كان الرئيس اللبناني الراحل شارل حلو يقول "لا أعرف ما يحدث غداً، لكنني أعرف ما يحدث بعد غد". وهذا ما ينطبق على القراءة المتأنية في الانتفاضة الشعبية الحالية. الانتفاضة التي فاجأت بنوعيتها وشموليتها حتى الحالمين بين اللبنانيين، وصدمت الحاكمين المراهنين على حماية العصبيات الطائفية والمذهبية لهم مهما فعلوا بالبلد وغرقوا في الأزمات وأغرقوه في الصغائر وارتكبوا الكبائر. فلا أحد يعرف ماذا يحدث غداً على المدى القصير، سواء استمر المسؤولون في المكابرة أو تعلموا شيئاً من دروس انتفاضة الغاضبين منهم جميعاً، وهذا يبدو صعباً. إذ ترى المؤرخة الأميركية بربارة توخمان "إن المسؤولين لا يتعلمون شيئاً أبعد من الاقتناعات التي يجلبونها معهم، وهي الرأسمال الوحيد الذي يستهلكونه من المنصب".
وسواء استقالت حكومة الرئيس سعد الحريري، كما يطالب المحتجون، أو قادت التطورات إلى مطالب أبعد من الانتخابات النيابية المبكرة لجهة الجمهورية والنظام. ففي السلطة حالياً من يقلدون موسوليني القائل "أعداء كثر... شرف أكثر"، من دون أن يتذكروا كيف انتهى الدوتشي معلقاً من رجليه بأيدي الشعب، وبعضه كان يصفق له.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن ما يحدث بعد غدٍ، على المدى المتوسط أو الطويل صار من التوقعات لدى من يقرأون التاريخ، وعلى طريق الوقائع لدى من لديهم رؤية مستقبلية. فما فعلته الانتفاضة العابرة للطوائف والمذاهب ليس مجرّد "تمرّد" الشباب على أمراء الطوائف بمقدار ما هو بداية مسار كان مغلقاً نحو الدولة المدنية.
وما أكّدته برفض "الرشوة الإصلاحية" التي لوّح بها مجلس الوزراء هو ربط الإنقاذ المالي والاقتصادي الحقيقي بالتغيير السياسي الجذري. والمسار طويل، ولا تراجع عنه مهما حدث. حتى محاولات السلطة لإخراج الناس من الساحات والشوارع بكل الوسائل الممكنة، فإنه لن يحلّ مشكلة السلطة. ولن يوقف المسار الديمقراطي. إذ صار نزول الناس إلى الشارع. في كل المناطق ومن كل الطوائف والمذاهب ولأيام وأشهر، قابلاً للتكرار كلما احتاج الأمر. ومع الوقت يبتكر المحتجون وسائل التنسيق. ويراكمون الخبرة ويطورون خطة العمل لتحقيق خريطة طريق تصبح مرسومة لا خطوة في المجهول.
وقبل سنوات، جرى كثير من الأخذ والرد على دعوة إلى "مؤتمر تأسيسي" لإعادة تكوين النظام لا فقط السلطة. كانت الدعوة، كما قيل، تعبيراً عما يفكّر فيه حزب الله وحلفاؤه. والفكرة التي كثر نفى التفكير فيها. هي أن نظام الطائف صار ضيقاً على الطائفة الشيعية وعلى قوة "حزب الله" الذي دحر الاحتلال الإسرائيلي للجنوب. والوقت حان للانتقال من المناصفة في تقاسم السلطة بين المسلمين والمسيحيين، إلى "المثالثة"، ثلث للشيعة وثلث للسنة، وثلث للمسيحيين الذين صاروا ثلث عدد اللبنانيين. لكن تحقيق هذه الفكرة كان محل خلاف كبير، ويحتاج إلى حرب أهلية جديدة بعد الحرب التي قادت إلى اتفاق الطائف. كذلك الأمر بالنسبة إلى فكرة أخرى في ذهن فريق مسيحي هي تعديل الطائف في اتجاه استعادة بعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية الماروني. والرد على الفكرتين كان الإصرار على التمسك بالطائف وتطبيقه وتطويره.
والواقع أن تطبيق الطائف انتقائياً بما يخدم أهداف الراعي السوري، وبعد ثلث قرن على اتفاق الطائف، فإن ما حدث هو السير في الاتجاه المعاكس لما رسمه الاتفاق. وبدل إكمال مسار الطائف من المخرج الأمامي الذي هو تجاوز الطائفية لإلغاء الطائفية السياسية لقيام الدولة المدنية، جرى اختيار المخرج الخلفي والانتقال من الطائفية إلى المذهبية. وما ساعد على ذلك الأجواء في المنطقة التي يتأثر بها لبنان سلباً وإيجاباً. والثورة الشعبية هي، إلى حد ما "المؤتمر التأسيسي الآخر". لماذا؟ للعودة بقوة الشعب إلى المسار الذي رسمه الطائف وانحرف عنه أمراء الطوائف. مسار تجاوز الطائفية لإلغاء الطائفية السياسية وبناء الدولة المدنية.
ولا يبدل في الأمر أن نحتاج إلى وقت طويل لتحقيق ذلك. فالمهم البداية الصحيحة التي تقود إلى النهاية الصحيحة للمسار.
ونحن الآن ننضم إلى الموجة العربية والعالمية من الانتفاضات الشعبية. فالطابع الغالب للتغيير في القرن الـ 20 كان الثورات المسلحة، بصرف النظر عن الإيديولوجيا التي تحركها. وهي صارت خارج الفعل بعد نهاية الحرب الباردة وادعاءات "نهاية التاريخ". والساعة دقت في القرن الـ 21 للثورات الشعبية السلمية. وكانت منها الانتفاضات ما سمي "الربيع العربي". ما بقي منها سلمياً نجح كما في تونس والسودان ومصر. وما لحقته لعنة "العسكرة" فشل وقاد إلى حروب دمرت العمران والإنسان وتدخل القوى الخارجية كما في ليبيا وسوريا واليمن.
ولن تنجح محاولات حرف الانتفاضة الشعبية في لبنان من السلمية والشمولية والتوجه المدني، فلا إنقاذ وطنياً وسياسياً واقتصادياً ومالياً للبنان إلا بنجاح الانتفاضة في التغيير على مراحل. واللعبة انتهت وإن تصور الذين لا يرون من الدنيا سوى الجشع إلى المال والسلطة أنهم قادرون على الاستمرار في اللعب والتلاعب.