ملخص
دائماً ما يأتي المصريون بردود فعل "خارج الصندوق"، إذ بينما تشير التوقعات إلى تضييق وتقشف بفعل الاقتصاد، يمعنون في تنظيم موائد الرحمن للإفطار الرمضاني لغير القادرين، وترجح المؤشرات أن ينخفض الإنفاق على الأكل والشرب فينفد الكعك من الأسواق قبل انتهاء رمضان. ويتخوف القائمون على أمر المستشفيات والمراكز الخيرية المخصصة لعلاج غير القادرين من انخفاض نسب ومعدلات التبرع بسبب تدهور الأحوال المعيشية فتزيد أعداد المتبرعين، حتى جيوش المتسولين تعود لمقارها مجبورة الخاطر مكتنزة الجيوب.
الازدحام على "كحك العيد" (الكعك) تاريخي. كانوا مئات، ثم آلافاً، وخلال الساعات الأخيرة قبل العيد أصبحوا ملايين. إنه الفيديو الذي تدعي صاحبته أنه في الإمكان تجهيز كيلو كعك في البيت بأقل من مئة جنيه مصري.
مئة جنيه مصري تشتري أقل من نصف كيلو جبن رومي، أو عبوتين ونصف عبوة سكر، أو لتر زيت، أو ربع كيلو "كحك" من محل متوسط، لا هو مشكوك في صلاحية مكوناته ومن ثم رخص سعره، ولا هو في متناول المواطن المليونير.
اصطفاف وطني
هذا الاصطفاف الوطني على فيديو "الكحك بمئة" لا يعكس تفاصيل الأوضاع الاقتصادية التي ألمت بالغالبية، بقدر ما يعكس رغبة في التمسك بتلابيب الفرح وإصراراً على الإبقاء على مظاهر البهجة، مما يقف على طرف نقيض من أحاديثهم الجانبية ومخاوفهم الرئيسة.
وعلى رغم طول فترة إجازة العيد التي بلغت ستة أيام كاملة، إلا أن خوفاً ما يعتري كثيرين من انتهاء رمضان وبعده العيد والعودة لمواجهة الواقع.
لأسباب ربما ثقافية أو روحانية أو بحكم العادة، يعمد الواقع إلى الانزواء جانباً في كل رمضان. 30 أو 29 يوماً من كل عام يلتقط فيها المصريون أنفاسهم، لا من الطعام والشراب النهاري فحسب، بل من الانغماس في واقع تفاصيل الحياة المعتادة، مثل فاتورة الكهرباء ومصاريف المدارس و"فيزيتا" الدروس الخصوصية وأسعار المواصلات العامة ورغيف العيش (الخبز) وتطوراته المأسوية، تراجيديا التسعير إذ إن سعر كيلو الجبن وأنت داخل السوبرماركت ليس كسعره وأنت خارج منه وغيرها من مكونات الحياة اليومية التي تحال للاعتكاف طوال الشهر الكريم ستطل كلها برأسها في اليوم التالي لانقضاء عطلة العيد.
تأجيل العودة
في ما مضى، كان تلاميذ المدارس وحدهم، لا سيما كارهي التعليم أو نظامه العقيم من بينهم، هم الأكثر تمنياً لإطالة أمد الإجازات وتأجيل العودة لمعترك الحياة. مصطفى الذي كتب على "فيسبوك"، "لست مستعداً لحياتي بعد العيد"، وسارة التي دعت علماء الفلك ومعهم علماء الدين إلى مراجعة علومهم وأنفسهم، إذ ربما يكون رمضان أتى مبكراً قليلاً أو رحل متأخراً بعض الشيء مما يعطي الجموع الحق في البقاء في البيت إلى ما بعد انتهاء إجازة العيد بقليل، وحازم الذي غرد بدعاء "اللهم باعد بيننا وبين انتهاء عطلة العيد، اللهم قارب بيننا وبين عطلة عيد الأضحى"، وغيرهم ممن عبروا عنكبوتياً عن أمل في تأجيل العودة لمعترك الحياة بعد رمضان ليسوا استثناء، وآمالهم ليست حكراً عليهم.
شعور عام يجمع بين كثيرين بالخوف من المواجهة، فأجواء رمضان الجامعة بين روحانيات الصيام والصلاة وقراءة القرآن من جهة، والغرق في المسلسلات والانغماس في فيديوهات الطبخ والانشغال بالمناسبات الاجتماعية المبهجة من جهة أخرى، باعدت بين المصريين والواقع على مدى 30 يوماً، تعقبها ستة أيام هي طول مدة إجازة العيد.
نشرات أخبار إحمائية
وعلى رغم أن نشرات الأخبار الإحمائية، استعداداً لمعاودة الغرق في برامج الحوارات وتحليلات الأخبار ومتابعة مجريات الأحداث، بدأت تتطرق إلى تراجع المعدل السنوي للتضخم الأساسي ليسجل 33.7 في المئة في مارس (آذار) الماضي، مقابل 35.1 في المئة في فبراير (شباط) الماضي، وتوقعات بانخفاض أسعار بعض السلع الغذائية بنسبة 30 في المئة وترجيحات بتحسن مؤشرات الاقتصاد وغيرها مما يفترض أن تكون أخباراً سارة مشجعة على العودة لمعترك الأخبار، إلا أن أرض الواقع في السوق والسوبرماركت تقول كلاماً مختلفاً، ربما يسهم في تفاقم الرهاب الجماعي في ما يتعلق بالعودة بعد العيد. وبعد العيد بدأ قبل العيد، فارتفعت أسعار الدواجن، وعلى رغم التأكيد على قرب انخفاضها. زادت أسعار الذهب ومصنعيته بعد تراجع طفيف لم تهنأ به الجماهير، والإعلان عن لجنة تعمل حالياً لرسم خريطة تخفيف الأحمال الكهربائية على رغم شعور عام بأن أزمة محطات الكهرباء انتهت، وبعد الإعلان عن زيادة أسعار الشرائح، والإعلان عن زيادة مرتقبة في أسعار سجائر "كليوباترا" الشعبية وسجائر الفئة الوسطى في ضوء ارتفاع سعر الدولار الرسمي في البنوك، وتوقعات بحدوث ارتفاع في نسبة التضخم، على رغم الإعلان عن انخفاض، في ضوء خفض قيمة العملة ورفع سعر الفائدة وأسعار الرنجة (الأسماك المملحة) تحقق أرقاماً قياسية إذ تعدى بعضها حاجز الـ 200 جنيه ومؤشرات أجواء ما بعد العيد تفرض نفسها فرضاً على المصريين.
خارج الصندوق
لكن المصريين دائماً يأتون بردود فعل خارج الصندوق، وتشير التوقعات إلى تضييق وتقشف بفعل الاقتصاد، فيُمعنون في تنظيم موائد الرحمن للإفطار الرمضاني لغير القادرين. ترجح المؤشرات خفض الإنفاق على الأكل والشرب، لا سيما المكونات الترفيهية، فينفد الكعك من الأسواق قبل انتهاء رمضان، ويتخوف القائمون على أمر المستشفيات والمراكز الخيرية المخصصة لعلاج غير القادرين من انخفاض نسب ومعدلات التبرع بسبب تدهور الأحوال المعيشية، فتزيد أعداد المتبرعين، وإن تراجعت قيمة متوسط التبرعات. حتى جيوش المتسولين الموسميين التي تغزو الشوارع عقب التأكد من رؤية هلال رمضان وتستعد للرحيل مع ثبوت رؤية هلال شوال أو بعده بقليل، تعود لمقارها هذا العام مجبورة الخاطر مكتنزة الجيوب بفضل تنامي حب عمل الخير أو تصاعد أحاديث الدعاة الجدد عن الصدقات التي تدفع البلاء وتسد 70 باباً من السوء أو كليهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلطة مختلفة
كل المؤشرات تؤكد أن خلطة العيد في مصر مختلفة هذا العام، فصحيح أن العيد في الأعوام الـ 20 أو الـ 30 الماضية أتى في كل مرة بظروف ومستجدات جعلت المصريين يظنون أنه العيد الأصعب، وجميعهم ظنوا أن سببها الاقتصاد ومعضلاته، إلا أن العيد هذه المرة متفرد في مكوناته بالفعل.
فمكوّن الاقتصاد مستمر ويبدو أنه متفاقم، لكن تضاف إليه توليفة من مصادر القلق ومنابع التوجس. وفي الأسبوع الأخير من شهر رمضان أطلت على ملايين المصريين الملازمين "كنباتهم" لزوم المتابعة الدرامية في ساعات مع بعد الإفطار، فقرة إعلانية يقول بعضهم إنها قطعت الشك باليقين، بينما اعتبرها البعض الآخر إشهاراً لمرحلة فريدة في الجمهورية الجديدة، فيها وجوه غير تقليدية.
الأشهر القليلة التي سبقت رمضان شهدت تصاعداً مكتوماً بين دوائر المصريين للبحث عن العرجاني، وفرض الاسم نفسه غير مرة في حوادث وأحداث متفرقة دار معظمها في حيّز القيل والقال الكلاسيكي، فاسم إبراهيم العرجاني لم يكن معروفاً أو مطروحاً أو حتى مثيراً للبحث والتنقيب حتى وقت قريب مضى.
وارتبط اسم العرجاني بجهود محاربة الإرهاب في سيناء منذ عام 2011، وبصورة أكبر عقب احتدام الإرهاب في سيناء بعد إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين عام 2013.
طرح قوي
وعلى رغم كثير من التقارير الإخبارية والصحافية التي احتوت اسم العرجاني كأحد مشايخ قبيلة الترابين في سيناء، أو "أحد أبطال الحرب على الإرهاب" أو "أحد أبرز الداعمين للجيش والشرطة في حربهما ضد الإرهاب في شمال سيناء" طوال هذه الأعوام، غير الاسم لم يطرح نفسه بقوة إلا خلال الأشهر الأخيرة.
شظايا الـ "سوشيال ميديا" حيث ميليشيات إلكترونية مهمتها بث الفتن ونشر الشكوك، مع استعداد فطري لدى المستخدمين للبحث في أغوار الشخصيات الغامضة، ومعها قدر غير قليل من شح المعلومات الرسمية والمكاشفات الإعلامية، أنتجت هالة غير مسبوقة من السرية المثيرة حول الرجل، وهذه الهالة أسهمت في إشعال نيران حب الاستطلاع وبدء تسلل النيران إلى الشارع الذي لم يكن يدرِي بأمر العرجاني شيئاً حتى أيام أو أسابيع قليلة مضت.
جزء من الإشعال الأخير سببه تقارير إعلامية متواترة عن ضلوع شركة يملكها الرجل في إجراءات عبور الفلسطينيين من غزة إلى مصر عبر معبر رفح وتحصيل رسوم بالدولار، وغالبية هذه التقارير أشارت إلى محاولات الحصول على تعليق من العرجاني أو أحد مسؤولي شركته أو شركاته، من دون جدوى، والتعليق الوحيد جاء من "الهيئة العامة للاستعلامات" التي نشرت بياناً في يناير (كانون ثاني) الماضي للرد على تقارير حول ما وصِف بأنه "استغلال من قبل منسقين لفلسطينيين يحاولون الخروج من رفح الفلسطينية إلى رفح المصرية، في مقابل مبالغ مالية باهظة، ووصفت ذلك بـ "ادعاءات كاذبة".
أجواء القيل والقال
وسرعان ما عادت أجواء القيل والقال والبحث عن العرجاني وطبيعة عمله، وشبكة صلاته بكبار المسؤولين لسابق عهدها. من القيل المصحوب بتقارير غير موثقة، والقال المنقب في أغوار الشبكة العنكبوتية عن الرجل وأصله وفصله، وهي الأجواء التي اعتادها المصريون، لا سيما في أعوام ما بعد "الربيع العربي"، ولكنها كانت عودة هادئة بفعل رمضان وطبيعته المناهضة للأخبار الساخنة والسجالات الحامية. وكان مقدراً للمسألة الاحتفاظ بهدوء رمضان النسبي، لولا إطلالة إعلان عن "مجموعة العرجاني" عبر الشاشات التلفزيونية في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، مما أخرج بعضهم من الاعتكاف الرمضاني المكتفي بالدراما والحلويات.
الإعلان الذي يحمل عنوان "بنبني لكل مصري" صار حديث كثيرين منذ بدء بثه في الأيام الأخيرة لرمضان، إذ خرجت المجموعة (مجموعة العرجاني) على الملأ لتعلن عن مجالات عملها واستثماراتها في السيارات والعقارات والسياحة والضيافة والبناء والصحة والمستشفيات والرياضة والأمن وأشياء أخرى. وضمن الأشياء الأخرى التي تسللت إلى المصريين مع انتهاء رمضان وبدء العيد إعادة فتح ملف غزة، وهو الملف الذي لم يُغلَق، لا رسمياً أو شعبياً، فقط توارت محادثاته بفعل رمضان. العودة تمثلت في فريق يذكّر نفسه وآخرين بأهمية استمرار مقاطعة بعض المنتجات والمحال التي يقولون إنها تدعم إسرائيل أو جيشها، وآخر يستهل العودة بفتح أبواب التنجيم الإلكتروني حول مستقبل القطاع ويحلل انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب ويتوقع الخطوة التالية في ضوء تعثر كل الحلول، وهناك فريق ثالث وجد نفسه جزءاً من حراك عنكبوتي دائر طوال اليوم على صفحات مخصصة لأمور وخدمات الفلسطينيين في مصر.
صفحات الفلسطينيين
فلسطينيون باحثون عن فرصة عمل، أو يسألون عن إجراءات تسجيل الشقق أو الالتحاق بجامعة أو مدرسة، أو سعر الشيكل في سوق العملات، أو سبل الحصول على تأشيرات لدول في الشرق والغرب وغيرها من مواضيع النقاش التي تبدو طبيعية في مثل هذه الأحوال، لكن ما هو غير طبيعي أو غير متوقع تمثل في شد وجذب حول "كحك العيد". فهذه سيدة قدمت من غزة وتعرض بيع الكعك في مناسبة العيد لتأمين دخل لنفسها وأطفالها، فتأتي التعليقات متنوعة بين دعاء لها ولأهل غزة، وسؤال حول إذا ما كان الكعك بالسمن البلدي أو بالمخلوط، وتوبيخ لهذه وتلك لأن الأوضاع في غزة تتطلب البعد من "الكحك" ومواصفاته ومن السمن وأنواعه، ثم عودة لسؤال عن سعر "الكحك" وإن كانت هناك "غريبة" أو لا!
غريبة أجواء العيد هذا العام، لكن الأكثر غرابة هو صدق الأمنيات الخيالية بأن تمتد عطلة العيد حتى لا يضطر الجميع إلى العودة لمعترك الواقع من دون مسلسلات، أو وصفات حلويات، أو موائد رحمن وحملات تبرعات. فقط، أسعار سلع مصرة على الارتفاع ووضع اقتصادي يصر على التربص بجيوب المصريين وظهور مفاجئ لشخصيات تطرح علامات استفهام في المرحلة الجديدة ومكون "غزي" متناهي الصغر في المجتمع العائد لتوه من عطلة العيد.