Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحداد يفطر القلب لكنه لا يحتمل في عالم الانترنت  

في الماضي، ربما كان الناس يعبرون الشارع مبتعدين عنك كي يتحاشوا مواساتك بما ألمّ بك. في العصر الرقمي حيث تحيا علاقاتنا ، يحصل هذا السلوك مراراً وتكراراً، على كل منصة اجتماعيّة تقريباً

 الفقدان عسير في العالم الرقمي في وقت الأموات أحياء يرزقون على فيسبوك وغيره من المواقع 

ظهرت والدتي على "سكايب" فجأة وأرسلت إليّ سلسلة من الرسائل في عصر يوم صيفيّ كان يختنق بضباب القاهرة الدخانيّ. ليس غريباً أن تردك رسائل من والدتك، ما عدا أمر واحد هو أنّ أمي آنذاك كانت قد غادرت دنيانا منذ سبع سنوات.

بدأت الذاكرة الحركية في عقلي تعمل بفعالية عندما وصلت غريزيّاً إلى الردّ. حينئذ، جاء الحزن عارماً كموجة من الأسى  تكسرت فوق شاشتي.

كان أحدهم قد اخترق في ذلك الأسبوع، كما اتضح لاحقاً، حسابات لأصدقائي وأفراد من عائلتي على مواقع التواصل الاجتماعيّ كي يبعث برسائل تهديد إليّ. كان حساب أمي الراحلة على "سكايب" صيداً سهلاً بالنسبة إليه.

لكنني أدركت في تلك اللحظة، أمراً عن الموت لا يخبرونك به مطلقاً: وسائل التواصل الاجتماعيّ ليست صديقتك. وتطول لائحة الأسباب.

(الأمر الآخر الذي لم يطلعك عليه أحد هو أنّ نصف معركتك مع حزنك تتمثل في إدارة عجز الآخرين عن التعامل معه، لكن سأتحدث عن المزيد في هذا الشأن لاحقاً).

تحيط بنا منصّات التواصل الاجتماعي منذ أكثر من 20 عاماً، لكننا ما زلنا لا نملك إجابة واضحة عن كيفية التعاطي مع آثارنا الرقميّة المحزنة التي نخلّفها بعد وفاتنا.

لا تتضمّن قوانين المملكة المتحدة أيّ مادة حول كيفيّة التعامل مع الفوضى المعقّدة للإرث الرقميّ، أو كيفية تحديد ممتلكاتنا الرقميَّة. يزداد الأمر تعقيداً في حال وجود أشياء ملموسة أكثر كالمال. على سبيل المثل، ما هو مصير الملايين التي رحل اصحابها وبقيت مُحاصرة في حسابات "باي بال" PayPal ، أو أعداد لا تحصى من المحافظ الأخرى على الإنترنت؟ ماذا عن البيتكوين؟ من يورثون ذلك لأحبائهم، وكيف؟

تلي ذلك حساباتنا الشخصية العامة على الشبكات الاجتماعيّة. "فيسبوك" هو واحد من أمثلة كثيرة. سيفيض عملاق التواصل الاجتماعيّ في غضون 50 عاماً بحسابات للموتى تفوق حسابات المستخدمين الأحياء، حسب تقرير أصدرته أخيراً جامعة أكسفورد البريطانيّة.

يقول باحثون ربما سيكون هناك ما يزيد على  4.9 مليارات مستخدم متوفٍ يَطفون مع أنقاضهم الرقميّة في أرجاء شبكة الإنترنت، قبل نهاية القرن الحاليّ. ومن المعقول أنّ تصبح ذواتنا الافتراضيّة ضخمة العدد (وأقل قابلية إلى أبعد الحدود لإعادة الاستخدام) كأجسامنا الحقيقيّة، في مرحلة ما في المستقبل.

وهذا أمر يصعب التعامل معه بالنسبة للمستخدمين يخلفّهم الموتى وراءهم. . كانت والدتي وحلزون البحر سيّان في ما يتعلّق بالمعرفة بوسائل التواصل الاجتماعي، وقد أنشأت حسابين على "فيسبوك" عن طريق الخطأ. وبعد عام على وفاتها، أخذ "فيسبوك" يصرّ عليّ، كي أعاود التواصل معها عبر الحسابين الشخصيّين، نظراً إلى أنّنا لم نتراسل منذ وقت. أمضيت أشهراً وأنا أبكي دموعاً حرّى أمام حاسوبي مُحاولةً إيقاف ظهور رسائل التذكير أو إلغاء الحسابين الشخصييّن لوالدتي.

وهنا يكمن جوهر المشكلة: من له الحقّ في صورك، وكلمات المرور الخاصة بك، وفي الدخول إلى حساباتك الخاصة أو إغلاقها؟ وما هي حدود ذلك؟

شهدنا في عام 2009 مناقشات قليلة حول ما يجدر بنا أن نفعله بشأن ذلك كله: من التراب وإلى التراب تعود الحسابات الفيسبوكيّة العادية واللانهائيّة لأشخاص مجهولين متوفين.

في هذه الأيام، أعدّ "فيسبوك"، تماماً كما المنصات الأخرى ومن بينها "إنستغرام"، ميزة إحياء الذكرى، إذ يمكن أن تتحوّل صفحة حسابك إلى نوع من نصب تذكاريّ إلكترونيّ حيّ، فيه الصور مؤرشفة، ووظائف المراسلة مُتوقّفة عن العمل، فيما يمكن للأصدقاء ترك تعليقات مثل باقات من الزهور على شاهد القبر. يمكن تفعيل ذلك من خلال "جهة الاتصال" التي تختارها بنفسك، أو بواسطة من يمكن تسميته بوصيّ رقميّ.

لكن على "تويتر" و"سناب شات" يمكنك تعطيل الحساب، بشرط أن يرسل شخص ما شهادة الوفاة إليهما. ولكن قد يكون ذلك شائكاً. مثلاً، أطلعني كثيرون على قصص فظيعة بشأن أشخاص يكتشفون بسبب فروق في التوقيت انهم فقدوا أفراداً من أسرهم، عندما يغلق أصدقاء لا ينوون الإساءة حساب المتوفي على وسائل التواصل الاجتماعيّ.

الخيار الآخر ترك الحساب معلّقاً إلى أجل غير مسمى. ولا أعتقد أن هذه خطوة سيئة بالضرورة. إنه أمر غريب، لكن يحدث أحياناً أن أجد نفسي أبحث في بقايا رقميّة لأقارب وأصدقاء ماتوا كما لو أنّ الطابع الفوريّ للتغريدة أو المنشور، والحاجة الملحّة إليهما، وواقعيتهما قد تضيء قليلاً حتمية الموت الفظيعة والمبهمة، وحتى لو كان ذلك مجرد إعادة تغريد واحدة أخيرة غير مؤذية.

وليست الحسابات الخالدة هي الوحيدة التي تطارد الأحياء. ربما تكون منصّاتنا على وسائل التواصل الاجتماعيّ مدمِّرة لنا تماماً كما المنصّات التي تعود إلى أحبائنا الراحلين.

انحنيت قبل عشر سنوات، في قسم الوفيات في مستشفى مارسدن في المملكة المتحدة، فوق وجه والدتي أحصي أنفاسها الأخيرة الخارجة كمقطوعات موسيقية مطوّلة. عندما توقّفت أمي عن التنفّس، كتبنا على عجل رسائل إلكترونيّة غلب عليها الاضطراب وأرسلناها إلى أرقام أصدقاء وأقارب على هاتفها البلاك بيري.

تشكّل تلك الرسائل نصوصاً نفيسة بالنسبة لي حالياً، وكذلك الردود عليها. فمعظمها دافئ وداعم، وقليل منها موجز وغريب. وهذه هي الحقيقة المرّة عن الخسارة التي ردّدها لي أصدقاء كثيرون يقاسون الأسى في هذا  العصر الرقميّ. لا يمكنك أن تدرك أبداً مدى صعوبة التعامل مع جميع من يعجزون عن التعامل معك ومع ما تمرّ به، حتى حين لا تطلب منهم أي مساعدة على الإطلاق.

في الماضي، ربما كان الناس يعبرون الشارع ليتجنّبوا التحدّث إليك وكي لا يواجهوا شعورهم بالحرج تجاه معاناتك أو لأنك تذكرهم بفنائنا الجماعيّ. ولكن في هذه الأيام، وفي ظلّ الأعداد التي لا تُحصى من منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ حيث تحيا علاقاتنا، قد يتهرب البعض من مواساتك على "واتس أب" و"فيسبوك" و"مسينجر" و"جي ميل" و"سيغنل" و"فايبر" و"تليغرام" و"إنستغرام" و"تويتر"، وحتى "سناب شات". ثمة حرفياً مئات المنصّات الاجتماعيّة التي عليك أن تتعامل معها.

 ما عدت أستطيع أن أحصي المرات التي رأيت فيها أشخاصاً يستجيبون لمنشور يدمي القلب على "فيسبوك" لشخص مفجوع، بعبارات مثل "ارقد بسلام" أو "على الأقل هو لم يعد يتألم". كما كانت حروف قليلة كُتبت على وجه السرعة ستكون مناسبة للتعزية. كما لو أنّ خسارة أحد أحبتك، بغض النظر عن المدة التي عانى فيها من المرض، يمكن أن تكون "لخيرك" يوماً.

جلست مع زميلة لي قبل سنتين فشل أصدقاؤها الأعزاء في أن يبعثوا إليها برسالة تعزية واحدة بينما كان شقيقها على فراش الموت. تحادث أولئك الأشخاص أنفسهم على مجموعة الـ"واتس أب" الخاصة بهم كما لو أنّ شيئاً لم يحدث، وكان تصرفاً غريباً بالنسبة إليهم أن تقطع زميلتي اتصالها بهم جرّاء ذلك.

اكتشف شخص آخر أنّ زملاء له في المدرسة أنشأوا سراً مجموعة لا تشمله على "فيسبوك" من أجل التخطيط لتمضية الليالي خارج المنزل والقيام برحلات، من دونه لأنه كان مفجوعاً. كانوا يحاولون جاهدين أن يكونوا مهذّبين فتعثّروا وتصرفوا عن غير قصد على نحو غير لطيف.

ومع ذلك، أتفهّم الذعر الأعمى الذي ينتابك عندما تقابل شخصاً ينهار أمام عينيك، ولن تساعده أي كلمات قد تفكّر في قولها.

ربما يكون ذلك أكثر صعوبة عندما يحدث على شبكة الإنترنت، حيث تمرّ عبارات الحداد مرور الكرام ضمن سيل من خواطر سعيدة، وفيديوهات للقطط، ومقاطع مسجلة للعطلات، ومحادثات عديمة المعنى، وألعاب "كاندي كراش".

الحزن على أحبة رحلوا، عملية مستمرّة من المحاولة والإخفاق في استيعاب ما هو عصيّ على الاستيعاب، تحمل في ذاتها المرء على العزلة بما فيه الكفاية. ولا مكان أكثر عزلة من وحش "وسائل التواصل الاجتماعيّ" المتناقض: الموصل الضخم والمفرِّق، المُرضي والمُخزي، الأداء الحقيقيّ ومسرح الأكاذيب في الآن نفسه.

يعوزنا أن نجد طريقة للتعامل مع الموت ووسائل التواصل الاجتماعي، ذلك الحاضر الاصطناعي الموجود دوماً، الذي سوف يعمِّر أكثر منّا وربما يطيح بنا.

© The Independent

المزيد من آراء