ملخص
المعروف ان الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي بيرانديللو لم يكتب مباشرة للتلفزة، لكن مؤرخي الشاشة الصغيرة يعرفون أن محطة "بي بي سي" حين قررت عام 1930 أن تخوض تجربة بث أعمال درامية على الشاشة، وجدت نفسها تختار عملاً لبيرانديللو هو عبارة عن مسرحية من فصل واحد عنوانها "رجل بوردة بين شفتيه"
في مجال الكتابة المسرحية وحدها، أنتج الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو الذي يبدو اليوم منسياً من قبل الجمهور العريض بصورة أو بأخرى، أكثر من ثلاث دزينات من نصوص للخشبة بين مسرحيات طويلة ومسرحيات الفصل الواحد، لعل أشهرها على الإطلاق مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" التي جددت في الكتابة المسرحية بأكثر مما فعلت أية أعمال تحديثية أخرى خلال الثلث الأول من القرن الـ20. ومن هنا اعتبر بيرانديللو، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1934، واحداً من أغزر الكتاب الإيطاليين، ولعله كان أيضاً واحداً من أكثرهم تجديداً على صعيد اللغة المسرحية، بل إن تجديداته الشكلية ستكون من علامات الحداثة في فنون الخشبة طول القرن الـ20 وعرضه. وكان المجال الذي برز فيه بيرانديللو على وجه الخصوص، المسرح والقصة القصيرة مع إطلالات روائية بين الحين والآخر. وفي المسرح، إذ كانت حداثة هذا الكاتب وغزارة إنتاجه المكتوب أساساً بلغة تسمى "صقلية" هي نوع من إيطالية محكية في الجزيرة الجنوبية، كان بيرانديللو واحداً من ثلاثة أو أربعة كتاب في العالم، أمنوا تلك النقلة المدهشة من كلاسيكية تعتمد على الحبكة والموضوع، مجددة في النظر إلى قضايا المجتمع (تشيكوف، سترندبرغ، إبسن...) إلى تفتيت للشكل المسرحي ساد أعمال بريخت ومن ثم مسرح اللامعقول (بيكيت، بونسكو، أداموف وصولاً إلى هارولد بنتر...).
لكن حداثة بيرانديللو واتسام عمله المسرحي بنزعة انتقالية واضحة، تجلت في مكان آخر، من المؤكد أن الكاتب لو عاش إلى ما بعد عام 1936، الذي توفي فيه، لكان أخذه في حسبانه وأبدع فيه أيضاً، وهو مجال الدراما التلفزيونية. صحيح أن بيرانديللو لم يكتب مباشرة للتلفزة، لكن مؤرخي الشاشة الصغيرة يعرفون أن محطة "بي بي سي" حين قررت عام 1930 أن تخوض تجربة بث أعمال درامية على الشاشة، وجدت نفسها بصورة طبيعية تختار عملاً لبيرانديللو هو عبارة عن مسرحية من فصل واحد عنوانها "رجل بوردة بين شفتيه".
تاريخ راهن للموت
والحقيقة أن هذه المسرحية كانت قبل أن تصاغ في عمل مسرحي ومن ثم تلفزيوني قصة قصيرة كتبها بيرانديللو عام 1923 بعنوان "الموت الآن". ولم تكن تلك المرة الأولى ولا المرة الأخيرة بالطبع، التي يحول فيها بيرانديللو قصة قصيرة له إلى عمل مسرحي. لكن "رجل بوردة بين شفتيه" اتخذت فرادتها، وإن جزئياً، من ذلك الاشتغال التلفزيوني عليها. مهما يكن من أمر، فإن المسرحية عاشت كذلك حياتها على الخشبة ولا تزال إلى الآن... بل إنها عاشتها أيضاً كأوبرا، في عام 2007، حين موسقها الملحن لوك بروايز، لتقدم للمرة الأولى في بروكسل على مسرح "دي مونت". فعمَّ تحكي هذه المسرحية القصيرة كي تثير كل ذلك الاهتمام لدى أهل التلفزيون البريطانيين، كما لدى أهل الأوبرا البلجيكيين؟
عن الموت، كما يشير عنوانها مواربة، ذلك أنه، في اللغة الطبية الرمزية، التي كان بيرانديللو يتقنها جيداً، تشير عبارة "وردة في الفم" إلى مرض عضال يصيب المرء ذات لحظة في حياته، فيحدد له موتاً سريعاً. وما المسرحية سوى نوع من السيرة لرجل أصيب بهذا المرض، ويعرف الآن أن الموت ينتظره وراء الباب، لذلك يحاول أن يعيش بنوع من الهدوء القاتل ليلته الأخيرة. والمسرحية هي وصف لهذه الليلة، وتحديداً من طريق الحوار.
لقاء صدفة في حانة
ذلك أن ما أمامنا إنما هو سهرة يتجاذب فيها أطراف الحديث رجلان التقيا صدفة في حانة ذات ليلة: أول الرجلين هو ذلك المحتضر الذي أشرنا إليه، أما ثانيهما فرجل أعمال فاته القطار الذي كان يزمع أخذه لسفر يتعلق بأعماله فآثر أن يلجأ إلى الحانة ليمضي فيها سهرته قبل أن يستقل القطار التالي عند الصباح. إذاً، يلتقي الرجلان هناك في تلك الليلة، ويبدآن حواراً، يعرفنا، نحن المشاهدين، إلى حال كل منهما وما يتوقع كل منهما للساعات المقبلة، وفي الوقت نفسه يضعنا أمام تناقضاتهما وأحزانهما، وجزء من ذكرياتهما. إن مثل هذا الحوار كان يمكنه أن يكون عادياً، بالطبع، لولا أن الموت ينتظر أحد الرجلين، ولولا أنه، هو، يعرف هذا... لكنه مع ذلك، يحاول الآن أن يعيش بكثافة، مذهلة، الأيام أو حتى الساعات الأخيرة من حياته. إن ثمة، بالطبع، ما هو متشابه في تصرف الرجلين على رغم الفارق الجذري بين ما ينتظر كل منهما: منتظر الموت، ومنتظر القطار. وهذا الشيء المتشابه هو أن كلاً منهما يشعر بأنه في اللحظة الحاضرة إنما يعيش بين انتقالين، بين حالين. ومع هذا ها هما ذان المحتضر والحي، يعيشان اللحظة بهدوء ويتحاوران بود ودعة، كما لو كان مصير كل منهما، بالنسبة إليه، مجرد دراما يعيشها آخرون وهما مجرد متفرجين عليها.
لحظة استثنائية
إنها، بعد هذا كله، لحظة تتميز بكونها استثنائية بالنسبة إلى المحتضر، حتى وإن بدت شديدة العادية بالنسبة إلى رجل الأعمال. وعلى رغم ذلك فإن الرجل الذي - بحسب تعبير بيرانديللو - يعيش لحظاته الأخيرة والموت فوق رأسه محدق به يدق الجرس داعياً إياه إلى السفر الأبدي، لا يقل هدوءاً واستمتاعاً باللحظة من الآخر، الذي، من ناحية مبدئية يعيش كثافة لحظة ستعود إلى عاديتها بعد ساعات حين ينطلق في قطاره، إلى شؤون أعماله ولا تعود تلك الليلة سوى ذكرى غريبة للحظة غريبة قضاها مع شخص غريب. والأهم من هذا أننا فيما نلاحظ أن الأول يكاد يحاول في كل لحظة أن ينسى ما ينتظره ليعيش كثافة ذكرياته وماضيه، متحدثاً في معظم الأمر وكأنه رجل يناجي نفسه، نلاحظ أن الثاني يمنعه التفكير في عمله عن ذلك... وسيستمر الأمر كذلك حتى نهاية المسرحية، إذ يكون التغيير الوحيد الذي تحدثه، هو ذاك الذي يحدث لدى المتفرج الذي سينكشف لديه هو، دون الشخصيتين الأساسيتين، البعد الجدلي الذي يكون أصلاً ما يحرك ويضفي الحياة، على، حوار الرجلين، وهو، على أية حال، حوار يبدو أشبه بمونولوغين، إذ إن وجود كل من الشخصين في مواجهة ذلك الآخر الغريب، والنقيض منطقياً، لن يكون سوى مبرر لقيام كل منهما بالحديث عن نفسه وتاريخه واهتماماته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعي رجل يموت
الأول، المحتضر، يبدو واضحاً أنه يلجأ - على رغم آلامه - إلى أقصى درجات التبصر والوعي كي يتسنى له أن يحلل، بما يرضيه فكرياً وعاطفياً، آخر الأحاسيس والمشاعر التي تتاح له في نهاية حياته الدنيوية. وهكذا نراه، أمامنا، يختبر ما يمر به، ولكن في الوقت نفسه الذي يربط فيه هذا كله، بكل ما مر معه طوال حياته، مستذكراً حتى ما هو أكثر يومية في تلك الحياة - وفي شكل يكاد يقول لنا إن صمويل بيكيت قد عرف هذا النص عن قرب وتمازج معه ليكتب واحدة من أجمل مسرحياته "نهاية اللعبة"، مع العلم أن صاحب "في انتظار غودو" كثيراً ما أتى على ذكر الدين الفكري و"العاطفي" الذي كان لبيرانديللو عليه - ومن الواضح أن المحتضر، في استعادته الآن شريط حياته، يكتشف، أمامنا، كم أن كل لحظة عاشها كانت مهمة، حتى وإن لم تكن قد بدت كذلك. وعلى هذا لن يفوتنا أن نلاحظ كم أنه الآن، وقد تحول كل ما في حياته سابقاً، إلى ذكريات هي الآن في طريقها إلى التلاشي، يحس بتلك اللحظات ويشعر تجاهها بنوع من السعادة المتأخرة.
دعوة للحياة في عمل ذهني
في نهاية الأمر، نحن هنا أمام عمل ذهني... صحيح أن الموت وانتظار حتميته هو موضوعه الأساس، لكنه في الوقت نفسه عمل عن الحياة، بل دعوة إلى عيش الحياة بكل كثافتها وحتى الرمق الأخير. من هنا، حتى وإن كان نقاد كثر قد رأوا نوعاً من التشاؤم في رصد المصير الحتمي لشخصية المحتضر، فإن نقاداً آخرين، أكثر دراية بتفاصيل كتابة بيرانديللو، أدركوا الجانب الحيوي من النص... ما برر في رأيهم إقدام محطة "بي بي سي" باكراً جداً على تحويل هذا العمل إلى أول دراما تلفزيونية تبث أمام أعين الجمهور العريض. ومن هنا ما أشرنا إليه، أول هذا الكلام، من أن بيرانديللو (1867 - 1936)، لو أنه عاش أكثر، لبدا معظم عمله قابلاً لأن يتجه ليصبح أعمالاً تلفزيونية، شرط أن تكون التلفزة من الذكاء بحيث تفهم حقاً الإمكانات الماثلة في قلب عمل كان همه الأساس - في جوهره كما في شكله - سبر العلاقة بين العمل الفني ومشاهديه.