قبل 30 سنة تقريباً، انسحب الإتحاد السوفياتي السابق من أفغانستان بعد نحو عقد من الزمن أمضته قواته في ذلك البلد الذي لطالما تحوّل مستنقعاً بالغ الصعوبة لأي قوة غازية. وبعدما دخلت القوات السوفياتية في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1979 لدعم الحكومة الموالية لموسكو في كابول، وُجِهَت بمقاومة أفغانية شرسة من "ثوار" مسلحون ومدعون من قبل الولايات المتحدة وباكستان بشكل أساسي. واعتمد هؤلاء "الثوار" تكتيكاً مراوغاً وضع القوات السوفياتية بمواجهة المدنيين الأفغان، خصوصاً بعد فشل موسكو في استقطاب شريحة واسعة من الشعب الأفغاني. وأخيراً وبعد سنوات طويلة من القتال الدامي والخسائر الكبيرة في الأرواح من الطرفين، أعلن الاتحاد السوفياتي انسحاب كافّة قواته بشكل رسمي من أفغانستان في 15 فبراير (شباط) 1989، مانحاً الولايات المتحدة انتصاراً سيتضح فيما بعد أنه موقت في إحدى أبرز معارك الحرب الباردة. أما اليوم، وبعدما حلّ الجيش الأميركي مكان السوفيات كقوة غازية لأفغانستان في العام 2001، إثر عملية 11 سبتمبر (أيلول) الشهيرة التي استهدفت برجَي التجارة العالمية في نيويورك ومقر وزارة الدفاع الأميركية على يد تنظيم "القاعدة"، تبحث الولايات المتحدة التي فشلت خلال 17 سنة في القضاء نهائياً على تمرّد "حركة طالبان" الأفغانية وإرساء دعائم حكم قوي موالٍ لها في كابول، عن مخرج يضمن لها خروجاً مشرفاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحرب تمهيداً للتفاوض
وبعدما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 21 أغسطس (آب) 2017، أرسال آلاف الجنود إلى أفغانستان بهدف الضغط عسكرياً على "طالبان" ودفعها إلى القبول بالمفاوضات، شهدت الأشهر التي تلت قراره، شنّ مسلحي الحركة هجمات عدة استهدفت القوات الحكومية الأفغانية وكبّدتها خسائر كبيرة. وضاعفت الولايات المتحدة ضرباتها الجوية ضد المتمردين، بينما بدأت في صيف العام 2018، محادثات سرية مباشرة مع ممثلين لـ "طالبان" في العاصمة القطرية الدوحة، حيث تمتلك الحركة مكتباً. ويبدو أن إعلان ترمب في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عزمه سحب نصف 14 ألف جندي أميركي منتشرين في أفغانستان، دليل على تقدم تلك المحادثات. وأعلن المبعوث الأميركي زلماي خليل زاد بعد التفاوض لستة أيام متتالية في نهاية يناير (كانون الثاني) 2019، أن مفاوضات السلام تسير "على الطريق الصحيح" وتحدث عن التوصل إلى "اتفاق مبدئي". أما الرئيس الأفغاني أشرف غني دعا "طالبان" إلى "بدء مفاوضات جدية" مع حكومته، لكن الحركة رفضت دعوته بشدة، مؤكدةً أنها لا تريد التحدث إلى مَن تعتبرهم "دمية" بيد الولايات المتحدة.
التحضير للخروج
في سياق متصل، تبدو زيارة وزير الدفاع الأميركي بالوكالة باتريك شاناهان إلى أفغانستان الإثنين، بمثابة خطوة إضافية على طريق التحضير للخروج من ذلك البلد، بعد دخوله في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2001، بعد أقل من شهر من اعتداءات 11 سبتمبر، حين أطلق الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش عملية "الحرية الدائمة"، بعدما رفض نظام "طالبان" تسليم زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن. وأطاحت القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة في غضون أسابيع، نظام "طالبان" الذي حكم البلاد منذ العام 1996. وفي وقت شنّت الولايات المتحدة غارات جوية على مواقع الحركة، قدمت الدعم إلى "تحالف الشمال" الأفغاني المناهض لـ "طالبان"، عبر مساهمة فرق شبه عسكرية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية (سي أي إيه) في المعارك على الأرض. إلا أن أنظار واشنطن سرعان ما تحوّلت عن افغانستان في العام 2003 مع اجتياح العراق وإطاحة نظام صدام حسين، فاستغلت "طالبان" وغيرها من الجماعات المتشددة ذلك الوضع المريح نسبياً وأعادت تجميع صفوفها في معاقلها في جنوب وشرق أفغانستان، حيث أمكنها أن تنتقل بسهولة عبر الحدود من وإلى المناطق القبلية الباكستانية. وشنّت "طالبان" منذ ذلك الحين وحتى اليوم، هجمات موجعة ضد القوات الدولية والحكومية، ما أجبر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في العام 2008 على نقض وعد انتخابي كان قطعه خلال حملته الانتخابية بسحب قواته من أفغانستان، فأرسل تعزيزات عسكرية بلغ على أثرها عديد الجنود الأميركيين هناك 100 ألف جندي تقريباً، وذلك تنفيذاً لاستراتيجية فعّالة ضد الحركة ودعماً للمؤسسات الأفغانية. فهل ستنجح الولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق مع "طالبان" يحفظ لها ماء الوجه بعد 17 عاماً من المعارك والقتلى؟ وما سيكون مصير حلفاء واشنطن في كابول بعد مغادرة آخر جندي أميركي رمال أفغانستان المتحركة؟