نعرف اللبناني غابرييل بستاني من نصوصه المسرحية الغزيرة التي أُخرِج بعضها على خشبة أبرز المسارح اللبنانية والفرنسية. نعرفه أيضاً منتج أفلام لأكبر الأسماء السينمائية الأوروبية والأميركية (برتران تافرنييه، كلود شابرول، لوي مال...). وها هو يطلّ علينا اليوم برواية صدرت حديثاً عن دار "ج. ك. لاتيس" الباريسية بعنوان "المتكبّرون" ويسرد فيها حياة وأسفار عائلة لبنانية أرستقراطية من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى خمسينياته، متوقّفاً عند التغييرات التي ستفرضها الحداثة الزاحفة على سلوك ومعيشة أفرادها. رواية ضخمة (400 صفحة) على شكل جدارية عائلية تسمح قصّتها لبستاني بالعودة إلى الأحداث التي عصفت بلبنان والعالم العربي خلال تلك الفترة وكانت السبب في المآسي والحروب التي ستشهدها منطقتنا لاحقاً.
تنطلق أحداث "المتكبّرون" في مطلع الثلاثينيات على متن باخرة "شامبليون" الفرنسية التي ستستقلّها بعض العائلات اللبنانية الوجيهة للفرار من الوضع المتأزِّم في وطنها، ومن بينها عائلة فخر الدين. ربّ هذه العائلة، الأمير طارق، كان يفضّل البقاء في وطنه، لكن بما أنه منظِّر ومناضل في صفوف التيار القومي العروبي، تجبره سلطات الانتداب الفرنسي في لبنان على المغادرة، فيختار الاستقرار مؤقّتاً في جنيف مع زوجته وأطفاله الأربعة ريثما تسمح له الظروف بالعودة. خيارٌ حكيم على ضوء تصاعد الحسّ القومي القاتل في أوروبا آنذاك.
لكن قبل أن تصل هذه العائلة إلى العاصمة السويسرية، نتعرّف على متن الباخرة المذكورة إلى ابنة طارق، تاسمين، التي تتحلّى مذّاك بشخصية قوية تمنعها من تقبّل الإكراهات التي يفرضها المجتمع الشرقي الذكوري على نسائه، وفي مقدّمها تقييد هامش حركتهنّ. وفعلاً، لا تحلم تاسمين منذ نعومة أظافرها إلا بالحرّية وبتحويل حياتها إلى مغامرة مستمرّة. ولذلك، حين تُمنَع من المشاركة في زيارة غرفة محرّكات السفينة مع الآخرين لأنها فتاة صغيرة، تدخلها خلسةً، لكنها تعلق داخلها لانسداد الباب عليها آلياً. ولحسن حظّها، هنالك البحّار الفرنسي الشاب تريستان الذي ينجح في تقفّي أثرها وإنقاذها. تريستان الذي تشاء الصُدَف أن يلتقي مجدداً بها، بعد سنواتٍ على لقائهما الأول...
عائلة فخر الدين ستمضي سنوات طويلة في جنيف، على الرغم من عودة تاسمين وشقيقتيها الصغيرتين إلى بيروت للدراسة. وفي تلك الأثناء، سيوكل طارق مهمة إدارة ممتلكاته في لبنان إلى شقيقه هنيبعل، وهو كائن مثير للاشمئزاز ومتزمِّت دينياً، لا يلبث أن يدخل في مواجهة شرسة مع تاسمين الحرّة والمتمرّدة تنتهي لصالحها.
الحرب الثانية
وحين تندلع الحرب العالمية الثانية، لا يُستدعى أيٌّ من ذكور هذه العائلة للمشاركة فيها، فطارق وشقيقه كانا قد باتا متقدّمين في السن، بينما يستفيد ابن طارق البكر، فاروق، من علاقات والده ونفوذه لتجنّب هذه التجربة والعيش كغندور في مجتمع جنيف البرجوازي. وبعد نهاية الحرب، تبقى عائلة فخر الدين فترةً في سويسرا، ثم تنتقل إلى العيش في باريس، قبل أن تعود أخيراً إلى لبنان على متن باخرة "شامبليون" ذاتها، لكن ليس من دون أن تختبر الحادث الذي ستتعرض له هذه السفينة عام 1952، بسبب خطأ ملاحي، قبالة شاطئ خلدة، جنوب بيروت. حادث يُنبئ بالأيام السوداء التي سيعرفها شرقنا...
باختصار، رواية فاتنة يخطّ بستاني فيها مسيرة شابة حرّة ومتقدّمة على زمنها ــ تاسمين ــ تجد الشجاعة لمواجهة التقاليد التي تقيّد حرية المرأة في شرقنا، وتنجح في ابتكار قدرٍ مخالف لذلك الذي كان مرصوداً لها. "المتكبّرون" هي أيضاً قصة عائلة تقع أسيرة العنف الذي سيعصف بأوروبا وشرقنا خلال النصف الأول من القرن الماضي، وقصة مأساة على وشك الوقوع.
لكن قيمة هذا العمل لا تكمن فقط في تمكّن بستاني من حبك هذه القصص ببراعة ملفتة، بل أيضاً وخصوصاً في النظرة البصيرة التي يلقيها على الأحداث الدولية الكبرى التي يقاربها وعلى فصل الاستعمار الغربي لشرقنا ونتائجه المأساوية. وفي هذا السياق، يأسرنا وصفه الدقيق للأجواء التي كانت سائدة من جهتَيْ المتوسّط في الثلاثينيات والأربعينات، ولمعيش أبناء المجتمع اللبناني الأرستقراطي آنذاك والامتيازات التي كانوا يتمتّعون بها. وصفٌ يسمح له بالتوقف مليّاً عند موقع المرأة في المجتمعين الشرقي والغربي خلال تلك الحقبة، مستعيناً في ذلك بمسيرة بطلته تاسمين نحو التحرّر.
وثمّة مكمَن قوة آخر في هذه الرواية، ونقصد ثراءها بالشخصيات الآسِرة والغنية بالألوان، وفي مقدّمها شخصية تاسمين التي تفتننا بقدر ما تثير سخطنا، ونتابع بإثارة مغامرات حياتها من جنيف إلى بيروت، مروراً بباريس؛ شخصية دائماً معادلة لنفسها في تمرّدها وسعيها الدؤوب للتحكّم بمصيرها. هنالك أيضاً والد هذه الشابة، طارق، الذي يهجس بمستقبل شرقنا إلى حدّ عدم تضييعه فرصة للتنظير والمدافعة عن ضرورة توحّد الشعوب العربية وانعتاقها من يد الاستعمار الغربي؛ وتريستان البحّار الشاب المرهف والكئيب؛ ونديم، حبّ تاسمين الأول؛ وخصوصاً شقيقها فاروق الذي يثور باكراً على ما يتوقّعه والده منه ويشكّل في طبيعته وسلوكه نقيض الرجل الذكوري الشرقي.
وفي حال أضفنا تلك المتعة في كتابة "المتكبّرون"، التي نستشعرها في أسلوبها المدهش في جمالياته الصورية والشكلية، وإمكانية قراءتها كبحث مساري عن معنى الحياة في منطقة تشتعل بالخلافات والتمزّقات والحرائق، لتبيّنت لنا كل قيمة هذه الرواية التي تشكّل، وفقاً لكاتبها، الجزء الأول من ثلاثية مرصودة لبيروت، ننتظر جزأيها التاليين.