Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أميركا والصراع بين السرديات

الحرية المنفلتة التي يشهدها المجتمع تسهم في تدمير المنظومة القيمية التي كانت وما زالت عماد الحضارة البشرية

الديمقراطية الليبرالية منحت الأميركيين حرية أكبر من أي وقت مضى لكنها ضربت قيم المجتمع (أ ف ب)

ملخص

ليس بمقدور الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وثورة الذكاء الاصطناعي والحريات الفردية، على رغم أهميتها الكبيرة في حياتنا أن تملأ ذلك الركن الملهم في قلوب البشر الذي يملأه الله بالإيمان ودين القيم.

في منتصف الشهر الماضي جمعني إفطار رمضاني مع بعض السفراء العرب ومن الدول الإسلامية، حاليين وسابقين، مع ممثلي المنظمة الأميركية غير الحكومية المحافظة، المعروفة باسم "مراقبة الأسرة الدولية"، وخلال ساعات الإفطار جرى حديث شائق امتد لساعات عديدة حول نتائج أعمال الدورة الـ67 للجنة الأمم المتحدة حول وضع المرأة، بخاصة تلك الموضوعات التي تصدرت نقاشات هذا العام، إلا أن جزءاً مهما من النقاش تركز على إشكالية الأجندات التي تحاول بعض الدول الغربية فرضها على سياقات العمل في لجان الأمم المتحدة المختلفة، وتحديداً أعمال اللجنة الثالثة المعنية بالشؤون الاجتماعية والإنسانية.

سرعان ما انتقل النقاش حول الجدل الجاري في المجتمع الأميركي بين التيارين المتصارعين في المجتمع، الإحيائي المحافظ، الذي يدافع عن القيم الروحية والدينية للمجتمع الأميركي، والليبرالي التقدمي المدافع عن سقوف الحريات الفردية غير المقيدة، وقدمت شارون سلاتر رئيسة المنظمة المذكورة، عرضها لأخطار أجندات سمتها بالتدميرية على القيم التي قامت عليها أميركا، ودافع عنها الآباء المؤسسون.

واستعرضت سلاتر الأصداء الواسعة التي حصدها الفيلم الوثائقي بعنوان "الحرب على الأطفال" الذي بحسب المنظمة التي تبنت إنتاجه "يفضح الحرب الشعواء التي تشن على الأطفال اليوم من خلال الأيديولوجيات الجنسانية، والحوكمة البيئية والاجتماعية، ونظرية العرقية الحرجة، وإضفاء الطابع الجنسي على الترفيه، وكذلك الاتجار بالجنس واستغلال الأطفال جنسياً عبر الإنترنت، وتطبيق ’تيك توك‘ الصيني، وشركات الأدوية الكبرى".

في الواقع، فإن القضية شديدة السخونة في المجتمع الأميركي، وزاد من سخونتها كم الصراعات الفكرية والسياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين، وبروز تيار إحيائي محافظ بين الجمهوريين وقاعدتهم الشعبية يزداد انتشاراً، في مقابل تزايد نسب اللادينيين في المجتمع، ويزداد خوف الأسر على أبنائها بخاصة مع التوجهات لدى المدارس العمومية للترويج ونشر أفكار حرية الاختيار الجنسي بين الأطفال في سنواتهم الدراسية الأولى.

وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن الدين بمختلف تعبيراته وأطيافه يشهد انحساراً في المجتمع الأميركي واليوم صارت أميركا في المرتبة الـ12 أسفل قائمة الدول المتدينة في العالم في استفتاء شمل 45 دولة، ووفق الإحصاءات الرسمية قال 10 في المئة من السكان إنهم لا دينيون منذ 1990 لترتفع النسبة اليوم إلى 30 في المئة، هذا من دون حسبان شرائح مهمة من الأميركيين اللاأدريين والملحدين.

صدام الأفكار يحدد الوجهة القادمة

قد يقول قائل لماذا يحدث ذلك الآن في أميركا؟ وفي الرد على هذا السؤال الصعب تكثر الاحتمالات ومنها من يقول إن الولايات المتحدة وهي تدخل مراحل متقدمة من الثورة الرقمية وآفاق العلوم الرحبة والذكاء الاصطناعي، باتت ترجح العقل وإعمال الشك مبتعدة من المعتقد الديني في تعميق للفكر العلماني.

كما أن الكنيسة الأميركية بطوائفها المتعددة تعرضت خلال تاريخها لكبوات في محاولاتها المستميتة لمجاراة العصر والمتغيرات الهائلة التي تعتمل في مجتمعها، مما أضعف من مكانتها، وجعل المواطن الأميركي أقل التزاماً دينياً، وكظاهرة تاريخية في سائر المجتمعات يتم تسييس العلاقة بين الفرد والدين كوسيلة للتمكين السياسي مع أو ضد.

وطوال التاريخ الأميركي كان الحزبان الرئيسان يتنافسان ضمن صراع السرديات هذا، فالحزب الديمقراطي تبنى الليبرالية بأبعادها العلمانية، وهو يحظى بتأييد اللادينيين واللاأدريين والملحدين، فخلال انتخابات أوباما في دورته الأولى في البيت الأبيض في 2008 صوت الناخبون غير محددي الانتماء الديني بغالبية ساحقة لصالحه.

وفي خطاب تنصيبه أكد أوباما أنه سيدافع عن حقوق هؤلاء، فأميركا في عهده لن تكون للمسيحيين والمسلمين واليهود والهندوس فقط، بل ستكون لغير المؤمنين أيضاً، كما حظي الرئيس أوباما في انتخابات الدورة الثانية في 2012 بتصويت فاق الـ70 في المئة من "مجتمع الميم"، المعروف اختصاراً في الغرب بـ(LGBTQ).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الحزب الجمهوري فهو يضم المحافظين الاجتماعيين وليبراليي يمين الوسط واليمين الديني والشعبويين، ويحترم الحزب تقاليد الآباء المؤسسين، وكان ولا يزال مع القيم المسيحية واليهودية للمجتمع، والدعوة للتفرد والخصوصية الأميركية، وضد الأفكار الشيوعية والمشاعية، وهو يعارض التعددية الثقافية لما بعد الحداثة، والسخرية من الثقافة التقليدية.

وتشير الإحصاءات الانتخابية للعقود الأخيرة إلى ميل القوى الدينية الفاعلة في المجتمع الأميركي قليلاً فقليلاً لصالح الجمهوريين، وبعد أن كانت الخريطة الدينية تؤكد أن الكاثوليك، واليهود غير المحافظين، والبروتستانت الجنوبيين هم أقرب إلى الحزب الديمقراطي، فيما بروتستانت الشمال والشرق الأميركي هم أنصار الحزب الجمهوري، يبدو أن هذه الخريطة باتت تشهد بعض التعديلات.

ومنذ 1980 صوت غالبية واضحة من الإنجيليين لصالح الحزب الجمهوري، والمؤشرات الأخيرة تلمح إلى تغير محتمل في نمط التصويت لصالح الديمقراطيين بين اليهود والمسلمين والكنائس الأميركية الأفريقية، في ما يتصل بالصراع في إسرائيل.

ترمب في الملعب الجمهوري الديني

يبدو كأن الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترمب يلعب السياسة باحترافية في الملعب الديني، فقد ظهر أخيراً وهو يكرر الخطاب الديني ويرفع الكتاب المقدس، وباتت لقاءاته الأخيرة مشحونة برسائل إلهية لمجتمع بات يعاني تمزق الروحانيات، بل ومن الهجمة الشرسة لأصحاب الأجندات المعادية للدين والقيم.

ويدرك ترمب أن هذه هي قاعدته الصلبة التي يقيم عليها "الشعبوية الجمهورية الجديدة" التي ستهزم بنظره الحزب الديمقراطي، ليس في هذه الانتخابات وحسب، بل ربما تعيد للحزب الجمهوري تألقه التاريخي، لأن الرجل عرف المشكلة الأميركية، وأعاد قراءة العبارة المشهورة في السياسة الأميركية التي تقول "إنه الاقتصاد يا غبي" وأضاف إليها "إنه الدين يا غبي".

وربما لا يكون الرئيس دونالد ترمب هو أبو المدرسة الشعبوية، إلا أنه من زاوية فطنته السياسية أدرك أن ثقل المتدينين في المجتمع الأميركي في تزايد، إذ تبين وفق نتائج انتخابات 2020 أن المتدينين شكلوا ربع الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم فيها، وأن ثلاثة أرباعهم صوتوا لترمب.

ووفق استطلاع رأي لمؤسسة "غالوب" صوت 46 في المئة من المتدينين لصالح الحزب الديمقراطي في انتخابات 2020، في انحسار عن نسبة 71 في المئة قبل عقدين من الزمن إبان الرئيس الأسبق بيل كلينتون.

ويقول ديفيد كاميل من جامعة نوتردام إن الأميركيين باتوا يربطون الدين بالحزب الجمهوري، وتشهد العلاقة بين الشعبويين الترمبيين والدين تلاحماً تماماً مثلما يحدث في دول مثل تركيا والهند وإيطاليا وإسرائيل، وكذلك المجر والسلفادور، وتزداد الظاهرة انتشاراً في أوروبا.

ومع إقرارنا بأن الديمقراطية الليبرالية منحت الناس في جميع أرجاء المعمورة حرية أكبر من أي وقت مضى، وأسهمت في تفكيك أدوات القمع، وتأصيل المرجعيات الخاصة بحقوق الإنسان والحريات الفردية، إلا أن الحرية المنفلتة التي يشهدها المجتمع الأميركي اليوم من خلال ما نراه في المدارس الابتدائية من حرب شعواء ضد الأطفال، ومن محاولات لغسل أدمغتهم التي لم تتشكل بعد، وفرض قناعات جنسانية على بشر لم يبلغوا الكمال بعد، تسهم في تدمير المنظومة القيمية التي كانت وما زالت عماد الحضارة البشرية.

فليس بمقدور الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وثورة الذكاء الاصطناعي والحريات الفردية، على رغم أهميتها الكبيرة في حياتنا، أن تملأ ذلك الركن الملهم في قلوب البشر الذي يملأه الله بالإيمان ودين القيم، والله غالب.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء