتتاحيتها "الانفجارات التي هزت الجزائر ليلة الفاتح من نوفمبر في كامل التراب الوطني، والتي أصابت بعض المؤسسات الفرنسية ومزارع المستعمرين".

لقد اغتيل عبان رمضان من قبل رفاقه في السلاح بعد مؤامرة مدبرة ضده، حين استُدرج من الجزائر إلى اجتماع دُعي إليه بحضور بعض قادة الثورة في مدينة تطوان في المغرب الأقصى. كان ذلك في 27 ديسمبر (كانون الأول) 1957، وقد نشب خلاف بين الحاضرين، حول مسألة الداخل والخارج، السياسي والعسكري في الثورة الجزائرية. ولأنه كان من المؤيدين للأولوية السياسية على العسكرية، وهي بنظره الطريق كي تتمكن الثورة من حماية نفسها ورسم طريقها الأيديولوجي بعد الاستقلال بعيداً من الانقلابات العسكرية، وما يسمح لفتح المجال السياسي المتعدد. وهو ما كان يعارضه البقية من الثوار العسكريين الحاضرين، وهي الجماعة التي استولت على السلطة بعد الاستقلال عام 1962، وذلك بانقلاب على الشرعية السياسية. ويُروى بأن تصفية عبان رمضان في ذلك الاجتماع جرت بخنقه وردم جثته في حديقة الفيلا التي كانت تابعة لجبهة التحرير الجزائرية في مدينة تطوان في المغرب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن صدف التاريخ أن يكون يوم 27 ديسمبر يوم اغتيال عبان رمضان (1957)، وهو أيضاً يوم وفاة الرئيس هواري بومدين (1978) أحد القادة العسكريين الذين قادوا الانقلاب على القيادة السياسية عام 1962، فكان الحراك على موعد من خلال هذين الحدثين لمساءلة التاريخ.

كما رفع المتظاهرون صور الزعيم آيت أحمد، أحد رموز الثورة الجزائرية، الذي حُكم عليه بالإعدام بعد الاستقلال، وكان أول من أسس لحزب معارض هو حزب "جبهة القوى الاشتراكية"، وأحد المناضلين من أجل الديمقراطية في الجزائر. وحضور آيت أحمد في الشارع دعوة إلى التعددية السياسية الحقيقية لا الشكلية التي مارسها النظام منذ عام 1989.

كما رُفعت صور العقيد شعباني الذي حُكم عليه بالإعدام، وهو أصغر عقيد في "جيش التحرير" لأنه عارض التوجه الذي سارت فيه الثورة بعد الاستقلال، وفي ظل الدولة الوطنية بقيادة الرئيس أحمد بن بلة ووزير دفاعه هواري بومدين.

ورفع آخرون صور الوجوه التاريخية الكبيرة والأساسية في ثورة التحرير، التي جرت تصفيتها بعد الاستقلال من أمثال "محمد خيضر، أحد الزعماء الخمسة الذين اعتُقلوا بتحويل طائرتهم التي كانت تقلهم من المغرب إلى تونس"، والذي اغتيل في الثالث من يناير (كانون الثاني) عام 1967 في إسبانيا، وصور كريم بلقاسم، أحد كبار قادة الثورة، الذي اغتيل في 18 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1970 في فرانكفورت ألمانيا.

إن الحراك الشعبي الجزائري وهو يرفع صور الشهداء، رسالة عميقة تدل على الوعي السياسي للشارع، الذي أراد أن يقول إن بناء الدولة المدنية مطلب أساسي لقيام ديمقراطية حقة تُحترم فيها التعددية وقبول فلسفة التداول على السلطة.

وهي أيضاً رسالة مفادها بأنه حان الوقت للمؤسسة العسكرية للانسحاب من المنطقة السياسية والمكوث في منطقة "حماية أمن حدود البلد"، وأن زمن صناعة الرؤساء من قبل هذه المؤسسة قد "ولّى" أو يجب أن "ينتهي" كي ندخل في عهد سياسي جديد.

أمام "التيار الديمقراطي" في الحراك الذي يطالب بوضوح بإقامة دولة "مدنية" يرفع "التيار الوطني الشعبوي" صور الرئيس الراحل هواري بومدين، وهو تيار قريب من القومية العربية، التي لها أحلام السبعينيات، والتي تخلط ما بين الأوهام والأحلام، وهي ترفع صور الرئيس بومدين، تريد أن توصل رسالة تحفظ تجاه مطلب "الدولة المدنية" وأيضاً مناهضة التيار الداعي إلى التعددية السياسية في الجزائر.

من جهة أخرى، يرفع التيار المحافظ، القريب من الإخوان المسلمين، صور رئيس "جمعية العلماء المسلمين" عبد الحميد بن باديس، وهم يريدون العودة إلى الساحة بعد فشل التيار الإسلامي من خلال أحزاب تنشط بشكل رسمي منذ التعددية السياسية في الجزائر عام 1989. ويحاول هذا التيار أن يركّب خلطة سياسية غريبة وجديدة، هي ما أُطلق عليها إسم "الباديسية النوفمبرية"، أي الجمع ما بين "التيار الإسلامي الإخواني" و"التيار الشعبوي الوطني" الذي شارك في ثورة نوفمبر 54.

إن النقاش في الشارع، من خلال الشعارات المرفوعة من قبل المتظاهرين، في شكل عبارات سياسية أو من خلال صور الزعماء التاريخيين، وما يحيلون عليه من مواقف، كانت السبب في إبعادهم أو اغتيالهم، هي ظاهرة صحية وعلامة على تعميق النقاش السياسي المرافق للحراك الشعبي المستمر في سلمية منذ أحد عشر شهراً.

والجزائريون وهم يخرجون موتاهم في التظاهرات الشعبية السلمية، يدخلون منطقة النقاش العلني وفي الشارع حول "الممنوع في التاريخ" أو "المسكوت عنه"، أو ما ظل يُعرف بـ"الغرف السوداء" في تاريخ الجزائر. كل هذا يدل على أن زمن ما قبل حراك 22 فبراير لن يكون كبعده، وأن كثيراً من الطابوهات التاريخية قد أُسقطت. وأن الحراك حرّر الجزائري من "الشعبوية الثورية" وخلصّه أيضاً من "قدسية الشرعية الثورية"، التي ولمدة أزيد من نصف قرن، حكمت باسمها طبقة من السياسيين الفاسدين الذين أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه من انهيار اقتصادي وقلق على الهوية وضبابية في المستقبل.

إن الحوار والنقاش عبر رموز التاريخ والاختلاف حول قراءة وتأويل ما قام به هذا التيار أو ذاك، يؤكد أن التاريخ حمْل ثقيل على الجزائريين، وأن حل كثير من أزمات الدولة المعاصرة يمر أساساً وضرورياً بحل ما يُسمى "الرموز التاريخية" و"الخيانة" الوطنية.

فمفهوم "الرمز التاريخي" كما هو مفهوم "الخيانة الوطنية"، في بلد تغيب فيه الديمقراطية والحرية والتعددية السياسية، ما هو إلاّ حكم تصدره قوة سياسية في مرحلة معينة من التاريخ وحسب موازين القوى القائمة في هذه المرحلة أو تلك.

أعتقد أن كل ما يريد الإفصاح عنه هذا الحوار الشارعي عبر استحضار الأموات من الشهداء ومن المغتالين من قبل رفاق السلاح، هو دلالة على البحث عن تأسيس للدولة الجزائرية المدنية، والتي تقوم أساساً على فصل المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية وفصل الدين عن المؤسسات السياسية والتعليمية وفتح المجال للتعددية اللغوية والثقافية.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء