أشهد أن محمد من أصيح
الميت بقبره يرد يمه (جنبه) عدل (حي)
أنا حامل لي قضية
وبيها موت وبيها ريحة مشنقة وريحة قتل
ما أخافن ما أخافن ما أخافن
ولا بحق اسم النضال
وفخر عندي يتعلق برأسي الحبل
هذا صوت الراحل حسن الحيدري، الذي صدح بشعره الرشيق في ربوع أرض عربستان، مستخدما القصيدة كسلاح في نضاله، ليحمل على أكتافه قضية شعب يناضل من أجلها منذ تسعة عقود ضد سلطة فارسية متغطرسة، لا تأبه بأي شيء من أجل سحقه، وانتهاك حقوقه القومية والتاريخية. فمنذ أربعة أجيال ولا يزال نار القضية متوهج في قلوب الشعراء والمناضلين الأهوازيين.
وقد تنبأ حسن بحسه الشاعري المرهف، وفي كلام لا لبس فيه بموته؛ إما مشنوقا وإما مقتولا، وإيرانه لا يأبه بذلك، كما لم يأبه قبله بمناضلين شعراء كمحيي الدين آل ناصر، أو شعراء مناضلون كهاشم الشعباني وستار الصياحي. فهو يُقسم بالكفاح، مدافعا عن تراب وطنه وأنهاره ونخيله وكرامته، يقسم ليستمر في النضال أمام الجاثمين على صدر وطنه. والحق يقال إنه كان خير مدافع عن قلعة الضاد وشعبها في عربستان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعند شعب يرزح تحت استعمار داخلي، ويحرم من نشر أدبه وثقافته بحرية ويواجه تمييزا عرقيا ممنهجا، لا يبقى للشاعر الملتزم بقضايا شعبه بدا إلا أن يتوسل بأدب لا يمكن حجزه، ولا فرض الرقابة عليه وهو الأدب الشفهي، وهنا يلعب الشعر عامة، والشعر الشعبي خصوصا دورا بارزا ليسد فراغ الرواية والمسرح والرسم والنحت والموسيقى شبه الممنوعة في إقليم عربستان. إما أن تدير ظهرك لشعبك وثقافتك العربية وتنحت وتعزف وتكتب بالفارسية، وإما أن تُحرم من كل الإمكانيات الحكومية وغير الحكومية، بل وتُحارب إذا أنشدت شعرا يتحدث عن طموحات شعبك وعن وحشية المستعمر، الذي يذبح بالقطنة تارة ويقتل بالسُم تارة، وتحت التعذيب وعلى المشانق تارة أخرى. فها هو ديوان العرب التاريخي الذي كان يُحفظ عن ظهر قلب وجاء الموبايل ليساعد على حفظه ونشره بعيدا عن عيون البوليس السياسي والرقيب الحكومي. وكان هذا الشعر ملجأ روحيا ومرهما لجروح الأهوازيين منذ أن فقدوا سيادتهم على أرضهم وثرواتهم في الربع الأول من القرن العشرين.
قلب الأهوازي حل مكان المكتبات التي حُرمنا منها، خلافا للشعوب العربية التي نالت سيادتها واستقلالها؛ وحلت العصامية في تعليم لغة آبائنا، مكان التعليم في المدرسة التي صادرها المستعمر وغرس ودرّس لغته فيها.
اصيحن: لا
صاحوا: اي اي اي !
اصيحن: اي
صاحوا: لا
هيچ (هيك) بعكس (بالعكس) يردوني
بس احچي (احكي) يذبحوني
مثل ذبحة شخص قاتل سبع خوّان
هيچ وداعتك لمّن (عندما) يكضوني (يعتقلوني)
وكون (يجب) بخيط أخيط حلقي وعيوني
وكون الشفته (الذي شفته) لاگوله (لا أقوله)
وكون بفاتحة عريس مامش (لايكون) لطم، هلهوله (زغرودة)
يردون يبچوني (يبكوني)
واحط (اضع) الروح، مرجوحة، ويقطعوني
واظل (ابقى) ساكت لحد ماتمشي شمس الله وترد اردود نفس السكتة يلقوني
بس احچي (احكي) يذبحوني
وموش بكيفي (لست بارادتي) من احچی (احكي)
وبدال الضحك كون ابچي (ابكي)
واحط اذنوبي فوق اقفاي حد ما تهدل متوني
بس احچي يذبحوني
خرس، بس بضمير الصوت اعاتب مَن واقل المَن (لمن):
عدل (حي) بس بي ريحة موت، لكن مايفهموني
بس احچي يذبحوني
واعيش بذلة يردوني
وانا ابن اُمي
وقلت هو اليعيش (الذي يعيش) يموت
آخذها ردح من يمي (جنبي) للتابوت
وفنهم (اذا استطاعوا)، لو لايلاقوني
انا الشايل (حامل) شهامة وغيرة الثوار
انا براسي قضية كربلا وانصار
انا الربوني (الذين ربوني) مو غمان (جبناء) بل شجعان ربوني
انا براسي محمد شايله (حامله) من اسنين (منذ سنوات)
محمد والصحابة بعيني ما ميتين
واتذكر بلال شما يعذبوني (كلما عذبوني)
بلال وياسر وعمار
اصيرن – ها – مثلهم
اظل (ابقى) بصفحة التاريخ باچر (بكرى) من يعدموني
اظل ابصفحة التاريخ باچر من يعدموني
واعيش يذلة يردوني
بس احچي يذبحوني
شگل (ماذا أقول) الحيدر وفاروق باچر من يسألوني
قصيدة بسيطة لا لبس فيها، ولا صور شعرية معقدة، تتقرب في شكلها إلى الشعار ولا تخاطب المثقفين والأكاديميين، بل تخاطب الناس البسطاء في المجتمع الأهوازي المحرومين من القراءة والكتابة بلغة أمهاتهم - لغة الضاد - بسبب منع السلطة الفارسية المعادية لثقافتهم ولغتهم وأدبهم. فهم يرون في كلامه تعبيرا عن تحدي شاعر حمل روحه على كفه – كما يقول سميح القاسم - لسلطة فرضت عليهم ولعقود طويلة، الظلم والإساءة والتحقير الإثني والاضطهاد القومي. هو يريد أن يلهب نار الوعي السياسي بين الجماهير التي تفضل الأدب الشفهي على الأدب المكتوب.
ونقرأ في قصائده، كابوس اليقظة أي التعذيب وهاجس الموت والإعدام لعلمه بمدى وحشية أزلام النظام الإيراني في الأهواز في التعذيب وقتل المناضلين حتى لو كان سلاحهم القلم والقرطاس. كما يحفر في عمق التاريخ ليتشبث بمحمد بل وبرموز إسلامية يعتبرها جزءاً من تاريخ شعبه القومي. ويستمد الشجاعة من أسلافه ليعمل درعا واقيا لكرامته العربية في بلد لا يولي أي احترام لها، بل ويحقرها بشكل شبه يومي في إعلامه وخطابه القومي المشفوع بالاستعلاء والعنصرية الفارسية.
فيمكن مقارنة قصائد حسن الحيدري وستار الصياحي، الشاعر الذي قتل في العام 2012، بقصائد لشعراء شعبيين في فلسطين الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي قبل أن يظهر توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وشعراء الفصحى الآخرون. فهذا لا يعني أنه لا يوجد شعر حر وقصيدة نثرية في عربستان، بل إنها لم تستطع حتى الآن أن تنفذ إلى العمق الجماهيري في الإقليم كما هي القصيدة الشعبية.
الأرض، الثيمة الرئيسة في شعر الأهوازيين وشعارهم. "بالروح بالدم نفديك يا أهواز، و"اكتب بالدم أنا أهوازي"، هي شعارات وهتافات رددتها ألوف الجماهير يوم الاثنين عند تشييع جنازة الراحل حسن الحيدري، بل تُردد دوما في العاصمة، وكل مدن الإقليم في معظم المظاهرات والاحتجاجات القومية.
هذا يعني أن الشعب العربي الأهوازي يشعر بخطر داهم وهو زحف الفرس لالتهام أرض آبائه وأجداده في المدينة والريف على حد سواء. وقد تجاوز النظام الديني الشوفيني في إيران مما فعله النظام الشاهنشاهي في هذا المجال. يشعر هذا الشعب أن قوة غاشمة تتمترس في طهران، تخطط ليل نهار لمصادرة أراضيه وتدمير تراثه الحضاري وهذا ما تم ويتم بالفعل.
وقد حولت الجماهير الأهوازية أي مناسبة تتعرض فيها لإساءة كرامتها العربية من طهران أو اغتيال أو وفاة شعرائها ونشطائها المخلصين، حوّلتها إلى مظاهرات واحتجاحات، بما فيها ما شاهدناه من اجتماع جماهيري كبير يوم الاثنين الماضي؛ حيث بلغ عدد المتظاهرين نحو 10 آلاف شخص في ظروف لم يستطع أي حزب أو شخصية معارضة في إيران - المحكومة بقبضة الحرس والأمن الحديدية - أن تجمع مثل هذا العدد الهائل في الشارع. والسلطة الإيرانية كعادتها قامت باعتقال المئات من المشاركين في تلك المظاهرات بمن فيهم الفنان القومي البارز عباس إسحاقي.
قتل شاعرنا بجرعة سُم، لكنه منح بموته المفاجئ شعبنا، جرعة حياة قوية.
ويتفاعل الشارع العربستاني عادة مع الساحات العربية من المحيط إلى الخليج بسبب اشتراكه اللغوي مع الشعوب العربية، وهذا ما يميزه من سائر الشعوب في إيران. إذ شاهدناه في عام 2011، ونشاهد حاليا تأثير ما يحدث من حراك جماهيري في الجزائر والسودان والعراق، الذي تربطنا به وشائج كثيرة، على نضال الشعب العربي الأهوازي.