ملخص
انقسمت آراء مراقبين وخبراء حول الرؤية التي ساقها وحدد ملامحها الماركسي فاروفاكيس، فانجذب فريق إلى آرائه، بينما انتقد آخرون النظرية، معتبرين أنها لا تمثل سوى مظهر من مظاهر الرأسمالية المتوحشة وشكل جديد لها لا أكثر.
برزت خلال الأعوام الأخيرة تساؤلات مثيرة حول مستقبل الاقتصاد العالمي، بخاصة في ما يتعلق بالتحولات التكنولوجية السريعة، ومن بين أهمها تلك التي طرحها وزير المال اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس الذي قدم نظرة جديدة حول مفهوم "الإقطاع التكنولوجي"، فهل نحن نشهد نهاية الرأسمالية التقليدية وبزوغ عصر جديد من السيطرة التكنولوجية؟.
وفق نظرية فاروفاكيس، فإن الشركات التكنولوجية مثل "غوغل" و"أمازون" و"فيسبوك" أصبحت تسيطر على البنية التحتية الأساسية للاقتصاد الرقمي، وهذه السيطرة تشبه السيطرة التي كانت تمارسها الإقطاعيات في العصور الوسطى على الأراضي الزراعية، فيتساءل فاروفاكيس عما إذا كانت هذه الشركات الكبرى بدأت تشكل نظاماً اقتصادياً جديداً يمكن وصفه بـ"الإقطاع التكنولوجي"، بحيث يتم استبدال الملكية التقليدية للأراضي بنظيرتها الرقمية للبيانات والشبكات.
ومضى فاروفاكيس في إثارة المخاوف حول تأثير هذه السيطرة في حقوق الأفراد وحرياتهم، تحديداً في ما يتعلق بالخصوصية والتحكم بالبيانات الشخصية، فارضاً ومؤيدوه تساؤلات ملحة منها هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى نوع جديد من العبودية الرقمية؟.
على رغم أن هذه النظرية لاقت استحساناً لدى بعض الأوساط، إلا أنها لم تخلُ من الانتقادات، إذ عبر اقتصاديون وخبراء وباحثون عن تحفظاتهم لاستخدام مصطلح "الإقطاع التكنولوجي" ذاته، بدعوى أن الإقطاعية تشير إلى نظام اجتماعي وسياسي محدد في العصور الوسطى، وتشبيهه بالتحولات الرقمية ربما يكون غير دقيق ومضلل حتى إن كان المفهوم مقتصراً على نوع جديد من الإقطاع يسيطر عليه الجانب التكنولوجي.
ويلقي منتقدون لهذه الرؤية الضوء على أن السوق التكنولوجية ما زالت تنافسية، ولا توجد سيطرة تامة عليها، وأن شركات ناشئة عدة تستمر في الابتكار وتحدي الهيمنة الحالية للشركات الكبرى، متسائلين "هل يمكن اعتبار هذا ’إقطاعية‘ فعلية في ظل وجود هذا التنافس؟".
واقع ملموس
وفي ظل هذا الجدل الدائر حول هذا المفهوم الجديد، انقسمت آراء مراقبين وخبراء تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" عن الرؤية التي ساقها وحدد ملامحها الماركسي فاروفاكيس، فانجذب فريق إلى آرائه، بينما انتقد آخرون النظرية، معتبرين أنها لا تمثل سوى مظهر من مظاهر الرأسمالية المتوحشة وشكل جديد لها لا أكثر.
وبين مؤيد ومعارض، تفرض تساؤلات نفسها على الأرض، ومنها هل حان وقت التعامل مع نظرية السياسي وعالم الاقتصاد اليوناني يانيس فاروفاكيس عن "الإقطاع التكنولوجي" بجدّية؟ وهل تنتهي أو تخفت الرأسمالية بمعناها التقليدي لتحل محلها الرأسمالية الرقمية؟.
