Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما حاول براناه إحلال أغاثا كريستي بديلة لشكسبير في عالمه السينمائي

نهر النيل بقي غائباً عن المشهد على رغم أن الجريمة المركزية تدور فوق سطح مياهه

مشهد من النسخة الجديدة من "جريمة على نهر النيل" (موقع الفيلم)

ملخص

كان من الممتع لو أن أغاثا كريستي بقيت على قيد الحياة حتى تحقيق مواطنها الشاب براناه فيلمه عن "قطار الشرق" فتشاهده من جديد مع الملكة وتتحدثان بشأنه. وربما كذلك بشأن تاليه الذي تدور الجريمة فيه على نهر النيل. أما بالنسبة إلى هذا الأخير فلا شك أن السيدتين العجوزتين كانتا ستصمتان بالتأكيد، هما اللتان تعتبران معاً من نصيرات الأبعاد البصرية في عالم المشاهدة، وبالتالي ما كان من شأن الثرثرة الحوارية الزائدة في الأفلمة الجديدة أن تنال رضاهما.

في المشهد الأخير من فيلمه الأكثر نجاحاً حتى اليوم "جريمة في قطار الشرق السريع" والذي حققه قبل سنوات، يصور لنا السينمائي الإنجليزي كينيث براناه كيف يلتقي هيركيول بوارو، تحري الفيلم المقتبس من واحدة من أشهر روايات سيدة الأدب البوليسي أغاثا كريستي، مبعوثاً من دوائر التحري يخبره أن ثمة دعوة له للتوجه إلى مصر للكشف عن خفايا جريمة حدثت في مركب يمخر مياه النيل. وبهذا يعلن الفيلم أن المغامرة السينمائية المقبلة لبراناه، وقد حان بالنسبة إليه أوان الابتعاد عن شكسبيريته الطموحة، ستكون في مصر وذلك تحديداً على خطى الأميركي جون غيلرمان الذي كان سبق له أن أفلم الرواية نفسها في عام 1978، محققاً نجاحاً هائلاً فاق نجاحات كبيرة أخرى كانت روايات عدة لأغاثا كريستي حققتها على الشاشة. وطبعاً في ذلك الإعلان الموفق الذي طبع نهاية "جريمة في قطار الشرق السريع" كان من الطبيعي أن يشعر المتفرجون بقدر كبير من المتعة، بخاصة أن التحدي المطروح في مغامرة براناه الجديدة كان يقوم في توقع المتفرجين أن يتمكن هذا الممثل - المخرج - المنتج الشاطر من التفوق على فيلم غيلرمان، كما أن تتيح له مصر ونيلها تصويراً لمصر يضاهي في قوته الجمالية والتعبيرية ما كان أمتعهم في "الشرق السريع".

 

مصاعب كورونا وما تلاها

طبعاً في عام 2021 تمكن براناه من إنجاز فيلمه وسط مناخ عالمي وسمه وباء كورونا مقيداً الحركة وصارفاً فريق العمل عن طموحاته المعلنة. صحيح أن الفيلم حقق يومها رهانه التجاري، إذ تدافع عشرات الملايين من المتفرجين في أنحاء العالم لمشاهدته، لكن توقعات هؤلاء أسفرت عن خيبات متنوعة. فمن ناحية وعلى رغم أن الكاتب السينمائي غراهام غرين، وهو غير الكاتب الكبير الراحل الذي يحمل الاسم نفسه، كان هو السيناريست في الفيلم الجديد (وسيكون أيضاً كاتب سيناريو فيلم براناه التالي "وسواس في البندقية" الذي سيكون مقتبساً عن نص لكريستي هو الآخر)، بدا واضحاً أن لا الجمهور العريض ولا النقاد استساغوا ذلك الدخول الثاني لبراناه في عوالم سيدة الرواية البوليسية في القرن الـ 20. ولعل عناصر عدة أسهمت في تفاقم تلك الخيبة: في مقدمها مسألة المكان، فالفيلم الذي كان واعداً بأن يقدم صورة ممتعة للمشهد المصري على صفحة نهر النيل والضفاف المحيطة به، لم يصور ولو لقطة واحدة في مصر الموعودة، إذ اتخذ صانعو الفيلم قرارهم في اللحظات الأخيرة بأن ينقلوا أماكن التصوير إلى المغرب، ثم في نهاية المطاف ألغوا حتى المغرب من برنامجهم ليصوروا الفيلم في منطقة "سري" في إنجلترا نفسها (جنوب شرق) ما اضطرهم إلى بناء مدينة "مطابقة" لبلدة أبو سنبل المصرية في الريف الإنجليزي.

 

غياب لافت لروح المرح

وإلى ذلك، لم يتمكن السيناريو من أن يحمل ولو قدراً بسيطاً من روح المرح الساخرة التي يتميّز بها أدب ولغة أغاثا كريستي على رغم طغيان تلك الروح على فيلم براناه السابق، وهو أمر فاقم من إخفاق الفيلم على رغم تدافع الجمهور لمشاهدته ليسجل نقطة سلبية مقارنة طبعاً بما كان قد اتسم به فيلم غيلرمان. وهذا ناهيك عن الحوارات التي تزاحمت في مشاهد عدة، معظمها ليلي بالكاد يشاهد فيه المتفرج وجوه المتحاورين، ولا سيما إذ تقرر أن تكون معظم المشاهد ليلية للتخلص من ملاحظة افتقار الفيلم ذلك النور الربيعي الذي كان يشع من معظم مشاهد فيلم غيلرمان. وعلى رغم ذلك لم يكن فيلم براناه البوليسي الثاني هذا فاشلاً بالنسبة لصنّاعه، وهو ما جعل المخرج، الذي أمتعه إلى حد كبير قيامه مرة أخرى بدور التحري البلجيكي هيركيول بوارو وإدارة أدائه بنفسه، يصرّح بأن سينماه الجديدة هذه والمقتبسة عن تلك السيدة الكبيرة الأخرى من سادة الأدب الإنجليزي، إلى جانب شكسبير وتشارلز ديكنز، لن تتوقف الآن بل سيتبع ما حقق منها بسلسلة أخرى تتواصل فيلماً بعد فيلم، فـ "في نهاية الأمر أصدرت السيدة 66 رواية وقصة قصيرة تتميز بأبعاد بصرية وحسّ تشويق مدهش وحان الأمر للعودة المتواصلة إليها" قال براناه للصحافيين، مؤكداً أن الأفلام المقبلة ستشهد أفلمة لروايات وقصص أخرى لكريستي غير تلك التي يتولى بوارو التحقيق فيها، مضيفاً أن "قصص مسز ماربل ستكون ذات حظوة في الأفلام المقبلة". وهنا إذ سألته صحافية عما إذا كان مستعداً هو نفسه للقيام بدور المحققة الأنثى قال مبتسماً "لم لا؟ إن في مقدور السينما والماكياج أن يصنعا العجائب".

مصر ونيلها الغائبان

ونعود هنا على أية حال إلى رواية "جريمة على نهر النيل" التي تعتبر عادة من أشهر روايات أغاثا كريستي كما من أكثرها قدرة على إدخال "أدب الرحلات" في عالم الأدب البوليسي التشويقي، علماً أن كريستي كانت من أكثر كتاب الرواية البوليسية تمكناً في مجال المزج بين المكان والحدث، وهي التي عرفت كيف توزع رواياتها بالتواكب مع إقامتها أو حتى زيارتها العابرة لبلدان كان وصفها لها يدهش القراء، ويضاعف من رغبتهم في التفاعل مع الأحداث المبتكرة التي تتخيلها أو تستمدها من أحداث، وبالتحديد من جرائم عادية.

فكالعادة هنا تبدأ الحكاية من تلك الجريمة التي تقع ضحيتها الحسناء الوارثة لينيت التي ترديها رصاصة قاتلة بينما تقوم برحلة شهر عسل مع زوجها سيمون دويل على متن مركب نيلي يدعى "الكرنك" كانا يتجولان فيه وجاكلين، عشيقة دويل السابقة التي تخلى عنها للزواج من لينيت، تتبعهما في رحلتهما. ومن هنا يكون منطقياً في بداية الأمر أن يحيط الشك بجاكلين، لكن سرعان ما تتجمع الظروف لتبرئتها. غير أن تلك الظروف سرعان ما تتبدد وينتهي الأمر بجريمتين أخريين، وبتمكن بوارو من اتهام العاشقة الخائبة متواطئة مع عشيقها السابق ما يجعل هذين ينتحران معاً في مشهد أخير يقوم فيه بوارو بكشف جرائمهما، ولا سيما من خلال تواطئهما للتخلص من لينيت والاستيلاء على إرثها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ملكتان في عتمة السينما

ويعرف قراء أغاثا كريستي ولا سيما منهم القراء الكثر لهذه الرواية بالتحديد، أن تلك الأحداث الأساسية التي تشكل الهيكل العظمي لرواية استلهمتها الكاتبة من رحلتها إلى مصر، ضمن إطار رحلاتها المتكررة إلى مناطق الشرق الأوسط، وهي التي كان الترحال من هواياتها الأساسية على ارتباط باهتماماتها بعالم الآثار القديمة (ومن الصعب على أية حال القول هنا إن كينيث براناه قد صوّر ذلك الارتباط في الفيلم الذي نتحدث عنه).

وكانت كريستي تقترب من سن الـ 50 حين كتبت "جريمة على نهر النيل" في عام 1937، وهي المولودة في عام 1890 لترحل في عام 1976 بعد عامين من ذلك "التكريم الكبير" الذي كان من نصيبها في عام 1974 إذ دعيت لتحضر، إلى جانب الملكة إليزابيت الثانية، العرض العالمي الأول لفيلم سابق مقتبس عن "جريمة في قطار الشرق السريع" حققه الأميركي سيدني لوميت. ولقد قالت كريستي حينها للصحافيين إن متعتها في مشاهدة الفيلم كانت مزدوجة: من ناحية لأن الفيلم نفسه عرف كيف يضفي على نصها الروائي قيمة إضافية، ومن ناحية ثانية لأنها كانت تشاهد الفيلم وإلى جوارها ملكة عرفت كيف تتلقى الفيلم بهدوء وتعمق لتخبرها في النهاية بما "فاجأني حقاً، إذ أسرّت جلالتها في أذني قائلة إنها نادراً ما وجدت نفسها أمام فيلم يوازي في قيمته وجماله، النص الأدبي الذي اقتبس عنه!". وبهذا أعربت الكاتبة عن تقديرها الكبير لملكة بلادها التي كشفت لها عن ثقافة وتهذيب في إبداء رأي فني "فبدت وكأنها تقرأ أفكاري نفسها".

البحث عن رضا السيدتين

والحقيقة أنه كان من الممتع لو أن أغاثا كريستي بقيت على قيد الحياة حتى تحقيق مواطنها الشاب براناه فيلمه عن "قطار الشرق" فتشاهده من جديد مع الملكة وتتحدثان بشأنه. وربما كذلك بشأن تاليه الذي تدور الجريمة فيه على نهر النيل. أما بالنسبة إلى هذا الأخير فلا شك أن السيدتين العجوزتين كانتا ستصمتان بالتأكيد هما اللتان تعتبران معاً من نصيرات الأبعاد البصرية في عالم المشاهدة، وبالتالي ما كان من شأن الثرثرة الحوارية الزائدة في الأفلمة الجديدة أن تنال رضاهما.

المزيد من ثقافة