أهميَّة دعم العلماء العرب الشيعة
إن ميزة المراجع الدينيَّة الشيعيَّة العربيَّة تختلف عن الفارسيَّة وغيرها، كونها تهتم بالشؤون العربيَّة وأوضاعها السياسيَّة والاجتماعيَّة، وتُشجّع على طلب علوم الحاضر، وتغذيَّة العقل تجاه المتغيرات والمعطيات الحياتيَّة. كما أنها تنظر إلى أحداث ووقائع التاريخ على ما كانت عليه، وليست على ما يجب أن تكون عليه، لكي تستمر الأمة بالتعايش السلمي والوئام نحو الأمام. ولهذا في 1350 هـ - 1931 م، بالمؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القدس، وحضره أكثر من 150 ممثلاً من الأقطار العربيَّة والإسلاميَّة، وبحضور نحو 20 ألف مشارك، كان خطيب وإمام المصلين بجميع الحاضرين هو المرجع محمد حسين كاشف الغطاء (1294 - 1373 هـ / 1876 - 1953 م)، الذي تجشَّم عناء السفر من العراق إلى فلسطين، تعبيراً عن اهتمامه بقضايا الأمة العربيَّة.
منذ البدء، كان كاشف الغطاء يُولي اهتماماً خاصاً بالوحدة والحوار على المستويين العربي والإسلامي. وأمضى ما بين (1910 - 1913) في سوريا ولبنان ومصر، يشد الآخرين إليه بعلمه وفصاحته وبلاغته، وحرصه على قضايا الأمة وضرورة وحدتها تجاه الأطماع الاستعماريَّة والمخاطر الصهيونيَّة. كان ذا نظر مستقبلي ثاقباً لِما تخطط له السياسة الأميركيَّة في البلدان العربيَّة. لذا كتب في إحدى رسائله قائلاً: "إن أميركا تُبقي شعوبنا رازحة تحت أشكال الفقر والجهل والتخلّف، وكذلك في مجال الزراعة والصناعة، لكي تجعلنا أذلاء خاضعين لها. وفي مقابل ذلك كله تسعى إلى السيطرة على ثرواتنا واستثمارها، ونحن راضون".
أمَّا عن دور الاستعمار البريطاني في ضياع فلسطين، فعند لقاء الشيخ كاشف الغطاء السفير البريطاني بالعراق بتاريخ 20 جمادي الأولى 1373 هـ / 1953 م، بمدينة النجف الأشرف، انتقد بشدة السياسة البريطانيَّة، التي تتعامل بها مع العالم الإسلامي، وعلى رأسها قضيَّة فلسطين. وحمّل فيها بريطانيا مسؤوليَّة الإعداد لاحتلال فلسطين من قِبل الصهاينة، وتعرّض الشعب الفلسطيني إلى التشريد والإبادة. والأمر نفسه فعله كاشف الغطاء عند لقائه السفير الأميركي بالعراق، إذ ألقى على دولته باللائمة والمساهمة في اغتصاب فلسطين، وغيرها من الممارسات التي لا يمكن السكوت عنها.
كان كاشف الغطاء يؤكد أن أُس المشكلات في "تحطّم الإسلام والعرب" ناتج عن تغلغل الاستعمار البريطاني في العالمين العربي والإسلامي. وفي هذا الصدد نظم قصيدة يقول فيها:
كم نكبة تحطم الإسلام والعرب
والإنجليز أصلها فتّش تجدهم السبب
فكل ما في الأرض من ويلات حرب وحرب
هم أشعلوا نيرانها وصيّروا الناس حطب
لم يكن كاشف الغطاء يدعو إلى التحرر والاستقلال بالأقوال فقط، بل بالأفعال أيضاً، إذ اشترك مع إخوانه العراقيين المجاهدين ضد جيش الاحتلال البريطاني إبان الحرب العالميَّة الأولى (1914 - 1918). وفي أواخر حياته وضع كتاباً موسوماً "المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون"، إذ رفض الدعوة إلى حضور "مؤتمر بحمدون" في لبنان، الذي روَّجت له السياسة الأميركيَّة. وفي هذا الكتاب يكشف لأبناء الأمة بما يحوطهم من أخطار الاستعمار، وما ينتابهم من شرور أذنابه. وكأنّ كتابه يشمل ما يجري في العراق حاضراً، غير أن المحتل ليس أميركياً حسب، بل إيراني صفوي أيضاً، وإن أذناب اليوم أشد قذارةً ودرناً من أذناب الماضي.
أمَّا عن أحداث البحرين التي جرت في 1953، ورسالة الشكوى التي بعثها إليه الشيعة البحارنة يستغيثونه ضد السُّنة بتاريخ 15 شوال 1373 هـ / 1953 م، وعلى الرغم من أن كاشف الغطاء كان مريضاً راقداً في مستشفى الكرخ ببغداد، فإنه تحامل على نفسه، وكتب إليهم رسالة في تاريخ 18 من ذلك الشهر والسنة، جاء فيها ما يلي:
"كل ذي حس وشعور يعلم أن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى الاتفاق والتآلف، وجمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وأن ينضم بعضهم إلى بعض كالبنيان المرصوص، ولا يدعو مجالاً لأي شيء مما يثير الشحناء والبغضاء والتقاطع والعداء، فإن كل ما يقع من هذا القبيل بين المسلمين في الوطن الواحد، أو في أوطان متباعدة هو أعظم سلاح للمستعمرين، بل هو قرة عين لهم، وما نشبت مخالب الأجانب في الممالك الإسلاميَّة والبلاد العربيَّة إلا بإلقاح الفتن بينهم، وإثارة النعرات الطائفيَّة فيهم، يضرب بعضهم ببعض، ويذيق بعضهم بأس بعض، ويكون المستعمر له الغنيمة الباردة والربح والفائدة، والخسران والوبال علينا... ما بلغنا من وقوع الحوادث الداميَّة التي وقعت غير مرة في البحرين، بين الأخوين المسلمين اللذين فرقت السياسة الغاشمة بينهما باسم الشيعيين والسنيين، وهم إخوان في دين الله، يجمعهما التوحيد والقرآن وشهادة الإسلام".
وعلى نمط كاشف الغطاء، يأتي محمد باقر الصدر (1935 - 1980) بفكره وعلومه الدينيَّة والفلسفيَّة والمنطقيَّة في مواكبة متطلبات الحياة المعاصرة، وما يتوجّب على الأمة في مجابهة الأخطار والقوى العالميَّة. وكان من بين اهتماماته تفنيد الماركسيَّة والرأسماليَّة أمام الإسلام. إذ إن الصدر وكاشف الغطاء كانا الامتداد الطبيعي إلى نهج حركة الإصلاح والتجديد الديني التي قادها جمال الدين الأفغاني (1838 - 1897) ومحمد عبده (1849 - 1905). فالصدر يرى صلاحيَّة الإسلام في كل زمان ومكان شريطة فهم النظم الإسلاميَّة للحياة بشكل عام.
ولقد اشترك الصدر مع طالب الرفاعي ومهدي الحكيم في تأسيس "حزب الدعوة الإسلاميَّة" في يوليو (تموز) 1959، لكي يكون خطاً موازياً لِما هو موجود على الساحة السياسيَّة من الأطراف العلمانيَّة والشيوعيَّة والقوميَّة. لكن بعد فترة تخلّى الصدر عن الحزب عندما وجده ينحرف عن مساره الدعوي، ويرتبط بجهات خارجيَّة لأغراض مشبوه. وفعلاً سيطرت المخابرات الإيرانيَّة على حزب الدعوة في زمن الشاه محمد بهلوي، الذي كان الذراع إلى المخابرات المركزيَّة الأميركيَّة، ومن عهد الشاه إلى عهد الخميني، حيث نفَّذ "حزب الدعوة الإسلاميَّة" عدة عمليات إرهابيَّة في ثمانينيات القرن الماضي، منها ما حدث في الكويت بتاريخ 12 ديسمبر (كانون الأول) 1983 في تفجير السفارتين الأميركيَّة والفرنسيَّة. وكذلك محاولة اغتيال أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد في 25 مايو (أيار) 1985. علاوة على عمليات إرهابيَّة أخرى في لبنان والعراق. وبعد الاحتلال الأميركي للعراق وبدعم إيراني خاص، تربّع حزب الدعوة الإسلاميَّة على رأس السلطة ثلاث دورات انتخابات صوريَّة يشوبها التزييف الفاضح، إذ أبقته في سدة الحكم من 2006 إلى 2019، دورتان من حصة رئيس الحزب نوري المالكي، وأخرى من حصة حيدر العبادي. وكان حزب الدعوة الإسلاميَّة يمارس كل أنواع الهيمنة والجبروت والإجرام الطائفي والسلطوي واللصوصي تحت صورة محمد باقر الصدر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن المراجع الدينيَّة العربيَّة في أقوالها وأفعالها إنما تعكس حقيقة التشيُّع العربي الذي يجمع ولا يُفرق، سواء بين أبناء الدين الواحد أو الوطن الواحد. لذا لو قارنا بين الرسالة الجوابيَّة التي كتبها كاشف الغطاء لشيعة البحرين، وما قاله خامنئي تجاه أحداث البحرين، تجدها تنحو في اتجاهين متضادين تماماً. وبكل بساطة واضحة وجليَّة نقول: إن الأوّل يمثل حقيقة التشيُّع العربي، والآخر يكشف حقيقة التشيُّع الصفوي. وإلا كيف نفسّر قول خامنئي في مناسبة يوم البعثة النبويَّة، حسب التقويم الصفوي في يونيو (حزيران) 2011، إذ عدَّ الاضطرابات الطائفيَّة التي وقعت في "دوار اللؤلؤ" بالبحرين بأنها "حقيقيَّة"، بينما وصف ثورة الشعب في سوريا بـ"الانحراف".
وكذلك إذا أجرينا مقارنة بين تعطيل السيستاني المقاومة المسلحة، وتحريم حتى الجهاد الدفاعي ضد جرائم الغزاة الوحشيَّة، ليحقن دماء جنود الاحتلال الأميركيين، وبين المرجع العربي محمود الصرخي الحسني (1964) الذي أفتى بمقاومة الاحتلال الأميركي، وكان أتباعه ضمن صفوف المقاومة العراقيَّة. وفي معركة الفلوجة الأولى يونيو (حزيران) 2004، أصدر الصرخي بياناً رقم 13 موسوماً "فلوجة الخير والمقاومة". وفي بيانه رقم 20 ينص فيه على ما يلي:
"لا تجعلوهم يستخفون بكم، فتتبعوهم كما استخف فرعون بقومه فأتبعوه. اقرؤوا التاريخ والأحداث وحاكوها واحكوها وحاكموها، واسألوا وكرروا السؤال كيف أن (الاحتلال = التحرير)؟ وكيف أن (فضائح وجرائم أبي غريب وكل السجون العراقيَّة = الحريَّة والديموقراطيَّة)؟ وكيف أن (تحذيرات وزير حرب الكفر والاحتلال وباقي المسؤولين بخصوص تشكيل الحكومة والملف الأمني في العراق = أن أميركا لا تتدخل)؟ حاسبوا، أوقفوا، انتقدوا كل مَنْ يقول إن الاحتلال لا يتدخل".
وهكذا كان الصرخي ينتقد بكل قوة سكوت السيستاني ومهادنته المحتل الأميركي، وفتاويه التي شرعنت وجود الاحتلال الغازي، وإنه الأسوأ على مدى تاريخ المراجع العليا، ويعدّهُ منحرفاً لا يسير على منهج الإمام علي بن أبي طالب. وفي خطبة الجمعة، عندما دحض الصرخي فتوى السيستاني في "الجهاد الكفائي"، التي مهّدت وساعدت على تشكيل الحشد الطائفي، أرسل نوري المالكي قوات بريَّة وجويَّة لضرب برانيَّة الصرخي في الأول من يوليو (تموز) 2014، وسُحِلَ القتلى من أنصار ومقلدي الصرخي في شوارع كربلاء، بطريقة بربريَّة وحشيَّة تعكس مدى الروح الانتقاميَّة للفرس ضد العرب. ومنذ ذلك التاريخ توارى الصرخي في مكانٍ آمنٍ، لا أحد يعرفه.
ومن هنا، يتوجّب على النظام الرسمي العربي أن يضع ضمن حساباته السياسيَّة والأمنيَّة الاهتمام والدعم الملحوظ إلى المراجع الشيعيَّة العربيَّة مادياً ومعنوياً. إذ كلما تقوَّت مرجعيَّة العرب الشيعيَّة تقلَّصت قوة ونفوذ المراجع الفارسيَّة، خصوصاً في السطوة الماليَّة، التي يتحكمون فيها تجاه المحتاجين والمعوزين، الذين يستجيبون إلى المواقف التي تتخذها تلك المراجع الفارسيَّة على الحساب الوطني والقومي. وأعني بهذا الاهتمام والرعايَّة ليس فقط على الجانب الجزئي الذي تقتضيه مصلحة هذه الدولة أو تلك في الوطن العربي الكبير، إنما يجب أن تكون، على سبيل المثال، دائرة أو مكتباً في "جامعة الدول العربيَّة" متخصصة في شؤون وأمور المرجعيَّة الدينيَّة العربيَّة، بما تحتاج إليه في مجابهة المسلك الهيكلي المرجعي في الكتلة الفارسيَّة المهيمنة في النجف الأشرف، مركز الشيعة حول العالم.