يتفق الخبير الاقتصادي عبدالرحمن عليان مع مفهوم فاروفاكيس، ويقول لـ"اندبندنت عربية" إن عصر الإقطاع التكنولوجي أصبح واقعاً ملموساً، وأجاد فاروفاكيس في إعطاء هذا العصر مسمى وإطاراً لدراسته محدداً له قواعد واضحة، مردفاً أن "لكل عصر سمته الخاصة، وسمة هذا العصر هي التكنولوجيا... فمن يمتلك التكنولوجيا يمتلك السيطرة، وكما كانت الأرض مصدر السيطرة في عصر الإقطاع، ورأس المال في عصر الصناعة، تحول النفوذ إلى أيدي من يمتلك التكنولوجيا والمساحات الرقمية".
في كتابه "الإقطاع التكنولوجي: ما الذي قتل الرأسمالية" الذي حقق انتشاراً واسعاً حول العالم، عقد فاروفاكيس مقارنة بين العصر الحالي والإقطاع التقليدي، حين كان اللوردات يسيطرون على الفلاحين مقابل امتياز العيش على الأرض. أما اليوم، فتتحكم الخوارزميات في سلوكيات وأنشطة المجتمعات، ونفوذ هذه المنصات يتجاوز الحكومات.
لكن الخبير الاقتصادي عليان لم يؤيد فكرة انتهاء الرأسمالية، ونبه إلى أنه يمكن اعتبارها خفتت، لافتاً إلى تشابه سمات العصور المختلفة في القدرة على التحكم بالآخرين، ففي عصر الإقطاع كان التحكم واقعاً على الفلاح، وفي الرأسمالية كانت السيطرة منصبة على العاملين في الصناعة، وحالياً يتم التحكم بـ"فقراء التكنولوجيا". وأشار إلى أن المسيطرين في التكنولوجيا نفوذهم أكبر من الحكومات بفضل قدرتهم على جمع المعلومات، مما يعطي قوة لنظرية فاروفاكيس.
وفي كتابه المثير للجدل والاهتمام في الوقت ذاته، يغوص وزير المال اليوناني السابق في أفكاره الجديدة، موجهاً حديثه إلى القارئ، قائلاً "تخيل المشهد التالي الذي يبدو وكأنه مأخوذ مباشرة من أحد كتب الخيال العلمي، إذ يتم نقلك إلى بلدة مليئة بالبشر الذين يمارسون أعمالهم، ويتاجرون بالأدوات والملابس والأحذية والكتب والأغاني والألعاب والأفلام. في البداية يبدو كل شيء طبيعياً، حتى تبدأ بملاحظة شيء غريب، بعد أن تصطدم بأن جميع المتاجر، بل كل مبنى، مملوك لرجل يُدعى جيف (يقصد جيف بيزوس مالك "أمازون")، ويسير الجميع في شوارع مختلفة، ويرى متاجر مختلفة لأن كل شيء يتم بواسطة خوارزمية ترقص على أنغام جيف"، مدعياً أن "جيف لا ينتج رأس المال، بل يتقاضى إيجاراً على الأراضي الرقمية. وهذا ليس رأسمالية، بل إنه إقطاع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مظهر جديد للرأسمالية
في المقابل، يعتقد أستاذ العلوم السياسية المساعد في الجامعة الأميركية بالقاهرة عمرو عدلي بأن "فكرة فاروفاكيس لا يمكن اعتبارها نظرية علمية، ولا يمكن القياس عليها أو اعتمادها، إذ لا تعدو كونها مجرد تشبيه بين عصر الإقطاع والسيطرة على التكنولوجيا حالياً". ويقول عدلي لـ"اندبندنت عربية" إن "ما نشهده هو نمط رأسمالي وربما احتكاري، لا يتناقض مع الرأسمالية التي كثيراً ما احتوت على ملامح احتكارية منذ فترة التصنيع، فنشهد ممارسة احتكارية محمية بقوانين متعلقة بحقوق الملكية الفكرية وامتلاك الأسرار التجارية والصناعية الخاصة بإنتاج التكنولوجيا".
وبرر عدلي رفضه لهذه النظرية بأن "الأنشطة الاستخراجية المتعلقة بإنتاج الطاقة لا تزال قائمة، والتكنولوجيا الرقمية كثيفة الاستهلاك للطاقة وتعتمد بصورة كبيرة على عمالة بدائية، مثل استخراج معدن الكوبالت في الكونغو، مما يعني أن ملامح الرأسمالية الصناعية لا تزال موجودة"، مبدياً عدم اقتناعه "بوجود تغير جوهري يمكن أن يعتبر دليلاً على أننا أمام عصر جديد ينسف الرأسمالية".
من جهة أخرى، وجد الكاتب والمفكر المصري سمير مرقص أن "المفهوم الذي يطرحه فاروفاكيس من أهم الأفكار التي أُنتجت العام الماضي"، وضمن مقالة رأي نُشرت في صحيفة الأهرام المصرية خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، رأى أن "فاروفاكيس أحد أهم الاقتصاديين المعاصرين الذين انشغلوا بالرأسمالية تاريخاً ومساراً. وهو عالم اقتصاد رصد في كتابه الأخير ملاحظة غاية في الأهمية، مفادها بأن النظام الإقطاعي التاريخي الذي كان سائداً حتى القرن الـ17 سيسود مرة أخرى، ولكن من خلال نمط إنتاج مختلف. والنظام الإقطاعي التاريخي كان يقوم على ملكية الأرض وزراعتها من قبل الأقنان والاستئثار بريعها لمصلحة الطبقة الإقطاعية. ومع مرور الوقت، تطور النظام الاقتصادي في اتجاه الرأسمالية، التجارية فالصناعية التي تجاوزت النظام الإقطاعي بأنماط إنتاج جديدة ومختلفة". وقال مرقص "لكن بفعل الاحتكارات الضخمة في مجال التكنولوجيا الرقمية ظهرت طبقة إقطاعية جديدة تشبه الإقطاعيين القدامى، عُرفت بالإقطاع الرقمي".
مراكز احتكارية ومنصات عابرة للقارات
وذهب مرقص للحديث عن أن "المصطلح تردد في كتابات كل من أستاذة اقتصاديات الابتكار، الأميركية من أصل إيطالي ماريانا مازوكاتو، والاقتصادي الفرنسي سيدريك دوران. لكن فاروفاكيس توسع أكثر في تناوله للتكنولوجيا الرقمية وتمدد بها إلى توظيفاتها في المجالات المالية والصناعية والزراعية والفضائية، بحيث قارب حجم الاستثمارات في تلك المجالات نحو الـ 100 تريليون دولار تدار عن طريق مراكز احتكارية توفرها المنصات/ الشبكات الرقمية العابرة للقارات، وتضمن تدفقاً مالياً سحابياً".
أما خبير تكنولوجيا المعلومات أحمد يوسف، فيقف على الحياد بين وجهتي النظر، معتبراً أن "هذا صراع تاريخي وقائم بين الرأسمالية والإقطاع الرقمي، ويتحرك عبر الزمن ببطء. ولا يمكن إنكار أننا نعيش في عصر إقطاع تكنولوجي، ومعظم المنصات لديها معلومات عن المواطنين قد لا تتاح للدول التي يعيشون على أرضها". وأوضح يوسف لـ"اندبندنت عربية" أن "هذه الشركات تمتلك كمية هائلة من البيانات والمعلومات بما يمكنها من الإقطاع، لكن الإقطاع الرقمي يمكن أن يخترق بمنافسين جدد بأفكار جديدة. والشركات الناشئة يمكن أن تكسر هذا الإقطاع، مما يفسد النظرية باعتبار أن الوضع الاحتكاري القائم أمر موقت".
ويوافقه هذا الرأي خبير تكنولوجيا المعلومات المهندس أحمد صبري الذي يقول إن "الإقطاع التكنولوجي شكل من أشكال توحش الرأسمالية"، ويضيف أننا "نعيش صورة جديدة من السيطرة التكنولوجية، ولا أعتقد بزوال هذا النظام".
ويرى محمد الحارثي أن "الاستحواذ على عدد كبير من المستخدمين على مستوى العالم يمثل قدرة وسيطرة، وامتلاك هذه الشركات للبحث والتطوير لإبقائنا نشطين على منصاتهم يفرض واقعية على نظرية فاروفاكيس. ولا تستطيع دولة مواجهة الشركات التي تمتلك القوة التكنولوجية ببدائل أو تمنع هذه الخدمات". وقال "أصبحنا أمام من يمتلك الأرض الرقمية والقدرة على استحواذ شركات عدة بهدف السيطرة، ونحن أمام عصر جديد وهو مزيج بين النظامين الإقطاعي والرأسمالي".