Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا تبدد حمامات الساونا آثار الصدمات النفسية

البريطانيون اكتشفوا أن في هذه الممارسة الإسكندنافية أثراً عميقاً في عافيتهم يتخطى الشعور بـ"الاسترخاء"

روح اجتماعية: وفر ساونا فوكلستون البحري مساحة تواصل للسكان (هيلين كوفي)

ملخص

قد لا تعدو الساونا للبعض أكثر من الجلوس داخل غرفة خشبية حارة برفقة مجموعة من الغرباء المتعرقين، لكنها تجربة أكبر وأعمق بكثير لعديد من الأشخاص خصوصاً لمن لديهم صدمات نفسية.

"أعتقد بكل صراحة أن الساونا أنقذت حياتي". هذا ما تقوله لي هانا بهدوء، من دون أي حس مبالغة، فيما نتناول القهوة معاً في مقهى محلي.

في عام 2002، مرت المصممة الغرافيكية البالغة من العمر 45 سنة بحالة تصفها بالانهيار النفسي "بالغ السوء" الذي صاحبته نوبات اضطراب القلق كانت تدوم حتى 12 ساعة يومياً. كانت عندها تسكن في المملكة المتحدة ولم تجد أي موارد دعم متاحة للصحة النفسية فأرغمت في نهاية المطاف على العودة لبلادها، ألمانيا، لتلقي الدعم المناسب. أثناء وجودها هناك، بدأت بارتياد الساونا يومياً. كانت النتيجة كفيلة بتغيير حياتها.

"شكلت الساونا المساحة الوحيدة التي شعرت فيها بالأمان المؤكد- كنت دوماً على يقين أنني مهما شعرت خلال النهار، فهناك مكان يمكنني العودة إليه كي أتعلم مجدداً كيف أشعر بالأمان وأنسى القلق. انتعش جسدي بفضل مزيج الحر الشديد والبرد المفاجئ. واظبت على ارتياد هذا المكان المريح كل ليلة لمدة ثلاثة أسابيع- ولديَّ إحساس أكيد بأنني تعافيت بفضله".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولهذا السبب، عندما انتقلت مجدداً إلى فولكستون في مقاطعة كنت البريطانية واكتشفت أن المجتمع المحلي يعمل على مشروع ساونا، انضمت إليه بأسرع ما يمكن. "لحسن الحظ، مرت سنتان وأنا بحال جيدة جداً- لكنني أعلم أن الساونا موجودة، مهما حصل. توفي والدي العام الماضي وكنت أعلم أن الساونا موجودة. وإذا مررت بفترات صعبة وعادت إليَّ نوبات اضطراب القلق، أعلم أن الساونا موجودة. أنا على يقين أن هذا سيكون دوائي".

وهذا شعور يتشاركه كل من أتحدث إليه من أعضاء مجتمع ساونا فولكستون البحرية التي أصبحت تضم 170 شخصاً- أنا من ضمنهم. بعد افتتاح هذه الساونا وبدئها بالعمل رسمياً في فبراير (شباط) 2023، اكتشفتها بالصدفة عقب انتقالي إلى هذه البلدة الساحلية في خريف العام السابق.

عندما أعيد النظر بتلك الفترة، أرى أنها كانت صعبة للغاية. اعترتني لفترة طويلة رغبة بالعيش قرب البحر، فلم أفكر أبداً بالاضطراب والزعزعة الناجمة عن هذا الانتقال- سواء على المستوى العملي أو العاطفي. لقد هبطت فجأة في مكان جديد لا أعرف فيه أحداً وأصبحت مالكة منزل للمرة الأولى في حياتي، مع كل ما يصاحب ذلك من مشكلات صعبة ومكلفة. أخذت أخرج كل ليلة وأشغل نفسي كلياً بنشاطات اجتماعية في محاولة يائسة لتكوين صداقات جديدة، ورسمت أكثر التعابير سعادة على وجهي حرصاً على إعطاء انطباع أولي جيد. وكنت بعدها أعود، منهكة ومستنفدة القوى، إلى منزل لا أشعر أنه بيتي ويحتاج إلى كثير من العمل لا أملك المهارات ولا المال لكي أنفذه. كنت أسير بلا هدف من غرفة إلى الثانية، وأحدق في الفراغ فيما أعد قائمة ذهنية بكل الأعمال المطلوبة التي لا تنتهي إلى أن يشعر دماغي بأنه مكسور بما يكفي من الإرهاق. بعدها أنهار أرضاً وأتخذ وضعية الجنين وأبكي قليلاً.

بالعادة، لست شخصاً يجد صعوبة في الشتاء لكن ذلك الشتاء كان مختلفاً. عشت في يناير (كانون الثاني) أقسى الأشهر الرمادية المليئة بالأعمال الشاقة التي لا تنتهي، ولا أعلم هدفها.

لن أتظاهر بأن الساونا حلت كل مشكلاتي فجأة. لكن في أول زيارة لي، جلست داخل غرفة خشبية حارة برفقة مجموعة من الغرباء المتعرقين، وضحكنا وتواصلنا مع بعضنا بعضاً كما لو أن ذلك أكثر الأمور طبيعية وتلقائية في الحياة. تمشيت على الطريق، ونزلت على الشاطئ المليء بالحصى باتجاه البحر وغطست في مياه باردة جداً لدرجة جعلتني أشعر كما لو أن دمي يتراقص، ثم أتى دفء الشمس ليداعب خديَّ وشعرت بالأمواج تتحرك بنعومة الرئتين في الشهيق والزفير. وسمعت نعيق طيور النورس التي تحوم فوقي، وتجوب سماءً بلون البحر، لا يفرق الناظر إليها بين نهاية الواحدة وبداية الآخر. وفي النهاية، غمرني الشعور بالسعادة مجدداً. بل شعرت بأكثر من السعادة- بالنشوة.

يتردد هذا الشعور لدى كايتي، المساعدة التنفيذية ذات الـ39 سنة التي انتقلت إلى فولكستون في 2020. بعد انهيار صادم في علاقتها العاطفية مع شريكها، بدأت تعاني اضطراب القلق والاكتئاب. وتعود بالذاكرة فتقول "أول مرة ارتدت فيها الساونا، جلست بعدها على شرفة في الشمس، وكانت تلك أول مرة أشعر فيها بالسعادة بعد فترة طويلة. كنت قد نسيت ذلك الشعور. وكلما ذهبت، تحليت بمزيد من الشجاعة لكي أقلع عن تناول مضادات الاكتئاب- أعطتني التجربة أملاً بأن الحياة يمكن أن تكون مختلفة".

ربما يستغرب الشخص الذي لم يجرب الساونا من قدرة شيء بسيط مثل تعاقب درجات الحرارة القصوى على التأثير في صحة الأفراد النفسية ورفاههم. لكن العلم يدعم الشعور الذي انتاب كثيرين منا، إذ توصلت دراسات كثيرة إلى وجود صلة بين الساونا والغطس في الماء البارد وتحسين المزاج-فالانتقال من الحرارة المرتفعة إلى البرودة يؤدي إلى إفراز مادة الإندروفين التي غالباً ما تربط بالتمارين القلبية التي تزيد ضربات القلب. كما لمحت دراسة جديدة إلى أن الساونا قد تخفف من الاكتئاب، إذ وجدت دراسة وضعتها جامعة كاليفورنيا علاقة بين الاكتئاب وارتفاع حرارة الجسم.

وقالت الدكتورة آشلي مايسون، الأستاذة المساعدة في مادة علم النفس والكاتبة الرئيسة للدراسة، لمجلة الأخبار الطبية Medical News Today "لسخرية القدر، قد يؤدي رفع حرارة جسم الأشخاص إلى خفض حرارة الجسم بعدها لمدة أطول من مجرد التبريد المباشر، من خلال حمام ثلجي مثلاً". أظهرت إحدى الدراسات أن خفض درجة حرارة جسم إنسان معين في الأيام التالية لعلاج واحد بالحرارة يرتبط بتراجع أعراض الاكتئاب خلال الفترة نفسها.

لا شك في أن استخدام الساونا ساعد سارة، التي تبلغ من العمر 50 سنة وتعمل في تأجير عقارات لقضاء العطل، على تخطي نوبات الاكتئاب. "أعاني الاضطراب العاطفي الموسمي (SAD) عادة خلال الشتاء. في الماضي، عندما كنت بالكاد أقدر على الخروج من السرير، كان الذهاب إلى الساونا الشيء الوحيد الذي أستطيع فعله". بدورها، لاحظت فرانسيس، معلمة اليوغا ذات الـ45 سنة التي تعيش في منطقة فولكستون منذ 15 عاماً، أثر الساونا في صحتها النفسية. "فقدت والدي عام 2019، ومررت بتجربة انفصال وطلاق طويلة ثم ضربت الجائحة- كانت الظروف صعبة فعلاً. انطويت أكثر على نفسي. ووجدت في الساونا ما ساعدني على إعادة التواصل مع الآخرين". وأقلعت كذلك عن شرب الكحول منذ سنتين "فتحت الساونا أمامي طريقاً جديدة للخروج والتفاعل اجتماعياً- ولو حدث ذلك في أي مكان آخر لكان مخيفاً من دون كحول. لكن الساونا بيئة مريحة فيها استرخاء تام يمكنك أن تتعلم فيها كيف تتفاعل مع الآخرين مجدداً من دون أن تعي ذلك. إنها مميزة فعلاً".

شكل وجود نشاط يمكنك القيام به وقضاء الوقت من دون كحول فائدة مذهلة وغير متوقعة لأعضاء كثر. بالنسبة إلى كارل، مدرب الركض ذو الـ48 سنة، الأمر أكثر من ذلك. أقلع الرجل عن تناول الكحول منذ ست سنوات ويقول إنه هو ومجموعة العدائين التي ينتمي إليها، والمؤلفة من مدمنين سابقين على الكحول، استخدموا الساونا كجزء من عملية تعافيهم. ويشرح بقوله "إنه شعور بالحماسة، مثل شعور النشوة الطبيعي الذي ما زلنا نبحث عنه! إحساسك بالانتقال من الساونا إلى البرد- يشعل شرارة في دماغك!".

وعلاوة على ذلك، وجد كارل في المجتمع المحلي نفسه ميزة ضخمة أخرى. وهو يعمل على مشروع محلي لتعريف الفتية الموضوعين تحت رعاية الدولة بالنشاطات الخارجية ومنها الركض وركوب الدراجات الهوائية في الجبال. ويقول "تعرفت في النهاية إلى أشخاص مذهلين ورائعين في الساونا. أخبرتهم عما نفعله وعرض عليَّ بعض الأعضاء أن يقوموا بجلسات يوغا وتدريب على السباحة في الطبيعة والتجديف وقوفاً- وكل ذلك مجاناً".

خلافاً لعدد كبير من حمامات الساونا التي تظهر في كل أنحاء البلدات الساحلية، مشروع فولكستون ليس تجارياً. بل هو مشروع لا يبغي الربح أبداً ويديره متطوعون، فكر به بيتر بلاك، صانع أفلام عمره 50 سنة يسكن فولكستون منذ 2009. بدأت الساونا كحلم مجنون وصعب التحقيق في عام 2018، استوحاه من ثقافة ارتياد الساونا في بلاده الدنمارك- حيث تزايد عدد حمامات الساونا المحلية على السواحل البحرية بصورة مستمرة وازدادت شعبيتها خلال العقدين الأخيرين.

بعد ذلك، تحولت تلك الفكرة الصغيرة إلى واقع على امتداد السنوات الست التالية- ست سنوات ظهرت فيها عقبات عدة بدءاً من العثور على أشخاص آخرين يتحمسون للفكرة بصورة كافية لكي يشكلوا لجنة، ووصولاً إلى جمع مبلغ 23 ألف جنيه استرليني (29 ألف دولار) لبناء الساونا. أما أصعب الأمور وأكثرها إحباطاً فكان إيجاد موقع دائم قد ينجح فيه المشروع. وفي النهاية، اقترح مكان يملكه نادي التجديف في فولكستون كمقر محتمل، واكتسب المشروع زخماً.

ويقول بيتر "لم يحصل الأمر بسرعة- وعندما أفكر فيه، أرى أنه كان صعباً جداً. في بعض المراحل، اعتقدت بأن المشروع لن يتحقق ببساطة. لكنه يستحق المشقة تماماً، واليوم أشعر بالفخر الشديد بسبب الساونا والمجتمع المحلي".

لم ينو أبداً أن يدير المشروع باعتباره عملاً تجارياً-"ليس هدفي جني المال"- لكن حتى بيتر لم يكن قادراً على تخيل الأثر الذي ستخلفه الساونا المحلية. ويقول "لقد تطورت وتحولت إلى شيء لم أكن لأتوقعه- إنها قوية فعلاً. عند الجلوس داخل الساونا يحدث شيء يجعلك تتواصل مع الآخرين. قدر تجلس مع شخصين أو ثلاثة لا تعرفهم لكنك تبدأ بالكلام معهم بسبب وجود هذا العنصر المشترك: درجة برودة البحر والشعور الجيد الذي يتركه البخار. هذا يكسر الحواجز".

لكن ما يميز مجتمع الساونا هو أمور إيجابية أخرى، لا يتبينها الناظر بصورة فورية ومباشرة. تقول كات، وهي معيدة جامعية أولى عمرها 34 سنة "عانيت مشكلات نفسية معظم حياتي. ويترتب على هذه الحالة وجود مشكلات كبيرة متعلقة بنظرتي إلى جسمي. قبل مجيئي إلى هذه الساونا، كانت فكرة جلوسي شبه عارية أمام الغرباء صعبة جداً. لكن بفضل وجودي وسط هذا المجتمع القريب من بعضه بعضاً والآمن، وتشابه الآراء بين أعضائه، أتعلم أن أكون مرتاحة في جسمي، أتعلم أن أخلع ملابسي في غرف مشتركة لتغيير الملابس، من أجل دخول مساحة تجد فيها رجالاً ونساءً من كل الأحجام والأشكال، وأنا في لباس السباحة". وتضيف "إن الشعور بهذه الدرجة من التقبل يغير الإنسان كلياً".

وربما ما يعزز هذا الشعور-والإحساس بكسر الحواجز عموماً- هو أنها إحدى المساحات الاجتماعية الوحيدة المتبقية التي لا تخترقها الهواتف الجوالة، وذلك لا يعني فقط أنك لا تدخل صراعاً مع جهاز أحدهم في محاولة لاسترعاء انتباهه، بل يعني كذلك أن لا أحد يشعر بالارتياب في شأن التقاط أحدهم صورة له ونشرها على "إنستغرام". يمكن للأشخاص أن يرتاحوا فعلاً، وألا يحصنوا أنفسهم.

وتتأمل هانا الموضوع فتقول "أعتقد فعلاً أن هذه الممارسة ستسهم في تحسين العالم. فالجميع خائف من عدم النجاح في هذا العالم القاسي الذي يسيره المال، لذلك يمكن أن يصبح الناس بالغي الأنانية. ولهذا السبب جميل جداً عندما لا يكون في الموضوع مال: الجميع يشارك بشغف ويساعد لأنهم يؤمنون بهذا المجتمع".

لا شك أنك إذا فكرت بالموضوع من وجهة نظر معينة، لن ترى فيه ما يعدو الجلوس داخل غرفة خشبية حارة برفقة مجموعة من الغرباء المتعرقين. لكن من الواضح بالنسبة إلى أي فرد من هذا المجتمع الفريد من نوعه أن ما يحدث وراء هذه الواجهة أعمق بكثير.

وكما تقول هانا "أتمنى لو كان في العالم مزيد من الأمور المشابهة. أعتقد بكل صدق أن ذلك كفيل بإنقاذه".

© The Independent

المزيد من منوعات