Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فتيان دمشقيون في نزهة" جدارية المأساة السورية

نوري الجراح يواصل ملحميته الشعرية ويجذر نشيده في الفجيعة

من رسوم الفنان عاصم الباشا في الديوان (منشورات المتوسط)

ملخص

يواصل الشاعر نوري الجراح في مجموعته الشعرية الجديدة "فتيان دمشقيون في نزهة" رسم جداريته الكبرى، بل تجربته الشعرية الممتدة لأكثر من 40 عاماً، صاقلاً رؤية الذات المنصهرة مع آلام الشعب السوري في معاناته المتمادية. ويعتمد الخلفية الأسطورية اليونانية والمشرقية، بغية بناء رؤية شعرية خاصة ذات معان إنسانية عميقة.

يقول نورثروب فراي، في سياق بحثه المعنون "شيفرة الرمز الكبرى" عن الصلة التي تربط الشعر بالأسطورة، إن "الأدب هو سليل الأسطورة الأول"، ونقول إن الشعر المحظي الأكبر لديها ما دام ابنها المدلل أو المعذب، بل هو أحد تجلياتها وتحولاتها المعاصرة، والضنين بتشكيل اللغة الشعرية، وتعميق دلالاتها وأبعادها. إذ يريد الشاعر اللائذ بالرمز وبالأسطورة، من القارئ أن يذهب دوماً إلى ما يتجاوز سطح الكلام، أي أن يتمثل معاني مكابدة الشاعر وشخوصه من منظار الأسطورة، فيرى "بعين لها دموع وإقبال لها رجوع" على قولة النفري، وبمراس سبق له أن اكتسبه في بسط معارضات لشعر كافافي اليوناني كما في "في انتظار البرابرة".

يصح هذا القول في شعر نوري الجراح (1956) الشاعر السوري، وفي شعر سائر الشعراء عرباً وأجانب ممن سلكوا هذا السبيل، أو حاذوه زمناً ثم انصرفوا عنه إلى عالمهم الخاص، أمثال خليل حاوي وأدونيس ومحمود درويش وبدر شاكر السياب وغيرهم.

في مجموعته الشعرية الجديدة "فتيان دمشقيون في نزهة" الصادرة حديثاً (2024) عن دار المتوسط، يستأنف الشاعر رسم جداريته الكبرى، بل تجربته الشعرية الممتدة لأكثر من 40 عاماً، صقلاً لرؤية الذات منصهرة مع آلام الجماعة (الشعب السوري) في معاناته المتمادية من الاستبداد والتهجير والنفي، وتسامياً بلغته المضمخة بالأساطير اليونانية وتلك المشرقية المساهمة في بناء رؤية شعرية خاصة ذات معان إنسانية عميقة - على ما يريد لنا فرويد وكارل يونغ معاً - كان سبق للشاعر أن أرسى دعائمها في أعمال شعرية سابقة.

"أنا أليعازر الطائف بقدمين مجرحتين على صخور ابتلعتها الأمواج/ في لجج تبرق" ("لا حرب في طروادة").

أناشيد وقصائد

إذاً يتشكل كتاب "فتيان دمشقيون في نزهة"، أعني مجموعة الشاعر نوري الجراح الجديدة، من قسمين كبيرين، ينطوي كل منهما على أناشيد، وهذه الأناشيد تتكون بدورها من قصائد متفاوتة من حيث حجمها ومكانتها داخل النشيد، فعلى سبيل الإيضاح ثمة 16 نشيداً ذات عناوين ترد على التوالي، وهي: رؤيا الهارب من الطغيان، والألواح السبعة، وفاكهة الصيف في صحاف، والقصيدة والشاعر، وفتيان دمشقيون في نزهة، وأنشودة قدموس، وصورة تذكارية لفتى بجناحين، وجنازة قوس قزح، ومرثية المدينة التي ضيعت، وأنشودة أبولودور الدمشقي، وقناع يتمرأى في قناع، وفتية من دورا أوروبوس هاربون من فيلق ساساني في صيدون، والغزاة يولدون في المدينة، ووصول البرابرة، ونشيد الأرض.

ولكن ماذا يمكن القول عن وجهة النظر، أو عن تكوين الخطاب الشعري في هذه الأناشيد، طبعاً وفي سائر القصائد؟ نقول إن النص الشعري فيها غالباً ما ينطق به قائله بضمير المتكلم، موحياً بصدور الكلام عن ذات ناطقة عن كائن، وإن يكن معاصراً، فإنه واصل أبعاد ماضيه البعيد والأبعد (القرن الأول للميلاد، زمن أبولودور المعماري الدمشقي العظيم، والقرن الثاني الميلادي زمن دورا أوروبوس المدينة الفراتية العصية، والساقطة في أيدي الفرس، أواخر القرن الثاني، بعد طول حصار) بأبعاد حاضره، وبمعاناة شعبه السوري، في مطلع الألفية الثالثة من القرن الـ21. ولعمري هذا دأب الشاعر الرمزي الذي يذوب صوته في أمداء يختلط فيها الزمنان، ويندمج وجدان الأنا المكلومة بوجدان الجماعة المضطهدة والباحثة عن ملاذ آمن من القتل الحر، ويتحد مجد التاريخ بخزي الحاضر، حتى إذا ما صفي الكلام، أعني الشعر، فلا يبقى منه غير تلك الصرخة العالية، صرخة الاعتراض والرفض بوجه استبداد ماحق، ونقشتها في النفوس الأساطير وشخوصها العابرة الأزمنة، فلا امحاء لها ولا انطفاء.   

تحولات الذات والجماعة  

في لغة شعرية على حد وسط بين قصيدة النثر، والشعر الحر، وذات إيقاعات خفرة وصيغ مبتكرة، ومسرى كلامي مدرك لتوازنه، يعبر الشاعر الجراح ، لدى كل وقفة أو نشيد، أو قسم من المجموعة الشعرية عن حالة أو يبتدع موقفاً تكون فيها الذات الشاعرة إما شاهدة ومؤاسية، وإما رائية مختلقة ورائية، على ما يمكن القارئ تبينه في النشيدين الأولين (رؤيا الهارب والألواح السبعة) على سبيل المثال، إذ تتقمص ذات الشاعر في الأول جسد الفتى "الهارب من الطغيان"، وهو يتقلب على شاطئ غريب، أو ظاناً أنه كائن بحري، تزحمه السرطانات والأشنات والأصداف وتحيره الجهات، فلا يعرف حراكاً ولا يقوى على عبور. ولعله في هذا إيحاء بمأساة الجماعة التي ينوب عنها "الهارب"، أعني السوريين - وغيرهم ممن استحدثتهم صراعات السلطة، ودفعت بهم إلى المنافي، عبر لجج البحار القاتلة، أو عبر البوادي الماحلة. أما نشيد "الألواح السبعة" ففيه يحاكي الشاعر لعبة هوميروس، ناظم الإلياذة على ظن النقاد، فيبتدع ذاتاً لراو أعمى، يقوده فتى من أعزة الدمشقيين لا يلبث أن يسقط صريعاً، في حمأة الانتفاض. والأهم من هذا أن الشاعر، إذ يستعير ذات الأعمى، يمضي إلى ابتداع مشاهد وكائنات وصور وتهويمات جديرة بما أنتجه التخييل السوريالي المنفلت من عقال الوعي، وتكون فيها شخصية الأعمى مدونة حال الضيق العارم من الطغيان.

"الغيوم تساقط في حجرتي / سريري يعج بالقوارب / وجسدي دمية ضخمة على ساحل تبلغه موجات لاهثة... كيف لي أن أخطو الآن؟/ كيف لي أن أنفك وأروم الهناك؟..." (الهارب من الطغيان).

"شكراً لك أيها الصبي لأنك، من دون الجميع، رأيتني الأعمى، وأعطيتني يدك ودللتني على الطريق، شكراً لك أيها الصبي الذي سيكبر ويلوح لي من وراء الأبصار، فتى يلوح وفي حنجرته المشروطة هتاف شجي، جسد يافع مثقوب بالرصاص، حملته الأصوات على أكتاف فتيان تحدروا من كهف في جبل وملأوا المدينة بالجنازات..." (ص:13).

يمكن القول هنا إن الشاعر في ابتداعه تلك المشاهد المتخيلة، المرعبة والمثيرة للدهشة والغرائبية في آن، إنما كان يترسم فيها سبل شعراء أمثال تي.إس. إيليوت وعزرا باوند وديرك والكوت وغيرهم، في تشكيله عالم الخراب الإنساني العميم، من خلال تشريحه خراب دمشق، واستبصار أمداء خلاصية، يطلبها الشاهد الأعمى بحواسه الباقية، بحسب حكاية الجراح، وتؤازره ذات الشاعر في تأثيثها وبلورتها على صورتها الأكمل.

رثاء المدينة والتاريخ

عندئذ، لا يغيب عن بال الشاعر نوري الجراح، لدى كل منعطف، ومشهد شعري أو قصيدة تفصيلية في نشيد، عبر مجموعته الشعرية الجديدة، أن يرثي مدينته دمشق، مرة على لسان الشاهد الأعمى هارباً من الطغيان، ومرة أخرى بلسان شخصية أبولودور معماري الإمبراطورية الرومانية الدمشقي الشهير، ومراراً بلسان أحد مواطني مدينة دورا أوروبوس، الفراتية الرومانية المنيعة، الهاربين من فيلق ساساني (فارسي) في صيدون، وبلسان ذات عتيقة، بل معتقة بتداعي التواريخ وصناعها وأوهامها، وعدوانية ثأرها غير المشبع بتوالي الحقب، ورائية بعين الماضي المتواتر في الحاضر إلى دمشق وأخواتها، من دون أن ينسى الإشارة إلى من تسبب بآلام مدينته العظيمة،  (المرمز إليها بطروادة) وخرابها، التي يرمز إليها بمدينته (دمشق) ضحية الغزاة الهابطين إلى المدينة، على حد وصفه، ومعارضته للشاعر كافافي، في قصيدته "بانتظار البرابرة"، والمهداة إلى أهليه السوريين.

"من أي الطرق أصل إليك، يا دمشق، يا مدينتي المسحورة / أي باب أطرق ليفتح لي، أنا الهارب وورائي سياط الصحراء؟" (ص:22). "أذكرك بأسمائك / يا دمشق / لعلي أهز رقاد من دفنوا تحت تلك الأسماء وذهبوا..." (ص:40). "ما الاسم الذي اختاروه للمدينة التي كان اسمها دمشق؟ بأصوات تغص بالدمع سينشد الطلاب في مدارس المدينة نشيدهم الوطني...". "لا أريد لعيني الكليلتين أن تريا من بعد هذه البساتين / ولا لقلبي أن يخفق مرة أخرى بحب هذه المدينة" (ص:44). "تكونين لؤلؤة في دمشق، وفي روما الصحراء خطوتي تهلك" (أبولودور الدمشقي، ص:46).

رمزية الزمنين

لا يخطئ القارئ إذ يصف شعر نوري الجراح، ولا سيما في مجموعته الأخيرة بأنه متحف، بل سجل متجدد لكل الأشكال الشعرية، من مثل القصيدة وقصيدة النثر والأنشودة والنشيد واللوح، التي استثمرها الشاعر من أجل أن يصير الشعر العربي المعاصر قادراً على التقاط اللحظة الدرامية الكبرى في تاريخ الجماعة التي ينتمي إليها، وأن يرتقي تالياً إلى ذروة جمالية تحسب للشاعر ولهذه الأشكال على السواء. ولئن كان التقييم النهائي لمنجز الشاعر الجمالي في هذا العمل عائداً لجمهور القراء آخر المطاف، فإن ما يمكن ملاحظته في هذه العجالة النقدية غير الشاملة، يشي بأن الشاعر اختط لنفسه سبيلاً، في لغته الشعرية الرمزية ذات المعاني الاجتماعية والسياسية الراهنة والإنسانية العميقة، وإن اختار من هذه الرموز (أبولودور المعماري الدمشقي الشهير، ودورا أوروبوس، وبوسيدون، وآلهة لاهية، قدموس، وأفروديت، وجبيل، وصيدون، والمعبد، وطرواديي العصر...) ما يتناسب مع بداية الحقبة الميلادية الأولى وما قبلها قليلاً، وإذ كان يسود النمط الحضاري الروماني في تفاعله الحي مع الحضارات الكنعانية والآرامية السالفة، فإنه عزم على إسقاط فداحة اللحظة الحاضرة وضراوتها ومرارة الهجرة والفرار من أمام الطغيان، والمقتلة المباحة التي كان طرواديو العصر (أي السوريون) ضحايا لها، في قوالب التاريخ وأوابده، ليحسب الحاسبون أن لا حدود ولا أفق زمنياً لهذا الأثر التدميري الرهيب الجاري بين ظهراني الشاعر السوري الشاهد والشهيد الافتراضي!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلى ذلك تلفت القارئ عناية الشاعر بأسلوبية المجموعة الشعرية "فتيان دمشقيون في نزهة" العامة، فضلاً عن عنايته بتشذيب قصائد النثر، المعتبرة الوحدات الشعرية الصغرى التي تتألف منها الأنواع الشعرية الوسيطة التي سبقت الإشارة إليها، وعنيت بها النشيد والأنشودة واللوحة وغيرها. على أن ينوع في صيغها وتراكيبها، لصالح توسيع نطاق الجملة النثرية، وتكثير الصور الشعرية المبتكرة، لصالح المشهدية الرؤيوية التي يسعى الشاعر إلى الخروج بها من كامل المجموعة الشعرية.

وما يلحظه القارئ أيضاً لدى تساؤله عن الأنواع الأصلية الكبرى التي لطالما نسبت إليها الأعمال الأدبية، أن الغنائية لم تغب عن الأجواء التعبيرية في شعر الجراح، وإن يكن الإطار السردي أو الوصفي أو التخييلي سائداً، بالتناوب في السياقات الشعرية على امتداد المدونة. هي الذات تبدو معذبة وملتاعة ومنذهلة لقساوة البعد، واستطالة الهجرة عن المدينة دمشق "نيب" الشاعر، ومهبط ألامه وآماله وإلهامه.

" يا لهذا الطريق، ويا لتلك السماء! / كم يطول بي الطريق ولا يلوح طائر في زرقة / ولا وحش في فلاة / ولا جبل يقول أنا دمشق" (ص:17).

لا يغيب الطابع الملحمي من المجموعة الشعرية ما دام الشاعر الجراح يتقصى مشاهد الفتيان القتلى على يد طرواديي العصر، وأوكل إلى ذاته الشاعرة النطق بلسان جماعة مقهورة مستضعفة ولائذة بالتاريخ وبقرابات البحر والسماء. أما الطابع الدرامي فماثل بدوره في الشعر، يحييه الشاعر بلجوئه إلى لعب الأقنعة حيناً، ولعب تلبس الشخصيات، وابتداع حوارات داخلية نابعة من تمثيلها الرمزي ووظيفتها في السياق الشعري. وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن الديوان ضم تخطيطات ورسوماً للفنان عاصم الباشا، ترافق القصائد وتحيطها بجو تشكيلي نابع من عمق المأساة السورية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة