Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البلجيكي سيمنون يصل إلى ذاته بعد مروره بشخصيات رواياته

"رجل كأي رجل آخر" حصيلة سنوات من البحث عن ذاك الذي يخال المرء أنه لن يعرفه أبداً

جورج سيمنون (1903 – 1989): ما الحياة سوى بحث عن الذات (غيتي)

ملخص

تعتبر شخصية المفتش ميغريه في روايات الكاتب البلجيكي جورج سيمنون، من الشخصيات الروائية الكبرى في القرن الـ20، غير أن ميغريه لم يعش في روايات سيمنون وحده، بل طبعاً عاش محاطاً في كل رواية بست أو سبع شخصيات كان يضطر بالضرورة للتعامل معها، وهذا بدوره جعل "موسوعة شخصيات سيمنون" تعد بالآلاف.

عاش الكاتب البلجيكي الاستثنائي جورج سيمنون (1903 – 1989) 86 سنة، واظب خلالها على كتابة الروايات والنصوص الأخرى طوال نحو نصف قرن قبل أن يعلن تقاعده في عام 1970، قائلاً إنه لن يكتب أية رواية بعد ذلك. لكنه كان كتب خلال سنوات إنتاجه ما معدله خمس روايات في العام مما جعل حصيلته تزيد على 250 رواية، وجعله حامل رقم قياسي عالمي في هذا النوع الأدبي. صحيح أن رواياته كانت بوليسية وشعبية، لكنها أتت منتمية في معظمها إلى الأدب الأكثر جدية، بحيث إن الشخصية المركزية في ما يزيد على 80 في المئة من تلك الروايات، المفتش ميغريه، تعتبر من الشخصيات الروائية الكبرى في القرن الـ20. غير أن ميغريه لم يعش في روايات سيمنون وحده، بل طبعاً عاش محاطاً في كل رواية بست أو سبع شخصيات كان يضطر بالضرورة للتعامل معها. وهذا بدوره جعل "موسوعة شخصيات سيمنون" تعد بالآلاف.

اكتشاف متأخر!

بعد تقاعده سيقول سيمنون إنه "الآن فقط" اكتشف أنه إنما استعار تلك الشخصيات في ملامحها وسلوكياتها وأخلاقياتها وحوادث حياتها، من أولئك البشر الذين عرفهم في حياته، مضيفاً "لكني اكتشفت أن أكثر من واحد منهم يشبهني. وكان ذلك قبل أن أصل إلى حقيقة أعجبتني كثيراً، وهي أن الوحيد بين مخلوقاتي الذي أريد أن أتطابق معه وربما فعلت أكثر مما أعتقد، كان ميغريه نفسه مع فوارق كثيرة بالتأكيد". وهنا يخبرنا سيمنون بأنه حين اكتشف هذه الحقيقة كان منهمكاً في كتابة مجموعة من نصوص "ما - بعد - الرواية" وتحضيرها للصدور في ثلاثة مجلدات ستبدو وكأنها حصيلة حياته هو نفسه وشغلته كتابتها سنوات ما بعد تقاعده بعنوان عام هو "إملاءات"، لكونها نصوص كان يمليها على آلة تسجيله ويعيد مساعدون له صياغتها بعد ذلك، ليصدر جزؤها الأول، "رجل كأي رجل آخر" عام 1970. والحقيقة أن تلك النصوص جميعها إنما كانت غايتها البحث عن ذلك الرجل الذي كانه جورج سيمنون نفسه. فهل عثر عليه؟

لكل إنسان رواية

ينطلق الكاتب في مجمل نصوص تلك "الثلاثية" إذاً من فكرة يعبر عنها بنفسه في واحدة من أولى صفحات الكتاب: ليست حياة كل إنسان في نهاية الأمر سوى رواية، لكنها ليست بالضرورة رواية بوليسية أو رواية استثنائية. ويستند سيمنون في سياق هذا التأكيد إلى من يدعوه "ناقداً كبيراً" لا يسميه لكنه ينسب إليه مقولة مفادها بأن كل واحد من البشر يحمل في داخله رواية. ولكن ليس من الضروري أن يكون لديه غيرها. وهذا الشخص يمكنه أن يروي لنا طفولته وصباه وكيف تعرف بزوجته وتزوجها وكيف مرت شهورهما الأولى وإلى آخر ما هناك، ولكن حين لا تعود الحكاية متعلقة به وبما عاشه هو نفسه، نصبح أمام حكاية أخرى تماماً. وذلك لأن الانتقال من وصف الذات إلى خلق الشخصيات الأخرى يتطلب موهبة تقوم على كيفية أن تضع ذاتك في جلد الآخرين. أن تبدع تلك الشخصيات الأخرى. "وهذا ما كانت عليه مهنتي شخصياً طوال 50 عاماً"، غير أن سيمنون إذ يؤكد هذا يخلص إلى أنه ذات يوم بدأ يدرك أن الأمر متعب إلى حد كبير. "وهكذا قررت أن أتوقف تماماً عن خلق الشخصيات ووضع نفسي في جلدها. وكنت في تلك اللحظة في الـ70 من عمري".

لكن سيمنون الذي كان يعيش ليعمل ولا يمكنه أن يعيش في الفراغ قرر ببساطة أن الوقت حان بالنسبة إليه حتى ينشغل برسم شخصيته نفسها وبشكل مباشر هذه المرة "أي ليس من طريق بطله الأثير ميغريه". بل بالتحديد "بدلاً من أن أسعى إلى معرفة كل شيء وأي شيء عن ذلك الكائن الذي يمضي وقته في التعمق لمعرفة كل شيء عن الآخرين، قلت إنه لا بد لي الآن من أن أحاول التعرف وفي العمق على ذاتي، أي على ذلك الكائن الذي أمضى حياته يتعرف وفي العمق على الكائنات الأخرى".

رغبة روائية حارقة

لقد أمضى جورج سيمنون معظم سنوات حياته تستبد به رغبة حارقة في كتابة الروايات، وطبعاً لم يكن فريد نوعه في هذا المجال، "ولكن تلك الرغبة كانت بالنسبة إلي ومنذ البداية نوعاً من التوق إلى البحث عن ذاتي، بحيث أن ما كنت، وما زلت أسميه بحثاً عن الإنسان ليس في حقيقته سوى بحث عن الذات. وذلك بكل بساطة لأني لست في نهاية الأمر سوى إنسان كأي إنسان آخر. ومهما يكن من أمر كنت أعرف دائماً أنني عبر كتابتي الروايات كنت دائماً ما يخامرني الانطباع بأنني إنما أتسلل إلى دواخلهم". وهنا يتحدث سيمنون عن أن "ثمة روايات تكتب من طريق الوعي الباطني، إذ يضع الكاتب نفسه تحت جلد شخصيته من دون أن يكون مدركاً إلى أين سيقوده ذلك. إنه سيتابع طريقه في ذلك المكان يوماً بيوم، وهو يجهل حتى لحظات النهاية، إلى أين ستصل به الطريق".

ولكن في النهاية يفيدنا سيمنون هنا كيف أن هذه البديهيات جميعها إنما توصله إلى السؤال الذي يراه مركزياً: ما الرواية؟ ليجيب جواباً يبدو بدوره بديهياً: إنها حكاية تتعلق بمجموعة من الأشخاص والأحداث تدور من حول شخصية مركزية. "يجمع المؤلف هؤلاء الناس جميعاً ولكن بعد أن يدخل هو نفسه في جلد تلك الشخصية المركزية ويصيغ حكايته. والحقيقة هنا أنني غالباً ما أكون حتى إلى ما قبل الفصل الأخير جاهلاً تماماً ما الذي ستنتهي الأمور عليه. لا أعرف ما الذي ستؤول إليه الأمور حقاً. وذلك لأن ثمة شعوراً يتملكني هنا بأن شخصية روايتي المركزية ستتبع الآن منطقها الخاص، وما علي أنا إلا أن أتابع التأزم الذي ستعيشه. وهذه النقطة بالتحديد كانت هي ما راح يبدو لي متعباً إلى حد لا يحتمل. وربما يمكنني أن أقول الآن إن هذا التعب هو الذي جعلني أتوقف فجأة عن كتابة الروايات. لم يعد في مقدوري أن أحتمل أكثر من ذلك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين سيمنون وميغريه

لقد توقف سيمنون بالتالي بعد إنتاج شديد الكثافة، ولكن السؤال يبقى: أفلم يكن عهد إلى مفتشه ميغريه الذي هو الشخصية المركزية في معظم رواياته بأن يحمل عنه ذلك العبء ويريحه من ذلك التعب؟ فكيف لم يكتف بأن يرمي الثقل كله عليه بوصفه أناه / الآخر؟ "سؤال وجيه" يقول سيمنون قبل أن يجيب بتأن: "في البداية كان ميغريه رجلاً هادئاً لبقاً يؤمن مثلي بالغريزة أكثر من إيمانه بالذكاء والبصمات والتحقيقات البوليسية المكثفة، التي كان يستخدمها بدقة لكنه لم يكن كثير الاعتماد عليها. والحال أننا، هو وأنا، سرعان ما بتنا نشبه بعضنا بعضاً ولو إلى حد ما. لكني عاجز الآن عن قول ما إذا كنت أنا من راح يدنو منه أم أن عكس ذلك هو ما حدث. بيد أني أعرف أنني رحت أستحوذ على عاداته وراح هو يستحوذ على عاداتي. ولأذكر في هذا السياق مثلاً أن كثراً كان يسألونني لماذا لم ينجب ميغريه أطفالاً مع أنه متزوج مثلي هو الذي كثيراً ما صورته محباً للأطفال راغباً في إنجاب طفل أو اثنين. لكني لم أستسغ أبداً أن أصور بطلي وهو عائد لبيته عند المساء غارقاً بالتفكير في تحقيقاته ليجد أطفالاً في انتظاره قد يوقظونه ليلاً ببكائهم أو آلامهم! ما الذي قد يقوله لهم؟ وماذ سيفعل لهم إن كانت زوجته متوعكة؟ كانت مثل تلك الإجابات مغلقة علي تماماً فجعلته من دون أطفال".

وبعد كل شيء لا شك أن ميغريه وكما سيقول سيمنون مراراً، الشخصية الوحيدة في رواياته التي تشاركه في عدد من النقاط الأخلاقية والجسدية وما شابه ذلك. ولسوف يبدو لاحقاً حين ستصدر ثلاثية "إملاءات" وكأنه احتفظ بكل ذلك للكتاب الذي وضع فيه جردة مساره المهني، ليصور من خلاله "الرجل" الذي كانه، ولن يكون في نهاية الأمر سوى "رجل كأي رحل آخر" وفي الأقل في تصوره الخاص!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة