إذ يصادف الـ18 من ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية، تستدعينا حروفها لنسلّط الضوء على واقعها خارج حدود موطنها الأصلي، وتحديداً في فرنسا التي أقرّت وزارة التربية والتعليم فيها العام الماضي دمج هذه اللغة ضمن المنظومة التربوية والتعليمية الفرنسية، ما حوّلها إلى قضية رأي عام أثارت ضجيجاً في الأوساط النيابية والإعلامية.
وعلى الرغم من الإدراك الشعبي والاعتراف الحكومي الفرنسي بأهمية اللغة العربية، ما زال الحضور الرسمي للغة العربية يتأرجح بين متقبلٍ ورافضٍ لها لأسباب سياسية ودينية يحكمها الخوف من التطرف، رابطين بينها وبين الحركات الإسلامية المتطرفة ـ خاصة بعد أحداث نوفمبر 2015 في باريس.
وفي حين تصرّ بعض الأصوات الفرنسية على رفض انتشار اللغة العربية، وعلى وجه الخصوص تدريسها ضمن المنهاج المدرسي الرسمي منعاً من تجذّر التطرف في المجتمع الفرنسي، يؤكد آخرون ضرورة حضورها في المدارس الحكومية كخطوة أولى هامة في مكافحة الإسلام المتطرف ومنع الأفكار الجهادية من السيطرة على العقول. وكان معهد "مونتاني" الفرنسي المتخصص في الدراسات والبحوث قد حذّر في تقريره الصادر في سبتمبر الماضي، من خطورة التوجّه للمساجد بهدف تعلّم اللغة العربية. مؤكّدا أن إتاحتها في المدارس الحكومية سيقلّص أعداد التلاميذ الدارسين لها في المراكز الدينية على اختلاف أنواعها، وبالتالي خلق فضاء من الاندماج يسوده التنوع الثقافي ويحترم قانون البلاد.
وحسب إحصائيته في العام 2016 أعلن معهد "مونتاني" أن عدد الطلاب الذين يدرسون اللغة العربية في مدارس الدولة يبلغ نحو 13 ألف طالب من أصل 5.5 مليون طالب، أي ما يعادل 0.2 في المئة فقط وهي نسبة تثبت أن المدارس الحكومية الفرنسية كادت تخلو من دروس اللغة العربية على أرض الواقع.
ويُصرّ الفرنسيون من مؤيدي هذه الخطوة، أن المستقبل يعد بتخريج كفاءات عالية تتقن اللغة العربية وبإمكانها المساهمة في العلاقات العربية الفرنسية.
تجدر بنا الإشارة إلى أن اللغة العربية موجودة في المدارس الرسمية الفرنسية كدروس اختيارية معتمدة منذ العام 1977. بالإضافة إلى أنها تُدرّس في الجمعيات الدينية والمساجد، المراكز الثقافية، مراكز تعليم اللغات والثقافات الأصلية، وغيرها من الهيئات والمؤسسات المدنية. لكن اليوم أصبح بإمكان طلبة المدارس الحكومية اختيار لغة الضاد للدراسة كلغة أجنبية ثانية، بنفس المستوى مع كلّ من اللغتين الإسبانية والإيطالية، فيما يتم تدريس اللغة الفرنسية بشكل إجباري، والاختيار ما بين اللغتين الإنجليزية والألمانية لدراسة إحداها كلغة أجنبية أولى.
نضال ضد التعصّب
تؤكّد استيفاني صباغي مدرّسة اللغة العربية في عدد من المدارس والمؤسسات التعليمية مثل ثانوية سيفينييه في باريس أنها لا تظن أن الحكومات الفرنسية التي تتالت عبر العقود الماضية، قد فكّرت جديةً بضرورة تعليم اللغة العربية في مدارس وجامعات فرنسا. فعلى الرغم من أن هذه اللغة هي لغة عالمية يتحدثها ملايين البشر، وقد أدخلتها الأمم المتحدة ضمن لغاتها الرسمية، لم تُتخذ الإجراءات اللازمة أو الكافية لإيصالها للمجتمع الفرنسي من خلال قطاع التربية والتعليم.
وتقول: "إن فشل الحكومة الفرنسية في توفير تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية، يدفع أبناء الجاليات العربية وبعض الراغبين في تعلمها من غير العرب إلى المساجد والجمعيات الإسلامية التي تقوم بتدريسها وفقاً للمبادئ الدينية. هذا أمر خطير جدا، خاصةً وأن عدد الطلاب المسجلين في المؤسسات غير الرسمية التي تعلّم اللغة العربية، أكثر من عددهم في المدارس الرسمية."
وتذكر صباغي على سبيل المثال، أنه في بعض مناطق ضواحي العاصمة باريس، معظم السكان هم من أبناء الجاليات العربية. وفي حين أنهم جميعهم يرغبون في تعلّم وإتقان اللغة العربية، لا توجد مدارس حكومية تمنحهم هذه الفرصة مقابل وجود عشرات الجمعيات التي توفّرها لهم.
ثم تضيف: "في الواقع، اعتماد تعليم اللغة العربية في فرنسا من قبل وزارة التربية والتعليم، أمر قائم منذ نحو 50 عاماً. لكن المشكلة تكمن في عدم وجود مدرسين يُلقنونها، لأسباب ليست فقط بالمادية وإنما بالنوعية أيضاً، إذ أنه من المهم أن يكون الأساتذة موضوعيين أو لنقل علمانيين في تدريسها وبعيدين عن تناولها دينياً. و نحن كأساتذة للغة العربية في فرنسا، نناضل يومياً ليعرف الفرنسيون حقيقة وأصالة لغتنا، ويدركون تاريخنا الثقافي والحضاري العريق. فالتعصّب والتحامل على الثقافات الأخرى منبعه الجهل، ولا يمكن دحضه إلا بالتعليم. عسى أن تعي السلطات الفرنسية هذا الأمر."
فيما يخصّ المنهج التعليمي، تشير صباغي إلى تأكيد المدرسين أن تعليم اللغة العربية كأداة تواصل (شفهي وكتابي). واعتمادهم محتويات ثقافية وأدبية محددة، مع التركيز على الجانب النحوي منها. ولطلبة المستويات المتقدمة يتم تقديم دروس البلاغة التي تستطرد في بحور اللغة.
وتقول: "بعض طلابي من أصولٍ عربية، والبعض الآخر من الفرنسيين الذين يرغبون في تعلّم اللغة العربية لاختبار أسرارها والتعرف على العالم العربي خاصةً مع الأحداث الأخيرة التي يسمعونها عنه كل يوم. وأذكر أنه بعد مشاركتنا في فعاليات معهد العالم العربي احتفاءً بيوم اللغة العربية العالمي قبل أيام، وصلتني من أحد الطلاب الفرنسيين الذين قاموا بغناء الموشحات الأندلسية وغيرها من الأغاني، رسالة قصيرة يقول فيها: "شكراً لأنك جعلتنا نكتشف هذه اللغة الجميلة."
شعب حيّ.. لغة حيّة
تحظى اللغة العربية في التعليم العالي بنسبٍ جيدة إذا تمت مقارنتها بالمدارس الحكومية. ويبيّن دكتور الفلسفة ماهر اختيار الذي يعمل في مجال تدريس اللغة العربية للفرنسيين في جامعة بوردو مونتين، أن هناك تزايداً ملحوظاً في عدد طلاب قسم اللغة العربية والآداب والحضارات في الجامعة من عامٍ لآخر، ومعظمهم من الفرنسيين إلى جانب بعض أبناء العالم العربي سواء الحاصلين على الجنسية الفرنسية ولا يتقنون لغتهم العربية، أو أولئك الذين جاؤوا إلى فرنسا في السنوات الأخيرة.
ويؤكد اختيار أن القسم بات صلة وصل ثقافية قوية بين العالمين العربي والغربي. فهو يتيح لطلبته تعلّم القراءة والكتابة والتعبير باللغة العربية، قواعد النحو والصرف، الترجمة وتدريس المنهجية في كتابة الأبحاث العلمية، بالإضافة إلى محاضرات باللغة الفرنسية في تاريخ الحضارات العربية والإسلامية، والدراسات النقدية في الشعر القديم والمسرح. وكبرنامجٍ موازٍ، ثمة دروس مسائية تستقطب طلاب الأقسام الأخرى الراغبين في تعلّم وإتقان اللغة العربية، وغالبيتهم من طلبة العلوم السياسية ومن كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية.
فلماذا يهتم الطلبة الفرنسيون بتعلّم اللغة العربية؟ يقول اختيار: "إن فهم منطق اللغة وجوانبها الثقافية والمعرفية، يساعد في فهم الكثير من الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة بشعب ما. وبالتالي فإن الفضول إزاء ما يحدث في العالم العربي اليوم وفي الشرق الأوسط بشكل عام، بات يدفع الطلاب الفرنسيين إلى تعلّم اللغة العربية والتعرّف على الأحداث والتطورات الحاصلة بعيداً عن المقالات والأخبار المترجمة التي قد تكون غير دقيقة أو موجّهة. ولعل الحراك الثوري الشعبي العربي، قد نجح في إعلان أنه ما زال على قيد الحياة وأن لغته حيّة تستحق الانتشار في جميع أنحاء العالم.
