Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رواية كامو "الغريب" في السينما: فيلم وجودي داخل العبثية خارج الإنسان

الحكم بالإعدام على ذلك اللامبالي لمجرد أنه رفض أن يكذب بعدما قتل العربي بدم بارد

 ألبير كامو (1913 – 1960) (الموسوعة الفلسفية)

ملخص

 من الأمور اللافتة في هذا السياق أن ألبير كامو (1913-1960) حين كتب "الغريب" كتبها في الوقت نفسه الذي كتب فيه "أسطورة سيزيف"، مما جعل كثيراً من الباحثين يرون أن العملين يشكلان عملاً واحداً يتسم بسمات فلسفية – روائية، تعبر عن تأكيدات كامو نظرته إلى الوجود بوصفه لعبة عبثية.

حتى ولو كان جان - بول سارتر يرفض أن يسمي "الغريب" لألبير كامو رواية، إذ كان يعتبرها مجرد تتابع لأحداث ومواقف واستفهامات عبثية، فإن ذلك لم يقلل من شأن احترامه لها ولكاتبها.

والحال أن كتب تاريخ الأدب استوحت لاحقاً من سارتر هذا الموقف، لتتحدث غالباً عن "الغريب" بصفته "نصاً لكامو". أما السينمائي الإيطالي لوكينو فيسكونتي، الذي حول "الغريب" ذات مرة إلى فيلم سينمائي، فيراه كثر من أفلامه القوية، فقد كان ينظر إليها باعتبارها الرواية التي خلقت لتكون فيلماً يعتمد البعد البصري.

 رأى فيسكونتي أن في مثل "الغريب" أعمالاً تعجز الكلمات عن وصف ما يحدث فيها ومبرراتها، فلا يعود المبدع قادراً إلا على اللجوء إلى اللغة البصرية، غير أن كامو، حين كتب هذه الرواية ونشرها عام 1942، لم يكن يتوخى منها أن تكون "مسودة" لسيناريو سينمائي، وكان يريد منها أن تكون تعبيراً حاداً عن "مأساة الإنسان في هذا الوجود، إذ مآله الموت لا محالة في عالم لا يمكن لهذا الإنسان أن يفهم دلالته وسرّ وجوده"، ومن هنا فإن كامو، حين كتب "الغريب" وبقية أعماله، كان تعبيره واضحاً عن تمرده على الحاضر ويأسه من المستقبل "الذي لم يعد قادراً على أن يعدنا شيئاً".

 

الحواريون أبطال

ومع هذا لم يفت عدداً من الدارسين والنقاد أن يقولوا إن "يأس كامو لم يكن يأساً مطلقاً، إذ إنه في الوقت نفسه الذي كان يؤكد تمرده على عبثية الوجود، كان يرى أن الإنسان إنما يعثر على عظمته الحقيقية في اعترافه الشجاع بعبثية وجوده".

ومن هنا فإن "الفلسفة التي كانت تقف وراء أفكار ألبير كامو كانت تهدف إلى مد الشرط الإنساني بنبل عميق خال من أي تعاطف مقصود، نبل يجعل من حوارييه أبطالاً"، ومن هنا فإن كامو يصنع بالتعارض مع المستقبل الذي يراه كاذباً ومزيفاً حاضراً يتجدد في صورة متواصلة، حاضراً حقيقياً يستحق أن نعيشه لو كنا متمردين عليه.

والحقيقة أن تعمقنا في طرح أسئلتنا حول "الغريب" كفيل بأن يوصلنا إلى هذا الاستنتاج، بل هو كفيل بأن يماثل بين موقف كامو المفترض وموقف مبدع آخر كان تراجيدي النزعة، هو أندريه تاركوفسكي الذي كان يرى أن المتشائمين بالمستقبل هم أكثر محبي الحياة ومتمردي الحاضر وضوحاً وصدقاً.

وكل هذا يبدو في السياق تناقضاً، لكنه في حقيقته ينتمي إلى ذلك التناقض الخلاق الذي من خلال إعطائه الفن معناه ينحو إلى إعطاء الحياة نفسها معناها، وما قراءة "الغريب"، سواء كانت رواية أو نصاً أو مشروع عمل بصرياً، سوى تشديد على هذا.

ومن هنا يكون السؤال الأول من هو ميرسو بطل "الغريب"؟ ولماذا هو غريب؟ إن أهمية طرح هذا السؤال تنبع من واقع أن "الرواية" كلها قائمة حول ميرسو وغربته، وأن يطل القارئ على شخصية ميرسو ودوافعه، إن كانت له دوافع، معناه أن يغوص في عمق الرواية كلها.

اللامبالي

ميرسو هو الشخصية الرئيسة في الرواية، إنه يقدم إلينا منذ البداية شخصاً لا مبالياً ومكتئباً ومقتلعاً على الدوام من أي مكان يشعر بالانتماء إليه، وهو كما يمكننا أن نقول عن حق، "رجل يعيش في التفاصيل، ولا يمكنه أبداً أن يؤقلم أياً من الأمور على هواه".

أما العالم بالنسبة إليه فسلسلة متواصلة من اللحظات التي تبدو له فارغة حيناً ومملوءة بأمور لا دخل له فيها أحياناً أخرى، وداخل هذه اللحظات يحدث أن تجمد كلمة أو حركة أو زاوية من شارع أو صورة للشمس، أما ما يرعبه أكثر من أي شيء آخر فهو ذلك الصمت الذي قد تلف الأشياء نفسها به في صورة مفاجئة، وقد انعزلت بفعل نظرته إليها، غير أن الخلاص الموقت هنا يكون لأنه لا يسعى أبداً إلى تركيز نظرته مطولاً على أي شيء كان، فهو عابر دائم ومرتحل دائم يقلب نظراته في كل شيء من دون أن يرى في الواقع شيئاً، فالأشياء موجودة دائماً لكنها لا تحمل أي معنى خاص بالنسبة إليه.

