ربما أصبحت غابات رومانيا المثالية، التي تحتضن أكبر مجموعة من الغابات البكر والعريقة في أوروبا، الموقع غير المتوقع لسلسلة من جرائم القتل تقف فيها "مافيا الخشب" في مواجهة من يحاولون حماية هذه النظم الإيكولوجية القديمة.
تمتد "غابات الأمازون الأوروبية" هذه على مساحة تبلغ حوالى 7 ملايين هكتار. ويتألف قرابة نصف مليون من تلك المساحة من غابات عريقة تعد مأوى لأكبر تجمع للدببة البنية الموجودة في القارة، والحيوانات آكلة اللحوم مثل الذئاب والوشق.
لكن هذه البريّة البكر إلى حد كبير تتعرض لتهديد قطع الأشجار غير المرخّص، وباتت غارقة الآن في معركة تنطوي على العنف والفساد، بلغت ذروتها مع مقتل إثنين من حراس الغابات.
قُتل حارس الغابة ليفيو بوب الذي كان يبلغ من العمر 30 عاماً عندما لقي مصرعه رمياً بالرصاص قبل أسبوعين، أثناء تحقيقه في تقرير عن قطع غير قانوني للأشجار في "ماراموريس" بشمال رومانيا. كان بوب، الأب لثلاثة أطفال، هو الحارس الثاني الذي يُقتل في فترة تتجاوز الشهر بقليل. وفي سبتمبر ( أيلول)، تعرض رادوكو غورشوايا (50 عاماً) للضرب حتى الموت في منطقة غابات "باسكاني". وقد ترك وراءه ثلاثة أطفال أيضاً.
يبدو أن جرائم القتل قد أعادت القضية إلى الاهتمام من جديد. وعمد حوالى 4 آلاف محتج إلى التظاهر في شوارع بوخارست خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي. وهتف الكثيرون "لصوص، لصوص!"، بينما حمل بعضهم لافتات كانت تشير إلى مطلب مباشر، "أوقفوا مافيا الخشب!"
لا شك في أن عمليات القتل الوحشية قد جعلت حراس الغابات خائفين على حياتهم ، بينما تواصل الشرطة التحقيق في الحادثتين. إذ أُلقي القبض على ثلاثة أشخاص في قضية غورشوايا، وهم رجل يبلغ من العمر 50 عاماً ومراهقان، ولا تزال التحقيقات جارية. وقد وردت أنباء عن خضوع إثنين من المشتبه بهم في قضية بوب لاختبارات كشف الكذب، وينتظر المدعي العام النتائج.
وقد دعا المدافعون عن البيئة الذين يقفون وراء الاحتجاج، الحكومة إلى زيادة الإجراءات لحماية الغابات ووضع حد للعنف. ويوضح سيبريان غالوسكا، منسق "حملة السلام الأخضر" في رومانيا، "لقد خسرنا حوالى 140 ألف هكتار من الغابات البكر العريقة على مدار السنوات الإثنتي عشرة الماضية ، ومن المحتمل أن العنف سيستمر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يريد النشطاء أن تستأنف الحكومة على وجه السرعة استخدام نظام التتبع عبر الأقمار الاصطناعية لرصد الغابات المختفية. ومن شأن هذه التقنية أن تكتشف عمليات القطع غير القانونية، وفقدان الغطاء الحرجي، واقتفاء عمليات نقل الأخشاب وتنبيه السلطات بشكل أوتوماتيكي.
انطلق استخدام هذه التقنية في أواخر 2016، لكنه توقف بشكل مفاجئ في أوائل 2017 بعد أن زعمت الحكومة أنه تسبّب في إنذارات كاذبة كثيرة. لكن واقع الأمر، وفق نشطاء البيئة يتمثّل في أن التكنولوجيا ستنهي قطع الأشجار غير القانوني. ووفق كلمات غالوسكا، "يدرك الناس أن الغابات الجميلة تختفي أمام أعيننا بطريقة دراماتيكية بالفعل، ونحن بحاجة إلى إيقاف هذا لأنها جميعها في خطر".
في المقابل، تعهد وزير البيئة الروماني الجديد، كوستيل أليكس، في بيان هذا الأسبوع ببذل كل ما في وسعه لإنهاء قطع الأشجار غير القانوني. وأشار أيضاً إلى إن حراس الغابات يجب أن يكونوا مُجهَّزين كي يستطيعوا منع وقوع مزيد من عمليات القتل على أيدي "لصوص الأخشاب".
في ذلك الصدد، تتعرض غابات رومانيا التي يقع قسم كبير منها في جبال الـ"كاربات"، للاختفاء بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً في السابق. وكشفت بيانات سُرّبت مؤخراً من "السجل الوطني للغابات"، وهو تقرير حكومي يمتد على مدى 10 سنوات، عن قطع 38 مليون متراً مكعباً من الخشب سنوياً من غابات البلاد، و20 مليون متراً مكعباً منها قُطعت بشكل غير قانوني.
وتُقدّر القيمة المادية الإجمالية للعشرين مليون متر مكعب من الأخشاب التي قُطعت بشكل غير قانوني، وقد سجلت السلطات 1 في المئة منها أو ما يساوي 200 ألف متر مكعب، بحوالى مليار يورو.
وزاد هذا الإحصاء المقلق غضب المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع يوم الأحد، بالتزامن مع مظاهرات "فورست مارش" [= "مسيرة الغابات"] التي نظمتها الجاليات الرومانية في بروكسل ومدريد ولندن.
وعن ذلك الأمر، تتحدث أنكا جورجيو، البالغة من العمر 35 سنة، ومُنظِّمة تظاهرة لندن التي عُقدت بجوار "المعهد الثقافي الروماني" في منطقة "نايتسبريدج" وجذبت عشرات المشاركين. ووفق كلماتها، "هذا احتجاج تضامني مع "مسيرة الغابات" في رومانيا، يهدف إلى نشر الوعي على المستوى الدولي بدافع القلق الشديد من فقدان الغابات البكر والعنف ضد المدافعين عن الغابات... نعيش في زمن وصلت الأزمات البيئية حداً غير مسبوق، وراحت البلدان تعلن حالات الطوارئ المناخية، بينما في رومانيا، يحدث قطع الأشجار غير القانوني والتحطيب في المتنزهات الطبيعية بشكل أسرع من كل وقت مضى".
في الأسبوع الماضي، أُرسِل خطاب مفتوح وقعته أكثر من 40 منظمة غير حكوميّة إلى رئيس رومانيا كلاوس يوهانيس وحكومته. ودعا الخطاب كلا الطرفين إلى التنديد العلني بجرائم قتل حُراس الغابات. كذلك دعا الخطاب الحكومة الرومانية إلى "اتخاذ إجراءات ملموسة لتفكيك شبكة "مافيا الخشب" الرومانية".
في 2018، تعرض حارس الغابات ليونتين ماليتا الذي كان في سن الرابعة والخمسين آنذاك، للضرب المبرح على يد مجموعة من الرجال وتُرك ليواجه الموت أثناء محاولته حماية الغابات في مقاطعة "تيميس" في غرب رومانيا. وأمضى شهرين تقريباً في المستشفى، ولا يزال يناضل من أجل تحقيق العدالة. هناك مشتبه فيهم لكنه يشكو من أن قضيته تسير ببطء.
ونقل ماليتا إلى "الاندبندنت" أن "الخوف يدفع حراس الغابات إلى غضّ طرفهم عن المخالفات [في النظام] .. إن أكبر مخاوف [الحراس] هو على حياتهم والخوف الثاني يتجسّد في أنهم سيفقدون معاشاتهم".
يزعم ماليتا أن العنف ضد حراس الغابات غالباً ما يحدث عندما يفشل عمال الغابات في اتباع أوامر من رؤسائهم، مدعياً وجود فساد عميق في قطاع الغابات. كذلك يعتقد أن الشرطة تتعاون جنباً إلى جنب مع القطع غير القانوني للأشجار، إضافة إلى بعض الحراس، في نظام غض الطرف المتواطئ. ويضيف، "يحمي الجميع في النظام بعضهم بعضاً".
ويشار إلى أن حراس الغابات ليسوا الوحيدين الذين يعيشون في خوف مما يسمى "مافيا الخشب". وبحسب غالوسكا من "منظمة السلام الأخضر"، "يخشى الناس التحدث عن قطع الأشجار غير القانوني بسبب ارتفاع مستويات الفساد" في عدد من القرى في جميع أنحاء رومانيا. ويضيف، "إن الحديث يوّرط الكثير من الناس".
من بين الأشخاص الذين أشارت لهم أصابع الاتهام الأولية في قضية قتل بوب هو ابن شقيق المدعية العامة الرئيسة للمقاطعة. ويزعم أحد السكان المحليين أن المشتبه فيه سلم الحطب إلى منزل خالته بعد يوم من جريمة القتل. ونقلت والدة بوب إلى وسائل الإعلام المحلية إن أسرتها تخشى على سلامتها، وإنها قلقة من ألا يُحاسَب أحدٌ على وفاة ابنها.
في الأسبوع الماضي، عمد "اتحاد نقابات سيلفا" الذي يمثل شركة "رومسيلفا" لإدراة الغابات في رومانيا، التي تملكها الدولة وتدير نصف غابات البلاد تقريباً، إلى تنظيم تظاهرة شارك فيها 200 شخص خارج البرلمان في بوخارست احتجاجاً على وفاة زملائهم. وتدعو النقابة إلى تسليح حراسها الذين يفوق عددهم 16 ألف حارس بالبنادق، لكن ماليتا يعتقد أن مزيداً من الأسلحة سيزيد دورة العنف تعقيداً.
في الوقت الحالي، يظل السباق من أجل إنقاذ آخر البراري البكر في أوروبا محفوفاً بالمخاطر. ويختتم جورجيو حديثه، "الناس يموتون في بلد ضمن الاتحاد الأوروبي... يجب أن يتوقف ذلك الأمر، فلم يعد لدينا متسع من الوقت".
© The Independent