"من جهةٍ أخرى يوجد طلاب فرنسيون يتعلّمون اللغة العربية لأنهم يحبونها بكل بساطة ويريدون أن يمتهنوا التدريس أو الترجمة مستقبلاً. كذلك هناك طلاب في القسم من دول اخرى مثل روسيا وألمانيا وهولندا، يرغبون في التخصص في الترجمة من خلال إتقان أكثر من لغة."
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا أريد أن أنساها..
وتحدّثنا الطالبة المغربية آية بوزبع (19 عاماً) التي تدرس في الأقسام التحضيرية في باريس، أنه في ظل نظام تعليمي يجبر الطالب على اختيار لغتين إضافيتين كمواد دراسية إلى جانب اللغة الفرنسية، اختارت اللغة العربية لتكون الأولى والإنجليزية الثانية. مشيدةً بالقرار الحكومي الذي سمح بتدريس العربية في المنهاج الفرنسي، حيث استطاعت أن تحتفظ بلغتها الأم وتعلّمها أكاديمياً وأدبياً.
وتقول: "لغة الضاد متجذرة في عائلتي ولها مكانتها التي لا تنافسها عليها لغة أخرى. جدي وجدتي كانا مدرسين للعربية وأنا أرغب في الاستمرار في تعلّمها وفهم أسرارها العميقة، ولا أريد أن أخسرها أو أنساها أثناء وجودي في فرنسا."
يتعلّمونها ليساعدوننا
بسبب الهجرات الأخيرة من بلدان العالم العربي إلى الدول الأوربية ومن بينها فرنسا، ظهرت الحاجة إلى تعلم اللغة العربية لدى بعض الفرنسيين، ليس من أجل التعرف على حقيقة الأحداث فقط، وإنما ليتمكّنوا من تنظيم آلية اللجوء والإقامة على الأراضي الفرنسية.
في هذا الشأن، تقول السيدة سامية منصور الفرنسية من أصل تونسي التي تعمل في منظمة الـ OFI في مدينة ليل كمدرسة لغة فرنسية، إنها صارت متميزة بين زملائها وعند رؤسائها في العمل بسبب معرفتها باللغة العربية. فهي تعمل بشكل يومي مع اللاجئين ومع طالبي اللجوء السوريين والعراقيين والسودانيين وغيرهم من حملة الجنسيات العربية الذين يحتاجون مبدئياً إلى التواصل مع الجهات والمنظمات الحكومية بلغتهم الأم. الأمر الذي يختصر المسافات بين جميع الجهات، ويحلّ العديد من الأزمات كما أنه يسهم في خلق بدايات للتواصل الثقافي والحضاري ريثما يتقن المهاجرون الجدد اللغة الفرنسية.
وتضيف: "أخبرني الكثير من زملائي في العمل عن رغبتهم الجادة في تعلم اللغة العربية حتى لو لم يكونوا يملكون الوقت الكافي لها. فعدا عن كونها ستساعدهم في عملهم مع اللاجئين العرب، صارت لديهم رغبة ملحّة في التعرّف على الثقافة العربية واستكشاف أشكالها المتنوعة، فضلاً عن رغبتهم في استيعاب أزمات العالم العربية السياسية والعسكرية في السنوات الأخيرة."
أيضاً، تؤكّد وجود عدة مراكز وجمعيات تعلّم لغة الضاد في مدينة ليل؛ وهي أول مدينة في فرنسا تعلّم المنهاج الفرنسي إلى جانب اللغة العربية والقيم الإسلامية كمواد رئيسية في مدرسة Averroes (ابن رشد) الثانوية التي حققت نجاحاً في نسب البكالوريا، واحتلت المرتبة الأولى عدة مرات في فرنسا.
علاقة من نوع آخر
يبدو أن العلاقة بين اللغة العربية والفرنسيين لها أبعادها الكثيرة من وجهة نظر بعض الخبراء والباحثين اللغويين. فحسب الباحثة اللغوية هنرييت فالتر في كتابها L'aventure des mots français venus d'ailleurs(وقائع الكلمات الفرنسية القادمة من بعيد) فإن من بين ما يقارب الـ 4192 كلمة فرنسية ذات أصل أجنبي، يوجد نحو (250 ـ 270) منها ذات أصل عربي. أي ما يقارب الـ 6.5 في المئة من الكلمات ذات الأصل الغير فرنسي. وتؤكّد أن الكثير من هذه المصطلحات هي علمية.
كذلك أوضح الأكاديمي جون بريفو أستاذ المعاجم وتاريخ اللغة في جامعة سيرجي بونتواز في لقاء معه عبر قناة فرانس 24 عن كتابه "أجدادنا العرب.. ماتدين به لغتنا لهم" أن عدد الكلمات العربية في اللغة الفرنسية تأتي في المرتبة الثالثة بعد الإنكليزية والإيطالية، متقدّمة على البرتغالية والإسبانية. وأن هناك ستة مداخل غذّت اللغة الفرنسية بمصطلحات عربية، هي: أولاً: الحروب الصليبية التي كانت محطة اكتشاف حضارة نقية وطرق تجارية لم تكن معروفة من قبل، ثانياً: الفتوحات العربية في إسبانيا، ثالثاً:المدخل العلمي من خلال أعمال ابن سينا وابن رشد وقرطبة، حيث بدأ في هذه المرحلة سيل الكلمات بالتدفق، رابعاً: المدخل التجاري، خامساً: المدخل الاستعماري عبر الحروب ثم حملات إنهاء الاستعمار وأخيراً المدخل السادس وهو موسيقى الراب.
ضمن ذات الخصوص يقول المؤرّخ والأديب اللبناني فيليب دي طرازي في كتابه "اللغة العربية في أوروبا": "لم يغمض ملوك الفرنسيس عن الاعتناء باللغة العربية، بل نهجوا في تعزيزها نهج ملوك إسبانيا وصقلية، فأنشأوا في باريس عاصمتهم مدرساً عاماً لتعليمها منذ أواسط القرن الثالث عشر للميلاد. هكذا اندمجت في لغة الفرنسيس وفي سائر لغات أوروبا ألفاظ عربية كثيرة ولا سيما في العلوم البحرية والطبية، وغير خافٍ أن الطب العربي كان أساس علم الطب عند الفرنسيس أخذوه مع كثير من الفاظه. وأثبت المستشرق العلامة الأب هنري لامنس أن اللغة الفرنسية استعارت نحو 900 لفظة من اللغة العربية، واستعملتها وأدخلتها رسمياً في معاجمها".
العربية والتاريخ في فرنسا
تحكم العالم العربي وفرنسا منذ قرون، علاقة قوية وحميمية تقوم على أسس ثقافية واقتصادية وسياسية أدّت إلى انجذاب الفرنسيين إلى تعلم اللغة العربية راغبين في استكشاف سحر الشرق وحكايا ألف ليلة وليلة وغيرها من حكايا تاريخنا القديم. ومن دون شك، ثمة أسباب أخرى نعلم جزءاً منها، في حين ينبغي علينا العودة إلى التاريخ لفهم ما تبقى.
وفي العام 2008 ظهرت دراسة عن الاستسشراق في فرنسا أعدّها هنريث لورانس الذي يشغل كرسي التاريخ المعاصر في العالم العربي في الكوليج دفرانس أن تعليم اللغة العربية بدأ منذ القرن السابع عشر فيما كان يعرف بـ "الثانوية الملكية" في باريس لفهم وجهة نظر الكنائس الشرقية في الخلاف الديني بين الكاثوليك والبروتستانت. ومع توسّع النزعة الإنسية في عصر النهضة الأوروبي، تمّ الانتقال من فكرة الأدب الأوروبي إلى مفهوم الأدب العالمي الذي بات يلتفت إلى الكتابات الشرقية والعربية. ثم ما أن استفحل الاستعمار الغربي لبلاد العالم العربي في القرن التاسع عشر، تبلورت فكرة تعليم هذه اللغة من جديد بهدف سرعة اندماج السكان المحليين مع القادم الفرنسي. كذلك ينتقل إلى مرحلة ثالثة بدأت مع سبعينيات القرن العشرين، مع الهجرات العربية المتدفقة إلى فرنسا، إذ كان لا بدّ من تعليم المهاجرين لغتهم الأم من أجل سهولة الاندماج أيضاً.
في النهاية إننا في حقيقة الأمر لا نستطيع تحديد متى بدأ الاهتمام باللغة العربية في فرنسا أو تعلّمها بصورةٍ دقيقة. فالمراجع كثيرة ومتضاربة. وفي الوقت نفسه هناك أحداث عديدة تدعمها الشواهد التاريخية عن بدايات لغة الضاد في في المجتمع الأوربي والفرنسي.