ملخص
الوجوه التي تملأ معرض الرسام اللبناني محمود الزيباوي تبدو كأنها وجوه موتى أحياء أو ملائكة، لكن الضربة التشكيلية التي يجيدها الزيباوي دائماً ما تظهرها وجوهاً نضرة كأنها طالعة من فردوس مجهول
يعود الرسام اللبناني محمود زيباوي إلى المعترك الفني بعدما احتجب فترة، مؤثراً الرسم بصمت، بعيداً من الإعلام وسوق الفن اللبنانية التي تشهد حالاً من الفوضى، نتيجة الأزمة الشاملة التي يعانيها لبنان. كان ينتظر الفرصة السانحة ليقيم معرضاً يقدم فيه أعماله الجديدة التي أنجزها في محترفه. ولعل معرضه الذي يقام اليوم "تحت عنوان "في غاليري شريف تابت في بيروت، والذي يقدم فيه مختارات من جديده، يؤكد معنى انصرافه إلى الرسم خارج الضوضاء والموجات أو "الموض" الرائجة، فهو يطل حاملاً معه عالمه وأبجديته ووجوهه وطبيعته الصامتة، ولكن عبر الحفر العميق في اللوحة وتجلياتها وأبعادها الطبيعية والماورائية.
قد تذكر بعض الوجوه التي تطل هنا بوجوه سبقتها، فهي من المخلوقات الفنية التي ابتكرها الرسام، لكنها تختلف عنها في نضج ألوانها وتخمر كيميائها الروحية وصمتها وانغمارها في كينونتها الحية. حتى الطبيعة الصامتة تتجلى هنا أكثر فأكثر في تعبيريتها ذات البعد الوجداني والوجودي، وكأنها تشي بالتراب الذي هو تراب الطبيعة مقدار ما هو تراب الكائن الذي منه أتى وإليه يؤول. لكن اللافت جداً أن كائنات الرسام وطبيعته الصامتة تتوهج بضوء صارخ وخفي في وقت واحد، ضوء كأنه يأتي من الخارج بينما هو ينبثق من الداخل. ثمة وجه تحمله إحدى اللوحات وضمته بطاقة الدعوة، يشعر المشاهد حياله أنه وجه في حال من التجلي النوراني الذي اعترى وجه المسيح ووجوه المتصوفة، وفي حال من النشوة الحسية التي لا يغيب عنها الحبور والرغبة الدفينة. وكم يذكر وجه امرأة بعمقه وغنائيته واغترابه الداخلي، بوجه المطربة الكبيرة فيروز، بل بصوتها الذي تحول وجهاً، التي هي هنا الصوت اللامألوف، صوت الحضور والغياب، الطفولة والدهشة، فيروز الأغنية والموسيقى والمشاعر الحارقة.
الوجوه التي تملأ الصالة تبدو كـأنها وجوه موتى أحياء أو ملائكة، لكن الضربة التشكيلية التي يجيدها الزيباوي دائماً ما تظهرها وجوهاً نضرة كأنها طالعة من فردوس مجهول. هذه الحال هي نفسها في اللوحات الأخرى التي تبدو كأنها تصوير لآثار يتم اكتشافها. في هذا التشكيل المقدم بعناية محاولة حثيثة لإبقاء الأثر الناتج من الصورة الأخيرة للوحة عبر إعادة إنتاجه كما قدمه فنانو العصور القديمة وهذا هو مقترح الفنان في معرضه.
اللوحات المشغولة على ما يشابه أوراق البردى توحي إلى حد كبير بطقوس تحفل بها اللوحة. المشاهد يرى ذلك بوضوح. الفاكهة المطروحة والوجوه التي تعتلي الأعمال أيضاً تدعوه بعد رؤيتها معلقة في المعرض، إلى فكرة التجسيد الذي هو هنا تجسيد لحظات هاربة، في لوحة.امراة (خدمة املعرض)
في إحدى اللوحات نجد عيوناً مكحلة ولا يوجد هالات تحتها، يدفع هذا المشاهد إلى التساؤل عن الكحل وأين يكمن. العيون ووجوهها مشغولة من ألوان ترابية وأيقونية. الأحمر يحيل إلى الإنسانية المتألمة والأزرق إلى المعرفة الداخلية التي لا تدرك سوى بالقلب، أما الذهبي فالأبدية، والأصفر التنور، الأبيض الطهارة، الأسود الظلمة والمجهول، البني الأرض، والبنفسجي لون الاتحاد الروحي بالماوراء.
تشكل الوجوه ملامس الكتابة اللونية الأولى. لقد أعطاها الزيباوي فرادة، وأضفى عليها طابعاً قديماً وكأنه قصد أن يقول إنها أشخاص تاريخية حاضرة بقوة على ورق البردى. الشخوص على تنوعها تبدو شخصاً واحداً. العناوين تقول لنا إنه اختار أوجهاً بحالات معينة ووسمها بالاتساع، أوجه غلب عليها الاحمرار لكونها خفرة، ذات شفاه محددة جيداً. بل تبدو بالتكاوين نفسها ولكن التي تتجدد. ربما هو الذي جعلها مخلوقات على هذا النحو.
من ينظر إلى اللوحة ويعيد النظر فيها تبدو في كل مرة مختلفاً، تختلف أو تتجدد باختلاف زاوية النظر. كل مرة يلتفت إلى اللوحة من جهة يخرج منها كائن جديد، لا يمكن ضبطه بصفة، فاللوحة تتغير تبعاً للزاوية التي يراها منها المشاهد. يعيدنا الأشخاص الذين نراهم في اللوحة إلى أشخاص آخرين من زوايا مختلفة، نكتشف كيف يتغير الوجه حين تتغير الصفة الأبرز التي فيه. وجه حزين وباك. حزين وباك وكأن الوجه يبكي سواده. ودموع الفرح المخبأة في تقاسيمه تذكرنا بالفرح المضمر الذي فاته ولم يفرح به.
في القسم الآخر، أمام حفلة الورد يسأل الناظر لو كانت وردة واحدة تكفي؟ مجموعات متناسقة من ألوان مختلفة ومتفرعة. الفاكهة أيضاً بتشعباتها ووضعياتها المتنوعة. تتصل بصلة مع النسق المسيطر على الأعمال. تتحرك الكائنات في اللوحات بطريقة خفيفة وتتبدل وضعياتها من الوقوف إلى الانحناء. يتحرك الكائن الذي فيها كطفل وصولاً إلى عمر الكهولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يؤنسن الرسام الورد ضمن مجموعات تنقلنا إلى فكرة الإنسان الذي يمكنه أن يعيش ببساطة ضمن جماعة. بدورها تلك المنفردة والحزينة والترابية تعود إلى عصور سحيقة، عكس الورد التي هي إلى حد ما زاهية. كأنه الرسام مهد لاجتماع الوجوه باجتماع الفاكهة والورد التي نشترك معها في الطبيعة وتجلياتها. فكرة تحيلنا إلى تحصين أنفسنا بعناصر الطبيعة والعودة إليها. في لوحة "جفون رقيقة" نقرأ أننا يجب أن نقفل العين لكي نرى الجفون. ليس دائماً حين نفتح عيوننا نبصر. تمتلك الوجوه الفم ذاته والحركة التي تتم على الغالب من خلال العيون. تتغير العيون وتتبدل وتتحدث فقط من خلال شحطة إضافية أو أنقص، للعين.
حين نبصر فخارتين وأمامهما صمدية نرى أن بعض الوجوه تعطي الانطباع نفسه بأنك تتفرج على جماد. هو ذاته الإحساس الآتي من رؤية وجه جامد. هي الوجوه ذاتها التي فيها ألوان أكثر من غيرها. خليط أكبر من الألوان أعطى انطباعاً أكبر بشيء يقترب من الوحشة. هكذا تصل الرسالة من خلال الوضعيات والانحناءات والألوان وتبايناتها ولا تختلف بالتقنية.
في رحلة الرسوم المتشابهة يبدو تشكيل محمود زيباوي كأنه عملية تذكير بالتمايزات لشكل واحد، تمايزات أراد الفنان من خلالها التقاط تجليات الروحاني والمقدس، عبر وجوه قليلة الحركة تنتقل بين عالمين علوي وسفلي، في محاولة للوصول إلى نوع من التصالح مع المأساة عبر الصمت.