جاء تشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة التي تضم ممثلين عن "حركة خمس نجوم" الشعبوية و"الحزب الديمقراطي" المحسوب على يسار الوسط، دليلاً على انتهاء الأزمة السياسية الإيطالية الأخيرة في الوقت الحاضر.
وكانت الأزمة قد بدأت حين انسحب ماتيو سالفيني، زعيم "الرابطة" المشاكس ونائب رئيس الحكومة السابق، من الائتلاف الذي شكله مع "حركة خمس نجوم" أملا بأن يفضي ذلك إلى إجراء انتخابات. غير أن السحر انقلب على الساحر، فبدلا من صعود الزعيم اليمني إلى السلطة، شكّلت "حركة خمس نجوم" ائتلاف حكومي مع "الحزب الديمقراطي" المؤيد للاتحاد الأوروبي، تجنبا لهزيمة متوقعة لكليهما في الانتخابات.
يمكن القول إن إعلان الحكومة الجديدة هو خبر مفرح لأوروبا من جوانب عدة. فلو أن طرفي الإتئلاف الحاكم لم يتمكنا من توحيد الصفوف وتأليف وزارة، لكان ذلك سيؤدي إلى إجراء انتخابات، أشارت استطلاعات الرأي الأخيرة أنها كانت ستجلب حكومة بقيادة "الرابطة".
وكان سالفيني قد وعد بحزمة من الاجراءات بقيمة 50 مليار يورو، تشتمل على تخفيض ضرائب وزيادة كبيرة في الإنفاق. و مع أن تعديل خططه هذه بعد وصوله إلى السلطة كان محتملاً، غير أن موقفه الملتبس تجاه اليورو وانجذابه إلى فكرة طرح عملة موازية، كانا سيثيران قلق المستثمرين. وهذا ما كان سيرفع تكاليف تمويل ديون إيطاليا، ويزيد في نهاية المطاف من مخاطر خروجها من منطقة اليورو.
كذلك، فإن حكومة تقودها "الرابطة" كانت ستتسبب بالمتاعب للاتحاد الأوروبي في ميدان السياسة الخارجية، إذ كانت إيطاليا ستقيم علاقات أقوى مع دونالد ترمب وفلاديمير بوتين، على الرغم من أنها لن تصل إلى حد استعمال حق الفيتو ضد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادبة على روسيا. أما على المستوى المحلي، فكانت البلاد ستواجه مخاطر من أن تؤدي ميول سالفيني القوية وخطاباته النارية إلى تآكل تدريجي للقواعد الديمقراطية التي يرتكز عليها نظام إيطاليا السياسي. ولو فازت "الرابطة" بأغلبية كبيرة، لكن ذلك سيؤهلها للتأثير تأثيراً قوياً في اختيار رئيس الجمهورية المقبل حين تنتهي ولاية الرئيس الحالي سيرجيو ماتاريلا عام 2022.
وعلى العكس من ذلك، يرجَّح أن تأخذ الحكومة الائتلافية الحالية موقفا أقل صدامية مع الاتحاد الأوروبي، فالحزب الديمقراطي يؤيد أوروبا بقوة، فيما تعارضها "حركة خمس نجوم" بشكل أقل أقل تشدداً من "الرابطة". وأعرب الحزبان عن تاييدهما اختيار أورسولا فون دير لاين رئيسة للمفوضية الأوروبية. وسيخفف هذا في حد ذاته على الأرجح من التوتر ويمهد لبثّ المزيد من الود في علاقات إيطاليا بالاتحاد الأوروبي.
كذلك، ستطبق الحكومة الجديدة سياسة اقتصادية أكثر تحفظا من تلك التي تبنتها الحكومة الائتلافية السابقة، أو أي حكومة تقودها "الرابطة". فالحكومة الحالية وإن كانت لا تميل إلى التقشف المالي، وتريد أن تغير القواعد المالية للاتحاد الأوروبي ، فهي أقل رغبة من "الرابطة" في التصادم مع بروكسل، كما اتضح من اختيار روبرتو غواتيري، وهو نائب في البرلمان الأوروبي عن الحزب الديمقراطي وأستاذ جامعي، وزيرا للمالية. إضافة إلى ذلك، فإنه من المرجح أن تتبنى الحكومة الجديدة موقفا أكثر إنسانية تجاه المهاجرين، من خلال السماح لزوارق الإغاثة بالرسو في موانئ إيطاليا، بدلا من الانتظار لأسابيع طويلة بموجب أوامر من سالفيني. وهذا التحول الايجابي من شأنه أن يقلل من حدة الخلاف مع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بسبب المهاجرين.
أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فإن أيا من طرفي الائتلاف الحكومي الجديد لاتربطه علاقة وطيدة بروسيا مثلما هو الحال مع "الرابطة"، ما يعني أن غياب سالفيني وحزبه عن السلطة يضمن عدم وجود حكومة مؤيدة للكرملين على رأس إحدى أكبر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
كذلك، فإن "الحزب الديمقراطي" سيقود الحكومة نحو مواقف من شأنها أن تخفّف من التوتر بين إيطاليا وواشنطن بما يتعلق بمبادرة "الحزام والطريق" التنموية العالمية التي طرحتها الصين وانضمت إليها إيطاليا في أوائل هذه السنة.
بينما باتت المخاطر الناجمة عن تشكيل حكومة تقودها "الرابطة" حالياً من ذكريات الماضي، ليس هناك مجال للتراخي، إذ قد لاتستمر الحكومة الجديدة طويلا . فـ"الحزب الديمقراطي" و"حركة خمس نجوم" بقيا في حالة صراع مع بعضهما بعضاً خلال السنوات القليلة الماضية التي هاجم فيها أحدهما الآخر، ما يجعل وجود قدر من الاحتكاك بينهما حتميا، من حيث السياسات وعلى مستوى شخصي.
ومن المنتظر أن تباشر الحكومة الجديدة مهامها والاقتصاد في وضع شديد الهشاشة، فيما يلوح في الأفق تباطؤ اقتصادي عالمي. وسيوفر هذا الضعف الاقتصادي لسالفيني الكثير من الذخيرة لمهاجمة الحكومة الائتلافية الجديدة، وهو سيستمر في استغلال مشاعر الإحباط الحالية تجاه عدد المهاجرين الآتين إلى إيطاليا، إذ ستكون خطاباته من خارج السلطة أشدّ تطرفا.
مع ذلك، فإن الرمال المتحركة في السياسة الإيطالية تتيح فرصة ذهبية للاتحاد الأوروبي لمنع إيطاليا من الانجراف نحو معاداته. لكن إذا لم يُعط الاتحاد إيطاليا قدراً من الحرية في وضع موازنتها كي تجنب البلاد حالة من الركود الاقتصادي، ويساعدها على إدارة قضية الهجرة، فإن مخاطر فقدان الاتحاد الأوروبي الحظوة لدى الإيطاليين تظل قائمة.
وإذا حدث ذلك، فإن "الرابطة" المتطرفة قومياً والمحسوبة على أقصى اليمين ستعود إلى السلطة على رأس حكومة معارضة لأوروبا.
(لويجي سكازيري باحث في مركز الإصلاح الأوروبي)
© The Independent