ملخص
تحل الذكرى العاشرة لرحيل الممثل الأميركي الكبير روبن وليامز الذي أضحك الملايين حول العالم طوال عقود. لكن أفلامه لا تزال رائجة من جيل إلى جيل.
قلة من المشاهير يتذكرهم الناس في ذكرى رحيلهم. روبن وليامز الذي تمر هذا العام 10 أعوام على غيابه المفاجئ والصادم هو من هؤلاء القلة. فقبل عصر وسائل التواصل كانت الصحف هي التي تتولى تذكير الناس بالذين رحلوا. والآن الناس أو القراء المتصفحون لهذه الوسائط هم الذين يذكروننا بأسماء صنعت سعادتهم قبل أن تنتهي حياتهم في لحظة، سواء عبر مأساة ألمت بهم أو حياة أشرفت على نهايتها عبر التقدم في السن.
لا يزال روبن وليامز على غرار فيليب سايمور هوفمان وهيث ليدجر وغيرهم من الذين رحلوا قبل أوانهم في بال المشاهدين وذاكرتهم. وهذا هو العزاء الوحيد حيال المأساة التي اختتمت بها سيرة وليامز الذي كتبت عنه عند موته قبل عقد من الزمن "عاش ضحوكاً ومات كئيباً".
لم يمرض وليامز أو يتعرض لحادثة أدت إلى وفاته بل اختار موته بنفسه على غرار عدد من الفنانين الذين ما عادوا يتحملون أوزار الوجود، على رغم حضورهم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وعلى رغم نجاحهم المهني وحب الآخرين لهم. فعند الإصابة بالاكتئاب الحاد هذا كله لا يعود يعني شيئاً.
بعد ثلاث سنوات من بلوغه الستين نال الاضطراب العصبي من وليامز، ومثل هذا الغياب يحدث في كل مرة الصدمة عينها عند الجمهور. ولا يمكن أن نصدق أن من أضحك الملايين طوال عقود يخفي آلامه إلى هذا الحد بعيداً من الأعين مع أن تاريخ السينما حافل بمثل هؤلاء الذين يصطادون الموت قبل أن يصطادهم. والموت لعله الحدث الوحيد الذي يذكرنا بأنهم بشر مثلنا، يولدون ويموتون مع الفارق أن الشاشة تخلدهم!
هذا المولود في شيكاغو تسلل إلى قلوبنا فيلماً بعد فيلم وخفة دمه زحفت الينا زحفاً. فقبل أن يكون ممثلاً بقدرات كوميدية عالية كان وليامز هذا الذي نلتقيه كل يوم ونحن ذاهبون إلى العمل أو عائدون منه الإنسان العادي الموجود في كل تفاصيل حياتنا اليومية. في شكله شيء مألوف وفي نظرته الصديق الذي نربت كتفه وفي كيانه رجل لا يتوقف عن الحركة، أو ببساطة لا يتوقف عن العيش. عُرف برقته وتميز بها وفرضها خلال فترة سينمائية هيمنت عليها شخصيات قاسية. صحيح أنه كان يهرج أحياناً لكن مَن مِن الكوميديين لم يسقط في فخ التهريج؟ كان نظيفاً كحبة لؤلؤ ومتماسكاً، نصدقه في أي جسد يرتديه ونصفق له ابتهاجاً لا واجباً!
أدوار متعددة
أضحى وليامز مع الوقت كتلة من الديناميت قابلة للتفجير خلال أية لحظة. إنها الديناميكية التشاركية سواء اضطلع بدور الأستاذ المتمرد الذي يعتلي طاولة الصف في "مجتمع الشعراء الأموات"، أو أطل من خلف الميكروفون صارخاً بأعلى ما يملكه من صوت في "صباح الخير فيتنام"، أو رمى على كتفيه برنس الطبيب لمعالجة المرضى في مستشفى الأمراض العقلية كما كانت الحال في "صحوة"، أو جسَّد بروفيسوراً فقد عقله بعد موت زوجته في "ماذا يحل بالأحلام" أو أباً مطلقاً يضطر إلى التنكر في زي مربية للبقاء قرب أولاده في "السيدة دابتفاير"، أو روبوتاً يبلور حساً إنسانياً في "رجل المئتي عام"، أو كائناً فضائياً يقع في غرام فتاة في "مورك وميندي" أو قاتلاً متسلسلاً في "أرق" أو أكاديمياً في "غود ويل هانتينغ"، وهذا الدور الذي نال عنه أوسكاره الوحيد في فئة دور ثانوي على رغم ترشحه لها ثلاث مرات. انبعث في قلوب الأميركيين بهجة وحضوراً محباً للحياة قبل أن "يمتد" وجهاً كوميدياً لطيفاً إلى أنحاء العالم.
لم أشاهد دوراً له لم يقنعني من خلاله بالشخصية التي أشاهدها وكثيراً ما سرق الفيلم من مخرجه أو كاتب نصه لكن من دون أن ينقلب عليهما، ومن الصعب جداً إنقاذ الشريط من مخالبه فكان "باباي" عند روبرت ألتمان، و"جاك" عند فرنسيس كوبولا و"بيتر بان" عند ستيفن سبيلبرغ، وفي كل مرة من هذه المرات لم نجلس قبالة فيلم لألتمان أو لكوبولا أو لسبيلبرغ، بل قبالة "باباي" أو "جاك" أو "بيتر بان". وكانت هذه أهميته وحدوده في آن واحد، وهذا ما منعه على الأرجح من خوض مغامرة أفلام كبيرة تليق بموهبته التي كانت تستحق أكثر من سلسلة الأفلام التجارية التي بدأ يجرجرها خلفه، وبخاصة منذ أواسط أعوام الألفين. هكذا دائماً مصير الممثل الطاغي الذي لا يذوب في الفيلم. وهذا ما عاناه أيضاً سابقاً بيتر سيلرز أو لوي دو فونيس إذ جاءت مسيرتهما السينمائية مملوءة بأدوار تصمد أمام اختبار الزمن ولكن من خلال أفلام عادية أو شبه عادية، أو في الأقل من خلال أعمال لا ترتقي إلى قيمتهما.
كثيراً ما مكث على الخط الفاصل بين البهجة والكآبة كاشفاً عن براعة في الإمساك بالتوازن بين الأحاسيس المتضاربة الموزعة على جبهات عدة، وكان أميركياً في أصغر تفاصيل حضوره وأدائه، يستعين لا بالصوت فحسب لبناء الشخصية بل بالجسد أيضاً، وبدا جسده لغة بديلة يلجأ إليها عندما تصل الأدوات الأخرى إلى حدودها الأقصى. لم يسقط في السوقية والابتذال طمعاً بإيرادات شباك التذاكر كآخرين مثل مارتن لورنس أو إيدي مورفي بل ظل محافظاً على هذا التوازن الذي بدا السر خلف نجاحه وتفوقه. وعمل كثيراً، أحياناً بإيقاع جنوني ولم يقاوم الكحول والمخدرات، وفي الآخر غلبه الإحباط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
داوى الألم بالضحكة خلال أربعة عقود وقف خلالها قبالة الكاميرا وفوق خشبة المسرح وعلى بلاتوهات التلفزيون مما لم ندركه إلا بعد رحيله. وعندما نشاهده اليوم في دور الأستاذ كيتينغ عبر "دائرة الشعراء الأموات" يتبين لنا أنه الأكثر تعبيراً عن الهوة التي بين الممثل والدور. ففي هذه الرائعة التي أصبحت من الأعمال التي ترمز إلى التمرد والعصيان في وجه القيم التقليدية لقن كيتينغ طلابه كيفية التعامل مع الحياة وشؤونها، مستعيناً بمبدأ ثوري يخرج عن النهج الأكاديمي. وكان يجهل آنذاك أنه سيكون الناطق باسم جيل كامل من المراهقين وأسس الفيلم لعقلية جديدة فكرتها عدم الاستسلام، وترك خلفه شعار "كارب دييم"، عبارة باللاتينية تعني حرفياً "اقطف يومك هذا من دون أن تنشغل بيوم غد". وهذا ما فعله وليامز في أحد صباحات صيف عام 2014 عندما قرر أنه لن ينشغل بما يحمله الغد.