ملخص
تعهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بأنه مستعد لمحاكمة أعدائه السياسيين إذا انتخب في نوفمبر المقبل، فهل بدأت المعارك بالفعل؟ وما تأثيرها في سيادة القانون؟ ولماذا يرفض الديمقراطيون والليبراليون تسليح القضاء على رغم أنهم بدأوا ذلك بأنفسهم؟
منذ إدانة الرئيس السابق دونالد ترمب في محاكمة نيويورك قبل نحو أسبوع، تصاعدت الدعوات داخل الحزب الجمهوري بمواجهة النار بالنار على حد وصف السيناتور ماركو روبيو وكذلك الابن الأكبر لترمب، مما يعني مواجهة جو بايدن والديمقراطيين بنفس السلاح الذي واجهوا به ترمب عبر التقاضي والمحاكمات والتحقيقات، وتجسد هذا عملياً في مطالبة الجمهوريين في مجلس النواب وزارة العدل بتوجيه تهم جنائية ضد نجل بايدن وشقيقه بالكذب على المشرعين.
وتعهد ترمب نفسه بأنه مستعد لمحاكمة أعدائه السياسيين إذا انتخب في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فهل بدأت المعارك بالفعل؟ وما تأثيرها في سيادة القانون؟ ولماذا يرفض الديمقراطيون والليبراليون تسليح القضاء على رغم أنهم بدأوا ذلك بأنفسهم؟
لغة الانتقام تسود
وهيمنت لغة الانتقام على المشهد السياسي الأميركي منذ إدانة ترمب من قبل هيئة محلفين بولاية نيويورك، بتزوير سجلات مالية للتغطية على دفع أموال لممثلة إباحية قبيل انتخابات 2016، وتحول الغضب بين حلفاء الرئيس السابق إلى مطالبات باتخاذ إجراءات قانونية مماثلة ضد الرئيس بايدن، واستخدام كل أدوات السلطة المتاحة ضد الديمقراطيين بما في ذلك التحقيقات والملاحقات، سواء كان ذلك في مجلس النواب أو عبر الأجهزة القضائية المختلفة، إذ لم يعد غالبية الجمهوريين يخفون نياتهم بلغة مخففة كما كانوا يفعلون في السابق.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك التوجيه الذي أصدره مستشار ترمب ستيفن ميلر على شبكة "فوكس نيوز"، حين طرح سلسلة من الأسئلة على الجمهوريين على المستويات كافة بما في ذلك المدعون العامون المحليون، مستفسراً عما إذا كانت كل لجنة في مجلس النواب يسيطر عليها الجمهوريون تستخدم سلطة الاستدعاء بكل الطرق التي تحتاج إليها الآن، وما إذا كان المدعون العامون في الولايات والمقاطعات الجمهورية يستخدمون كل جانب من جوانب سياسة الحزب الجمهوري وسلطته للتنافس مع الماركسية وهزيمة هؤلاء الشيوعيين، في إشارة انتقادية إلى الديمقراطيين.
ودعا كبير الاستراتيجيين السابق لترمب ستيفن بانون المدعين الجمهوريين في جميع أنحاء البلاد، ليصنعوا اسماً لأنفسهم من خلال محاكمة الديمقراطيين.
العين بالعين
ودعت مقدمة البرامج الحوارية المحافظة ميغان كيلي إلى تجاوز الخط الأحمر، وتوعدت الديمقراطيين بالندم على اليوم الذي قرروا فيه استخدام الحرب القانونية لإيقاف مرشح رئاسي على أساس مبدأ العين بالعين، فيما كتب السيناتور ماركو روبيو وهو أكبر جمهوري في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ والذي يتنافس على أن يكون نائباً لترمب، أن الرئيس بايدن كان رجلاً مختلاً يدعمه أشخاص أشرار وحان الوقت لمواجهة النار بالنار، مستخدماً رموز اللهب التعبيرية لتمثيل النار على حسابه بموقع "إكس".
ومن بين المطالبين بمحاكمات "العين بالعين" متخصص القانون في جامعة كاليفورنيا بيركلي البروفيسور جون سي يو، الذي صاغ مذكرات قانونية في السابق لإدارة جورج دبليو بوش، إذ كتب في مقال نشرته صحيفة "ناشيونال ريفيو" مطالباً الجمهوريين بتوجيه اتهامات ضد المسؤولين الديمقراطيين، وحتى الرؤساء من أجل منع القضية المرفوعة ضد ترمب من تولي مكان دائم في النظام السياسي الأميركي، على اعتبار أن الانتقام العيني وحده هو الذي يمكن أن ينتج الردع اللازم لفرض نسخة سياسية من التدمير المتبادل المؤكد، وأنه من دون التهديد بمحاكمة قادة الديمقراطيين سيستمرون في توجيه الاتهامات إلى الرؤساء الجمهوريين المستقبليين من دون أي ضبط للنفس.
وذهب رئيس مجلس النواب مايك جونسون إلى أبعد من ذلك حين دعا عبر قناة "فوكس نيوز" المحكمة العليا إلى التدخل وإلغاء إدانة محكمة نيويورك، ومنح ترمب الحصانة من الملاحقة القضائية. وهو رأي تتباين فيه الآراء القانونية حول إمكانية تدخل المحكمة العليا الأميركية. وفي مجلس الشيوخ وقعت مجموعة من حلفاء ترمب على خطاب يعلنون فيه أنهم سيعارضون التشريعات الرئيسة ومرشحي إدارة بايدن.
ترمب يتوعد
وفي مقابلة إذاعية دعا الابن الأكبر لترمب، دونالد ترمب جونيور إلى محاربة النار بالنار في وقت أشار فيه الرئيس السابق نفسه إلى أنه قد يحاول الانتقام من هيلاري كلينتون، منافسته في انتخابات 2016 إذا عاد إلى البيت الأبيض، قائلاً على قناة "نيوزماكس"، "إنهم يقودوننا إلى طريق رهيب. أليس من الفظيع أن نزج بزوجة الرئيس ووزيرة الخارجية السابقة في السجن؟ لكن من المحتمل جداً أن يحدث لهم ذلك".
وعلى رغم أن الدعوات إلى استخدام النظام القضائي كسلاح ضد الديمقراطيين ليست جديدة، فإنها أصبحت أكثر كثافة وجدية من بعض الاقتراحات الأخرى للانتقام التي أطلقها الجمهوريون منذ صدور حكم الإدانة، مثل الدعوات للتحقيق مع المدعين العامين في قضية مانهاتن، وهي تمثل إظهاراً للولاء لترمب الذي يصف القضايا المرفوعة ضده بأنها صورة من صور التدخل الحزبي في الانتخابات، ويشير إلى إدارة جو بايدن على أنها شريرة وفاسدة كما أنها تشير إلى شعور متزايد بين بعض الجمهوريين بأن إدانة رئيس سابق بجريمة تزوير سجلات من الفئة (إي) وهي أدنى درجات الإدانة، تستهدف التأثير في الانتخابات بطريقة تجاوزت حدود المعايير القضائية.
هل المعركة وشيكة؟
ومن غير الواضح ما إذا كانت الدعوات إلى الانتقام القانوني ستؤدي إلى كثير من الملاحقات القضائية الفعلية، في الأقل في المدى القصير، لكن أحد فصول المعركة بدأ بالفعل حين أرسل الرؤساء الجمهوريون إلى ثلاث لجان بمجلس النواب التي تقود التحقيق في قضية عزل الرئيس بايدن، إحالات جنائية إلى وزارة العدل الأربعاء الماضي أوصوا فيها بتوجيه اتهامات ضد نجل الرئيس هانتر بايدن وشقيقه جيمس للإدلاء بتصريحات كاذبة أمام الكونغرس، على اعتبار أن هذه الأكاذيب تشير إلى دور بايدن في محاولة للاستفادة من تعاملات عائلته التجارية عندما كان نائباً للرئيس، وهو ما ينفيه بايدن وعائلته.
ولا توجد مؤشرات قوية حول المدى الذي يمكن أن يسير فيه الجمهوريون سعياً لمساءلة بايدن في مجلس النواب، طلباً لمحاكمته في مجلس الشيوخ وعزله من منصبه مثلما فعل الديمقراطيون بترمب مرتين خلال رئاسته، إذ لا يوجد توافق كامل بين جميع الجمهوريين في مجلس النواب وبخاصة أن غالبيتهم أصبحت محدودة للغاية في المجلس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك يظل تركيز الجمهوريين منصباً على الجانب القضائي بصورة أكبر، وتستند حجتهم الأساس في ذلك إلى أن إحدى القضايا الجنائية الأربع المرفوعة ضد ترمب في أربع ولايات قضائية مختلفة غير شرعية، وليست أكثر من مجرد سلاح سياسي لنظام العدالة بحسب ما يقولون، ويستمرون في طرح النظرية القائلة إن جميع الحالات الأربع هي نتيجة مؤامرة من قبل بايدن، ويرفضون نظرة الديمقراطيين بأن ترمب متهم بارتكاب جرائم بناء على الأدلة.
استهداف سياسي
ويشير الجمهوريون إلى عناصر حقيقية في القضية لتبرير أنها ذات دوافع سياسية، وعلى سبيل المثال ينوهون بأن المدعي العام المنتخب في قضية نيويورك ألفين براغ وهو ديمقراطي، تعهد ببدء التحقيق مع ترمب خلال حملته الانتخابية لهذا المنصب خلال عام 2021، وتبرع القاضي في القضية نفسها خوان ميرشان بمبلغ 15 دولاراً لبايدن في 2020 ولديه ابنة تعمل في السياسة الديمقراطية، وانضم المدعي العام ماثيو كولانغيلو إلى مكتب براغ بعد أن خدم في وزارة العدل خلال إدارة بايدن.
ولكن القاضي ميرشان نفى أن يكون تبرعه السابق أو عمل ابنته أثرا في حياديته، وانتقد المدعي العام الأميركي ميريك غارلاند فكرة تورط الحكومة الفيدرالية باعتبارها نظرية مؤامرة خلال مثوله الثلاثاء الماضي أمام اللجنة القضائية بمجلس النواب، ووصفها بأنها هجوم على العملية القضائية، مشيراً إلى أن وزارة العدل والحكومة الفيدرالية ليس لها سلطة على المدعي العام لمنطقة مانهاتن أو ولاية نيويورك التي تطبق قوانين الولاية.
ويرد الديمقراطيون بأن عدداً من أبرز أعضائهم في الكونغرس يواجهون أيضاً محاكمات رفيعة المستوى، مثل سيناتور نيوجيرسي بوب مينينديز الذي يحاكم حالياً بتهم الرشوة الفيدرالية في نيويورك، في حين تم اتهام النائب هنري كويلار من تكساس وزوجته الشهر الماضي بتهم التآمر والرشوة.
ترمب أشبه بدبس
ومع ذلك يرى كبير الاستراتيجيين في مؤسسة التعليم الاقتصادي جوناثان ميلتيمور أن هناك أوجه شبه كثيرة بين تجربة المرشح الرئاسي السابق يوجين دبس والرئيس السابق ترمب، فخلال يونيو (حزيران) 1918 قرب نهاية الحرب العالمية الأولى ألقى المرشح الرئاسي للحزب الاشتراكي الأميركي يوجين دبس خطاباً لاذعاً مناهضاً للحرب، أمام حشد من الناس في أوهايو حيث سخر من قانون التجسس الذي وقع عليه الرئيس وودرو ويلسون ما جعل انتقاد القانون جريمة.
ولأن دبس وصف فكرة أن أميركا تكافح من أجل جعل العالم آمناً للديمقراطية بأنها هراء وفكرة متعفنة، اعتقل ووجهت إليه 10 تهم بالتحريض على الفتنة ودين في النهاية بتهمة التحريض وعرقلة القانون، وحكم عليه بالسجن لمدة 10 أعوام وظل مرشحاً للرئاسة من داخل السجن عام 1920 وحصل على رغم ذلك على مليون صوت انتخابي.
ولهذا حظيت إدانة دبس بالاهتمام عام 2016 بعد أن هدد ترمب خلال حملته الرئاسية بسجن خصمته السياسية هيلاري كلينتون إذا انتخب رئيساً بسبب مخالفتها القانون، واستخدامها بريداً إلكترونياً خاصاً بدلاً من البريد الإلكتروني الرسمي، ثم حذفها عشرات الآلاف من الرسائل المهمة من البريد الخاص بها.
وعلى رغم أن تهديدات ترمب كانت عقيمة فإنه لم يقاض هيلاري كلينتون بعد فوزه بالانتخابات، مما اعتبره البعض تصرفاً حكيماً لأن أحد الأشياء التي جعلت أميركا فريدة من نوعها، أن الرؤساء امتنعوا منذ إدانة دبس عن استخدام القوة الهائلة للدولة لاستهداف المعارضين السياسيين والرؤساء السابقين.
أما الآن فإن الصورة تبدو مختلفة لأنه إذا فاز ترمب بالرئاسة مرة أخرى، سيكتسب سلطة هائلة لتنفيذ أنواع الانتقام القانوني التي كان يشير إليها، إذ سيكون قادراً على مطالبة المسؤولين في وزارة العدل التابعة للبيت الأبيض بالتحقيق مع منافسيه ومحاكمتهم.
تأثيرات كارثية
ومع أن وزارة العدل الأميركية تتمتع تقليدياً باستقلالية كبيرة إلا أنها قد تخضع لسلطة ترمب لأن الرئيس يستطيع أن يأمر المدعي العام بالتحقيق مع أفراد معينين، مثلما فعل جون كينيدي في حملته الرئاسية عام 1960 حين تعهد باستهداف الزعيم العمالي جيمي هوفا، قائلاً إن المدعي العام الفعال بالقوانين الحالية الموجودة الآن يمكنه عزل هوفا من منصبه.
وبحسب رئيس مركز برينان للعدالة مايكل والدمان فإن محاكمة ترمب معارضيه ستكون بمثابة إساءة استخدام للسلطة، وسوف يعيد الولايات المتحدة إلى ما قبل فضيحة ووترغيت التي أجبرت الرئيس نيكسون على الاستقالة، عندما استخدم الرؤساء مكتب التحقيقات الفيدرالي ومصلحة الضرائب الأميركية لملاحقة من يتصورون أنهم أعداؤهم أو حتى مجرد معارضين حزبيين.
ولكن التأثير الكارثي لعمليات الانتقام القضائية يتمثل في تقويض الثقة في نزاهة نظام العدالة الجنائية، وهو تطور يمكن أن يكون له آثار عميقة في دولة كانت سيادة القانون فيها أساساً، وبخاصة أن ثقة الشعب الأميركي في الحكومة منخفضة منذ عقود لكنها بلغت مستويات قياسية من الانخفاض منذ عام 2023، ولن تقود الحملة المناهضة للعدالة إلا إلى تفاقم الوضع. ووفقاً لتقرير "مركز بيو للأبحاث" قال أقل من اثنين من كل 10 أميركيين شملهم الاستطلاع إنهم يثقون في قدرة الحكومة على القيام بما هو صحيح، وهذا هو أدنى مستوى من الثقة منذ 70 عاماً.
ويمكن أن يؤثر انعدام الثقة في الحكومة سلباً على المشاركة المدنية والقرارات السياسية، ويؤدي إلى تدهور الصحة العامة للمجتمع الديمقراطي لأن مشاركة المواطنين هي التي تساعد في تحديد الاتجاه الذي تشكله الحكومة، ويوفرون الخط الأخير للمساءلة عن تصرفات الحكومة.
وعندما يعمل المسؤولون الحكوميون الحاليون أو السابقون والقادة السياسيون على تقويض ثقة المواطنين في الحكومة، يفكك حاجز الحماية الأساس هذا مما يترك الطريق مفتوحاً أمام الشيء نفسه الذي سعى الآباء المؤسسون للولايات المتحدة إلى تجنبه، وهو حكومة لا تخضع للنظام وإرادة الشعب.
تهديد للديمقراطية
وإضافة إلى التأثيرات الداخلية تطفو التأثيرات الخارجية السلبية على السطح، وبحسب كبير الباحثين في معهد أبحاث السياسة الخارجية تشارلز راي تعمل الهجمات على النظام السياسي والقضائي على تهديد الديمقراطية، وتشجيع الدول الأجنبية للسعي إلى تقويض النظام العالمي الذي ساعدت الولايات المتحدة في تأسيسه والحفاظ عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كما أن الإجراءات المتخذة لتحقيق مكاسب قصيرة المدى لها أيضاً عواقب طويلة المدى، ولهذا تحتاج القوى السياسية والقضائية قبل اتخاذ أي إجراء إلى تقييم التأثيرات القصيرة والطويلة المدى، وتحديد ما إذا كانوا مستعدين للتعايش معها.