Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعرة عندما تعيش في عزلة وتحضر بقصائدها

سوزان عليوان أصدرت9 دواوين دفعة واحدة بعد توقف عن النشر 10 سنوات

لوحة للرسام بول كلي (متحف كلي)

ملخص

تأتي المجموعات الشعرية التسع الصادرة حديثاً في طبعات ورقية للشاعرة اللبنانية سوزان عليوان التي تعيش في حال من العزلة، لتبلور تجربتها الفريدة، مبدعة وإنسانة، وموقعها في المشهد الشعري العربي، على مدار ثلاثين عاماً، أصدرت خلالها ثلاثة وعشرين ديواناً. وتمثّل سوزان حالة خاصة من الإخلاص للكتابة النوعية الصافية، والتصالح مع الذات في براءتها وهشاشتها ورؤيتها المتسعة للعالم وتفاصيله، والنأي عن ضجيج الأضواء المزعجة والعلاقات الاستهلاكية والكلام الزائد.

من تابع تجربة الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان منذ ديوانها الأول "عصفور المقهى" (1994)، لم يكن ليظن لحظة أن غيابها الذي طال نسبيّاً بعد ديوانها "الحبّ جالس في مقهى الماضي" (2014) هو غيابُ توقّفٍ أو اعتزال. فالشاعرة والرسامة المولودة في بيروت عام 1974 لأب لبناني وأمّ عراقية الأصل، هي مفطورة على التوهج والاشتعال، وليس بمقدورها إهدار طاقتها في غير الإبداع، حتى إذا حاصرتها الحوائط والأسقف "ما زلتُ أحمل الأحجار، وأصعد السلالم بسلاسة جُمْلةٍ موسيقيّة/ أقطع الطوابق الشاهقة، على قدمين وشمعة، برفقِ قمرٍ عملاق، يوقد الغيومَ بدفءِ منازل".

أما هذه العُزلة الهادئة التي ترتضيها لذاتها، بعيداً عن المناسبات الثقافية ووسائل التواصل الاجتماعي، فهي كلمة السر للنجاة من معوّقات الكتابة وإحباطات الحياة ومثبطات التأمل والتعمق، حيث تضيق الأرواح المحيطة وتتآكل كأحذية قديمة. وتلك العزلة الاختيارية هي الإكسير السحري لشحن هذه الحالة النادرة من التوحد مع الفن والتفاعل الجمالي الخلاق مع الأوراق والأقلام "أنا بتلكُّؤِ ساعي بريد، على ضفة خريف، مشيتُ نحو وَحْدتي بلا رسالة/ ثم كان علينا أن نعيد نَحْتَ براءتنا من الوحل، بأعواد العشب".

حصاد التأني

وعلى موقعها الإلكتروني، مصباحها المضيء المبصر، لم تنقطع سوزان عليوان أبداً عن بث قصائدها الجديدة، إلى جانب رسوماتها الطفولية التي "ترفرف فوق النبض والظَّهر". وكان ذلك مؤشراً آخر إلى أن فترة التوقف عن الإصدارات الشعرية هي فترة مؤقتة، وإن طالت، وأن صاحبة "مخبأ الملائكة" و"لا أشبه أحداً" و"كراكيب الكلام" و"مصباح كفيف" ليست إلا في هدنة لالتقاط الأنفاس، وإعادة الحفر الداخلي، واستشفاف المشهد، وتنقية الزمن الآخذ في الجريان صوب الفناء "الساعة تشير إلى منتصف العدم/ الكتاب مفتوح بضفتيه على غبار الكون/ أبطاله يهيمون في فضاء غرفتي/ بحفيف أجنحة، وخيوط واهية تربط المصائر/ أضحك عالياً، بعمقِ ما تتألَّمُ جذور".

وبالفعل يصدق التوقع، ففي العام الحالي 2024 تصافح الشاعرة سوزان عليوان الورق مرة أخرى بإطلاق تسعة دواوين شعرية دفعة واحدة، في طبعات خاصة ومحدودة كما هو عهدها في مجموعاتها الشعرية كلها، التي وصلت إلى ثلاثة وعشرين ديواناً. وهذه الأعمال الجديدة التي استغرقت كتابتها المتأنية عشر سنوات هي: "شارع نصف القمر"، "الجافية"، "مرثيّة ندفة الثلج"، "قمصان واسعة على وحدتي"، "بريد باريس"، "دفتر محصّل الدموع"، "حزن بزرقة الدموع"، "كوكب في حفرة الغولف"، "أمشي على كلمات الرمل".

استكمال المشروع

تعزز سوزان عليوان في مجموعاتها الشعرية الأخيرة حضورها الإنساني الخصيب وبصمتها التعبيرية المغايرة، كصاحبة مشروع إبداعي واضح المعالم والمحددات. ويستند هذا المشروع في خبراته وتجاربه إلى ملامسة جوهرية متمرسة لمادة الحياة الحقيقية في تفجراتها القوية المشعّة، وتشكلاتها المتشعبة فوق سطح الأرض القريبة من حواس البشر العاديين، في كل مكان "كان بيتنا واسعاً كذاكرة فندق/ لدمعته الواحدة، كل شبّاك وحيد في الليل/ في الحمّام الأخضر، رسمتُ الأطفال بشرودِ شوارع. بكيتُ مراراً، ثم غسلتُ وجهي من غيم الطريق".

كما يرتكز هذا المشروع في بطانته وتراكيبه الخفية الثرية على ذائقة جمالية فائقة الحساسية، وزوايا التقاط غير دارجة، وانفلاتات صياغية وتقنيات بنائية وأسلوبية بالغة القدرة على الإدهاش، وخميرة ثقافية ومعرفية نشطة، مستقاة من اطلاع نهم على التراثيات العريقة وأحدث المستجدات، العربية والأجنبية الوافدة، في الشعر والسرد والتشكيل والموسيقى على وجه الخصوص "أذكر الحُب، ذلك الرسّام المجنون الذي لا يتفتح في مروحة يده سوى اللون الأحمر/ أذكر الفراشة نائمة/ أذكر دمعة في الطين/ أحدنا انكسر مثلَ قلم رصاص/ الثاني كما تنكسر موسيقى/ ليست المغفرة التي تثقلها البراءة كنُدْفَةِ ثلج/ ليس الانتقام الذي على نصْل نفسه يذوب/ ثمةَ طريق ثالث إلى الغابة، التي ليست العالم".

ومما تتميز به سوزان عليوان في معالجاتها الرائقة أنها تنحو إلى الحد الأقصى من التصفية والتنقية والفلترة على كل المستويات، وذلك تحت مظلة من التلقائية، التي تُنجيها من مصائد الذهنية والتعمّد والاشتغال. إنه الإبداع المكتفي بذاته، إذا جاز التعبير، حيث ينصهر الاجتماعي والسياسي والفلسفي والكوني في التكوين الجمالي البسيط المرن، الذي يطل عادة من شرفة الذات كمرتكز للنص، وينفتح في الوقت نفسه على المشترك الإنساني العريض اللامحدود "منذ دمعة آدم كطفل نادم على عتبة، حتى آلاف الغَرْقى في تلويحة حرب/ من قطرة المطر الأُولى على صحراء بين الأصابع، إلى هَوْل الطّوفان في شوارعِ العيون/ مُسوّداتي مراكبُ لا تكتمل/ الكوكب كله ذاكرة بحر قديم".

ويتجاوز هذا التكوين الجمالي المتجانس كل ما قد تتضمنه مفرداته وعناصره من الظرفي والنسبي والزائل من الأحداث المسمّاة والمحددة، وإن كانت وقائع كبرى أو قضايا مصيرية أو معارك ضارية أو تفجيرات مدوّية أو أزمات عالمية، فحضور النص هو الأبقى والأنقى والأكثر تأثيراً في المتلقي، لأنه يصل إليه من أقصر الطرق "في الليل أُحصي السيارات القليلة العابرة لأرقي، كما يفعل الأطفال في الحروب الطويلة/ في ذاكرتي ثلاث بطّات في غرفة مشتعلة، وبالونات بكاء أطلقتُها عاليًا، بعيداً عن معاولِ سواي/ الموت طفل يلعب وحيداً في فُسحة من الفراغ، وللفقد قائمة تطول بأسماء أصدقائي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتحقق الاقتصاد القاسي والاختزال الشديد من خلال الحذف والتكثيف اللغوي حد الكتابة بالمحو، واستنطاق الصمت والمسكوت عنه في الحالة "المطرُ، ما لم نَقُلْهُ بعضنا لبعضٍ". وتستغني الشاعرة عن كل الزوائد "الكراكيب"، ليس فقط في بالتة الألوان ومفردات الكلام، ولكنْ أيضاً كراكيب المواقف واللحظات والكادرات والعلاقات والشخوص والكائنات والأشياء المجانية جميعاً، التي بإقصائها يمكن أن يتشكّل وجود آخر أكثر مصداقية وتركيزاً وأهمية ونصاعة وقدرة على البقاء "الفندق الغامض يَصْغر ورائي، كسيجارة مشتعلة مع الريح، كما كلُّ حياة حذفتُها من حياتي، لأحلّق أعلى من منطاد".

قوس قزح بألوان جرح

وفي مجموعاتها الشعرية التسع الجديدة، تواصل سوزان عليوان أيضاً تأصيل ذلك التداخل الحميم بين الكلمة المكتوبة بهشاشة على حافة الجرح، واللوحة المرسومة بارتعاشة طفلة لا تكبر، على هامش خريطة العالم. إن يد الشاعرة ويد الرسّامة تشتبكان معاً فوق المسطّح الأبيض، لتشقّا بشغف بريء طريقهما السالك إلى مدارات النجوم، وتنثرا زهرات قوس قزح في فوهة الوجع "لكم مشيتُ فوق خريف الأرصفة، كما يتسلق ليلٌ سلالمَ النجوم، كي أرسم قوس قزح بلوحة ألوانِ جُرْح".

وكعنوان آخر دواوينها "أمشي على كلمات الرمل"، فإن قصائد سوزان عليوان هي ارتحال دائم في الرمال المتحركة، وتلصُّصٌ على ما يقوله لنفسه الطريق "أمشي وأمشي وأمشي/ أخُطُّ سطراً يتيماً، مما يودّ قولَهُ عن نفسه الطريقُ". كما أن هذه القصائد، التي تفتح صدرها للعاصفة، هي إبحار مستمر في الطوفان من أجل مقاربة المتعة، ليس بالوصول إلى محطة النهاية، وإنما بالانخراط في محاولات الاكتشاف المثيرة، وقنص المزيد من الفراشات والحروف الهاربة "كنت قد غفوتُ لسنوات تحت شجرة، بقبّعتي المُشَطْرجة على وجهي، وعلى كتفي مصيدة فراشات لجمعِ الكلمات/ قطرات الطلّ زادي/ تخطرني القطاراتُ مع غزلان الغابة/ تتوالى الفصول بفصولها من حولي/ دون أن أتنبه لزهرة تتفتّح عند قدميّ الحافيتين، أو لثلجٍ يذوب، بتلاله ورجاله، في مدار صمتي".

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة