ملخص
يرى كثر من مؤرخي التراث العربي أنه يمكن اعتبار عديد من أجزاء "العقد الفريد" وكثير من صفحاته السفر التالي لكتاب "الأغاني" للأصفهاني، كمرجع في هذا المجال يعود له الأدباء والباحثون ويعتمد عليه المؤرخون، ولا سيما في ما يتعلق بالموسيقى والأغاني الأندلسية التي عرفت دائماً بكونها أكثر غنى وتنوعاً مما أنتجه المشرق في هذا السياق.
"وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الأخبار، وفضل الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش في صدر كل كتاب، وأما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه، وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله. وقال الشاعر: إنا عرفناك باختيارك إذ كان دليلاً على اللبيب اختياره. وقال أفلاطون: عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم".
بهذه العبارات قدم الأديب العربي الأندلسي ابن عبد ربه لكتابه "العقد الفريد" الذي يعتبر منذ ظهوره واحداً من أمتع كتب التراث الأدبي والأخلاقي والفكري العربي، كما يعتبر المعادل الأندلسي لعدد من أمهات الكتب العربية المشرقية المنتمية إلى هذا النوع، إذ من الواضح أن هذا الأديب والكاتب الموسوعي إنما أراد أصلاً أن يوجد للجزء الذي كان يعيش فيه من الإمبراطورية العربية، ما يضاهي ذلك العدد الكبير من الكتب والموسوعات التي كان أهل المشرق اشتهروا، في بغداد خصوصاً، بإنتاجها.
على خطى الجاحظ ورفاقه
بل إنه حتى إذ حاول مضاهاة الكتب المشرقية التي سبقته، اعترف بأنه غرف منها، في سيره على منوالها. ومن أبرزها كتب للجاحظ مثل "البخلاء" و"البيان والتبيين" و"الكامل" للمبرد و"عيون الأخبار" لابن قتيبة، بالتالي لئن تفاخر أدباء وقراء المشرق بمثل هذه الأعمال، وكذلك بنتاجات أبي حيان التوحيدي وكتب مثل "الآمالي"، كان في وسع أبناء المغرب ولا سيما الأندلس أن يجابهوهم بـ"العقد الفريد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع هذا علينا أن ننتبه منذ البداية إلى أن صفحات الكتاب ونصوصه عديدة، تكاد تكون مشرقية المصدر أكثر منها مغربيته بكثير، حتى وإن كان لا يفوت القارئ أن يطالع فيه كثيراً من أخبار الأندلس ومناطق المغرب، وسير وحكم أدبائه ومفكريه، ولكن ما هذا "العقد الفريد"، ولماذا أطلق عليه مؤلفه – أو جامعه بالأحرى – هذا الاسم؟ إنه، وبحسب التعريف المختصر والموفق للأديب اللبناني كرم البستاني الذي حقق واحدة من أكثر طبعات هذا الكتاب شعبية، "مجموعة أدبية فنية، من خطب وشعر وفصول نثرية، وأقوال حكماء وعلماء في قواعد العمران والاجتماع. فيه علم العروض وعلم الألحان والأبدان، ونتف تاريخية مع أخبار عرب الجاهلية، وأيامهم وأنسابهم وحوادثهم. وأخبار الخلفاء والملوك وغيرهم".
وإذا كان في إمكان القارئ أن يلاحظ ما في أجزاء هذا الكتاب من نقص من حيث سرده لبعض التواريخ وأمهات الأحداث وتفصيل الوقائع والأفكار، فإن قيمته الأدبية في المقابل، تبدو كبيرة ولا سيما، ودائماً بحسب البستاني، بما يحتويه من آراء أدبية في نقد الشعر، وآراء فنية في نقد المغنين والملحنين.
الثاني بعد "الأغاني"
وفي هذا المجال الأخير يرى كثر من مؤرخي التراث العربي أنه يمكن اعتبار عديد من أجزاء "العقد الفريد" وكثير من صفحاته السفر التالي لكتاب "الأغاني" للأصفهاني، كمرجع في هذا المجال يعود له الأدباء والباحثون ويعتمد عليه المؤرخون، ولا سيما في ما يتعلق بالموسيقى والأغاني الأندلسية التي عرفت دائماً بكونها أكثر غنى وتنوعاً مما أنتجه المشرق في هذا السياق. أما بالنسبة إلى عنوان الكتاب فإن كثراً من المؤرخين يعتبرونه صائباً في حديثه عن فرادة هذا الكتاب الذي كان "فريداً في نفاسته"، جامعاً لشطري المنطقة العربية في تنوعه، مسهباً في غوصه في الماضي الثقافي والنهل منه، وصولاً إلى الحاضر الذي عايشه ابن عبدربه في قرطبة التي كانت في ذلك الحين قبلة الثقافة العربية الإسلامية، والنافذة المفتوحة على علوم وآداب الماضي، وعلى العالم الشمالي الذي كان بدأ يستيقظ لتوه.
أما فكرة "العقد" قبل فكرة فرادته، فإنها لا تأتي صدفة في عنوان الكتاب، إذ إن مؤلفه شاء له أصلاً أن يكون أشبه بالعقد، إذ قسمه إلى 25 جزءاً، تصدر أحياناً مجتمعة في مجلد ضخم واحد، أو منفردة في مجلدات صغيرة على حدة، ليطلق على كل جزء اسم جوهرة من الجواهر المعروفة. ويقول هو نفسه عن هذا: "أطلقنا على كل جزء اسم جوهرة من جواهر العقد، وسميته كتاب العقد الفريد لما فيه من مختلف جواهر الكلام مع دقة السبك وحسن النظام. وانفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد، وهي: 1- كتاب "اللؤلؤة" في السلطان، 2- كتاب "الفريدة" في الحروب، 3- كتاب "الزبرجدة" في الأجواد والأصفاد، 4- كتاب "الجمانة" في الوفود، 5- كتاب "المرجانة" في مخاطبة الملوك، 6- كتاب "الياقوتة" في النظم والأدب، 7- كتاب "الجوهرة" في الأمثال، 8- كتاب "الزمردة" في المواعظ والزهد، 9- كتاب "الدرة" في التعازي والمراثي، 10- كتاب "اليتيمة" في النسب وفضائل العرب، 11- كتاب "العسجدة" في كلام الإعراب، 12 - كتاب "المجنبة" في الأجوبة، 13- كتاب "الواسطة" من الخطب، 14- كتاب "المجنبة الثانية" في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة، 15- كتاب "المسجدة" الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم، 16- كتاب "اليتيمة" الثانية في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة، 18- كتاب "الزمردة" الثانية في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، 19- كتاب "الجوهرة" الثانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي، 20- كتاب "الياقوتة" الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه، 21- كتاب "المرجانة" الثانية في النساء وصفاتهن، 22- كتاب "الجمانة" الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين، 23- كتاب "الزبرجدة" الثانية في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان وتفاضل البلدان، 24- كتاب "الفريدة" الثانية في الطعام والشراب، 25- كتاب "اللؤلؤة" الثانية في الفكاهات والملح.
معارف ذلك الزمن
واضح من هذه العناوين وأسمائها إذاً أننا في صدد ما يشبه موسوعة متكاملة تكاد تغطي معظم معارف الإنسان في تلك العصور، وهذا إلى جانب امتلاء الأجزاء بصفحاتها المتلاحقة، بمقاطع الشعر والنثر والملح والمعلومات، والأفكار التي يمكن أن نلاحظ إيرادها من دون الاهتمام – في معظم الأحيان – بإسنادها إلى مصادرها، مما يسهل على القارئ التوغل فيها، جامعاً بين متعة القراءة وفائدة المعرفة، وهو ما كان ابن عبدربه يتوخى الوصول إليه على أية حال.
غير أن لابن عبدربه من هذا الكتاب غاية أخرى وأساسية تلوح من خلال كل صفحة وكل فقرة، وهي غاية أخلاقية وعظية، إذ يشتم المرء من خلال كل حكاية وفقرة ما يرمي إليه المؤلف، من دون أن يدعي طلوع هذه الأفكار منه. ويمكن في هذا السياق إيراد مئات الأمثال والنماذج، لكننا نكتفي بمثال واحد نستعيره من الجزء المسمى "السلطان وعدل ساعة" (وهو كتاب "اللؤلؤة" في السلطان)، إذ يبادر المؤلف ليقول لنا إن "السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهو حمى الله في بلاده – وظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم. وقال الخلفاء: إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم"، قبل أن يروي لنا عن أبي بكر بن أبي شيبة أن زياد قال: ما غلبني أمير المؤمنين في شيء من السياسة إلا مرة واحدة. استعملت رجلاً فكسر خراجه، فخشي أن أعاقبه ففر إليه واستجار به فأمنه، فكتبت إليه: إن هذا أدب سوء من قبلي. فكتب إلي: إنه لا ينبغي أن تسوس الناس سياسة واحدة، لا نلين جميعاً فتمرح الناس في المعصية، ولا نشتد جميعاً فنحل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة".
من أبناء مدينة ابن رشد
عاش أبو عمر بن أحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي بين عامي 860 و940 (246-328ه.) إذ ولد في قرطبة، وهو تربى ونشأ وتعلم فيها، حيث كانت تعيش ذلك الحين أعظم فترات ازدهارها، وهو ما وجهه مباشرة إلى الأدب والشعر ودرس بعض العلوم كالطب والموسيقى. ويقول كرم البستاني إن ابن عبدربه كان في شبابه معتكفاً على اللهو يكثر الغزل في شعره، "غير أنه تزهد في كبره، فعارض ما كان نظمه من القصائد الغزلية بقصائد زهدية من بحورها وقوافيها سماها بالمحمصات".