ومن هنا فإنه لا يشعر بأي ارتباط مع أي شيء، لا يشعر بأي تبرير لوجود الأشياء أو لوجوده الخاص، ولا يشعر بأية حاجة إلى مثل هذا التبرير، وذلك بكل بساطة لأنه لا يمتلك أي مشاعر خاصة تجاه أي شيء، أما مزاجه فعابر يرتبط بالأمور العابرة ولا يهمه سوى اللحظة الحاضرة يعبرها من دون أن يعيرها اهتماماً كبيراً بصفتها تابعة للحظة سابقة، سابقة للحظة آتية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مآسٍ خاصة

انطلاقاً من هذا كله يعيش ميرسو مأساته الخاصة، أو حتى مآسيه الخاصة، بوصفه متفرجاً سلبياً، حتى موت أمه لا يحرك فيه أي مشاعر خاصة، لذا علينا أن نتوقع أنه حين سيقتل الشاب العربي لاحقاً فإنه سيقتله بالصدفة ومجاناً من دون أي تخطيط أو كراهية وحتى من دون أي ندم، وحين سيقترف هذه الجريمة سيتعامل معها وكأن شخصاً آخر غيره هو الذي اقترفها، وحين يعتقل ويحاكم ثم يحكم عليه بالموت، سيظل من دون مشاعر ومن دون خوف أو اهتمام، وهو حوكم لمجرد أنه رفض أن يكذب، كان في وسعه أن يكذب وكان في وسع القضاة أن يصدقوه فينجو بجلده من الإعدام، ولكنه في الحقيقة غير قادر على الكذب ففي الكذب، بعد كل شيء، بقايا من شعور إنساني، وكيف يمكن لميرسو أن يبدو ذا مشاعر إنسانية ويكذب؟

كان كل ما فعله أمام المحكمة هو أنه روى ما حدث كما حدث تماماً، روى ما شاهده كما شاهده تماماً، كالصورة الفوتوغرافية، حين كان ينظر إلى ما حدث من دون أن يشعر به، وهو ما كان في إمكانه أبداً أن يحس ما حدث، ومن ثم يتناوبه أي شعور، ومن ثم يكذب لاحقاً.

هذا هو ميرسو في "الغريب"، إحدى أشهر الشخصيات في الأدب الفرنسي منتصف القرن الـ 20، وهو ابن للقرن الـ 20 هذا، على غرار "كاف" كافكا في "المحاكمة"، و"يوليسيس" جيمس جويس، بل حتى على غرار بطل روبرت موتسيل في "الرجل البلا سمات"، عار تماماً من كل شعور، من كل ماض ومن كل مستقبل.

ولأنه هكذا لم يكن في وسع ميرسو أن ينتظر أو يتوقع شيئاً من أحد، ولم يكن في وسعه أن يعد أحداً بشيء، وإذا كان قد ظل مخلصاً لأحد فإنه بقي مخلصاً لطابعه هذا حتى اللحظات الأخيرة، حين رفض إغواء الخلاص وقد عرض عليه، لأنه لو وقع تحت سطوة ذلك الإغواء وقبل بأن ينقذ سيفقد كينونته نفسها، وهو ما كان ليرضى أبداً بذلك الفقدان لأنه سيعيده لسجن العالم والوجود، وهو أمر لم يكن يريده.

ومن هنا التجأ إلى صمته مصعّداً إياه محولاً، حتى من دون أن يدري، هذا الصمت إلى شاعرية مطلقة ومحولاً نفسه، كما يقول بعض دارسي كامو، إلى "شهيد للكينونة في طبيعتها المطلقة البريئة"، راضياً بهذه الشهادة "خلاصاً وحيداً له " في نهاية الأمر.

سيرة سيد العبث

ومن الأمور اللافتة في هذا السياق أن ألبير كامو (1913-1960) حين كتب "الغريب" كتبها في الوقت نفسه الذي كتب فيه "أسطورة سيزيف"، مما جعل كثيراً من الباحثين يرون أن العملين يشكلان عملاً واحداً، يتسم بسمات فلسفية - روائية تعبر عن تأكيدات كامو نظرته إلى الوجود بوصفه لعبة عبثية، ومن المعروف أن كامو الذي ولد في وهران عبثي، ومن المعروف أن كامو الذي ولد في ومات في حادثة سيارة مفاجئة قبل حصول الجزائر على الاستقلال، نال جائزة "نوبل" للآداب عام 1957، عن مجمل أعماله الروائية والفكرية والمسرحية التي طبعت بطابعها العبثي، قراء منتصف القرن الـ 20.

ومن أبرز هذه الأعمال إلى ما ذكرنا "الطاعون" و"السقوط" و"البررة" و"كاليغولا"، وهو كان في بداياته حين بدأ بالعمل في الكتابة المسرحية في الجزائر نفسها ثم انتقل إلى باريس، حيث زاوج بين المسرح والرواية والصحافة وناضل، وإن كان بصورة ملتبسة في سبيل استقلال الجزائر، وأوصل اقتباس الإيطالي فيسكونتي لروايته "الغريب" في فيلم من تمثيل مارسيلو ماستروياني شهرة أدبه إلى جمهور السينما العريض.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة