Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخط العربي يقاوم الذكاء الاصطناعي بذخيرة جمالية

بعض اللوحات والمخطوطات يستغرق إنجازها أسابيع وتتطلب دقة متناهية من الخطاط

فن الخط "أناني" لأنه يستهلك حياة الفنان (اندبندنت عربية)

ملخص

يحافظ فن الخط العربي على رصانة الحروف وجمالية اللغة فهل هو مهدد بالذكاء الاصطناعي؟ 

على مدى 1400 عام حافظ فن الخط العربي على سحره وتطوره مرسخاً موقعه عبر شغف كثيرين باللغة العربية الأم، واليوم يعلن جيل جديد من الفنانين تمسكه بـ "الطريق الأصلي الذي خطه الآباء المؤسسون" وتجويد الحرف، وصولاً إلى إدخاله في المفردات الهندسية المعمارية والإعلانات وتزيين أغلفة الكتب.

داخل مشغله المتواضع في مدينة طرابلس شمال لبنان يقضي الفنان خضر الدرج ساعات طوال وسط أوراقه وقصباته وأحباره وشغفه اللامتناهي بالخط العربي، واضعاً الخطوط العريضة للوحاته التي يستغرق إنجازها أسابيع وأحياناً عدة أشهر لصياغة الآيات القرآنية أو الأشعار والحكم الخالدة وقبسات من سير الأولين بأفضل صورة ممكنة لإظهار المعاني الجميلة بأجمل طريقة، إذ يبحث الخطاط عن الحد الأدنى من الرضى بالمخطوطة.

 

الخط فن وذوق

وتحت عباءة الخط العربي تجتمع الموهبة مع الفن والعلوم الهندسية من أجل الخروج بعمل فني راق أو حتى ترميم قطع أثرية نادرة، ولذلك يحرص خضر الذي تخصص بالخط في إسطنبول على خلق أجواء ملائمة للعمل الرصين، ويستعين في كثير من الأحيان بالموسيقى الكلاسيكية من أجل التركيز وتجاوز الضوضاء السائدة في الخارج، موضحاً أوجه الاختلاف بين النسخ والتدوين من جهة والخط من جهة أخرى، فالأخير هو "فن تجويد الحرف وكتابته بأجمل هيئة ممكنة".

وقبل البدء بعمله يتأكد من حسن تنظيم وترتيب عالمه الخاص لأن "كل حرف في اللوحة هو نتاج علم وجهد وتفاصيل ونسب مدروسة للغاية، وفق قاعدة النسبة الفضلى أو النسبة الذهبية، وبالتالي لا مكان فيها للعشوائية ولا يتقنها إلا من تدرب عليها طويلاً من أجل ترجمة ما لديه من أفكار على الورق"، لذلك فهو يضع أقلامه الخشبية والمعدنية وقصباته في جماعات مستعيناً بأجود أنواع الحبر المائي الذي يحافظ على لمعة السواد والأوراق المصنوعة يدوياً ومطلية بمادة "تقهير" طبيعية مكونة من بياض البيض والنشاء والشبة، والتي يمكن التعديل عليها ومسحها.

ولا تتوافر المواد الأولية ذات الجودة العالية في لبنان حيث يأتي بها الفنان من إيران أو مصر أو تركيا وصولاً إلى إندونيسيا، فهو يعتقد أنها "جزء من حياته وإنجازاته"، واصفاً إياها بثروته الحقيقية التي "يحتاج إلى عمر آخر من أجل جمعها من جديد"، منغمساً في الجانب الوجداني لهذه الصنعة لأن "الخطاط يقع في حال عشق مع الخط إذ يسعى دائماً إلى الكمال ما أمكن في عمله، ويشعر بأن كل مخطوطة فنية هي قطعة من روحه لأنه يضع فيها كثيراً من الوقت والتفكير والاهتمام والتركيز والعلم، وأحياناً يحزن بأن هذه اللوحة ستخرج من حيازته إلى أحد المقتنين"، محذراً إياهم من وضعها في أماكن رطبة أو تعرضها للماء الذي سيؤدي إلى خراب الحروف المنظومة.

الخط "أناني"

ويصف خضر الدرج الخط بـ "الأناني" لأنه "يمنع المشتغل به عن ممارسة أي فن آخر ويجعله مأخوذاً به إلى أقصى حد"، قائلاً "أعمل أحياناً لمدة 12 ساعة متواصلة ولا أرفع رأسي عن اللوحة من دون كلل أو ملل، إذ أجد تفاصيل إضافية في كل مرة أنظر فيها إلى اللوحة، وأثناء وضع قالب مصغر للمخطوطات الضخمة التي أصبحت تنفذ على آلات الليزر".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويعتقد أن "عصرنا فقير جمالياً، إذ فقدت المباني الحديثة التفاصيل الفنية والزخارف والزينة، وهي على خلاف الأعمال التراثية التي كانت تحظى فيها هذه الجماليات باهتمام كبير، وهذا انعكس على الذائقة الجمالية للناس التي لم تعد تميز بين الحسن والرديء"، لافتاً إلى تراجع كبير في خطوط الطلاب، على خلاف المرحلة السابقة عندما كانت المدارس تخصص حصة للخط، والتي تشكل فرصة لتشجيع الطلاب على الخوض في هذا الفن الذي شهد تراجعاً في لبنان.

ويشير خضر الدرج إلى اتجاه شريحة من محبي الخط للتعلم خارج العالم العربي، ويروي أنه في إسطنبول تتلمذ على يد فرهاد كورلو في منطقة العمرانية الشهيرة، وهو معلم يمتلك صرامة الحرف ودقة الشكل كما على يد الأستاذ المصري أحمد فارس الذي يمتاز بالعلم الوفير وفلسفة الخط، والخطاط السوري أنس الحوري الشامي الذي يعتمد أسلوب الشكل الكلي للمنظومة، وذلك بعد أن تعلم الأساسات والمبادىء في لبنان على يد الأستاذ محمد عربس.

 

الإبداع أقوى من التكنولوجيا

وأعادت التقنية النظر في كثير من جوانب الحياة البشرية والأنشطة التي تعتمد على الجهد الإنساني، ويجزم خضر بتأثير كبير للعولمة في المنتج الثقافي والفني، لكنه في المقابل يشدد على "عدم إمكان حلول التقنية مكان الموهبة والمعرفة التي يتمتع بها الخطاط"، معرباً عن أسفه لقلة الاهتمام وغياب الدعم الرسمي لهذه الصنعة الأصيلة في لبنان، إذ تتقدم الهموم المعيشية على الاهتمامات الثقافية والذائقة الجمالية، وذلك على خلاف بعض الدول التي تعتبرها جزءاً من تراثها الفني والمعماري باعتبارها جزءاً من الهوية الثقافية للشعوب.

ويكرر الخطاط، "مهما تقدمت الآلة إلا أن للعمل اليدوي جمالية خاصة لأن فيه عاملاً إنسانياً لا يمكن تجاوزه، إذ يصب الفنان جزءاً من روحه بالعمل في بحثه عن الدقة والكمال"، موضحاً أنه "لا يمكن للذكاء الاصطناعي الحلول مكان الفن الإنساني، فقد حاول بعضهم إبداع خط محدد وجامد لكن لا يمكنه استبدال الخط اليدوي، إذ فشل أحد التطبيقات في محاكاة قواعد التخطيط والعلاقات بين الكلمات، ويستحيل تنسيق الجملة من شخص غير خطاط وفنان".

مسار تاريخي طويل

وبدأت حكاية الخط العربي مع الخط الكوفي الذي كان يتمتع بالبساطة، وشكل ذلك انقلاباً حضرياً وحدثاً ثورياً في التاريخ العربي، ذلك أن التراث المعرفي العربي اتخذ شكلاً شفاهياً يعتمد على الحفظ والتكرار، وبرزت أهمية الكتابة مع حاجة المسلمين إلى تدوين القرآن في عهد الخليفة الأول أبو بكر الصديق قبل جمعه في عصر الخليفة الراشد عثمان بن عفان لحفظ الوحي بسبب وفاة عدد كبير من الحفاظ خلال الغزوات.

ويؤكد خضر الدرج أن "العصر الأموي شهد تحولاً كبيراً في الخط العربي، وبدأت مهمة الاعتناء بشكل الحرف وصقله لجعله أكثر جودة، وشهد العصر العباسي نهضة كبيرة للخط العربي على يد الوزير عبدالله بن مقلة الذي ابتكر الخطوط اللينة انطلاقاً من نظرية التدوير، أي أن جميع الحروف مرتبطة بالدائرة ويختلف حجمها وشكلها نسبة إلى الدائرة، وهي عبارة عن ستة خطوط عرفت بالأقلام الستة الأولى وهي خط النسخ المستخدم في كتابة المصاحف حالياً، وخط الثُلث والمحقق والريحاني وخط الرقاع والتواقيع".

ويواصل خضر الدرج روايته لتاريخ الخط الذي يشكل جوهر الفن العربي الإسلامي مثنياً على عمل علي بن هلال المشهور بـ"ابن البواب"، وخلال العصر العباسي وهو أحد أشهر الخطاطين عبر العصور وصولاً إلى ياقوت المستعصمي نسبة إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله وتلامذته، إذ شهد الخط تطوراً كبيراً وصقلت شخصيته حيث تمسك الناس بكتابة المصاحف بالخط الريحاني أو المحقق وحل مكان الخط الكوفي.

واستمر المسار التطوري للخط العربي خلال العهد العثماني، إذ ظهر أحد أشهر الخطاطين حمدالله الأماسي نسبة إلى أماسيا في تركيا والذي أعطى وجهاً جديداً للخط وأسهم في تحويله إلى فن ومتعة للناظرين، وهو يختلف عن أساليب النسخ التي كانت متبعة.

وازداد الاهتمام بالخط من أجل تحسين فرمانات السلاطين والأشعار وغيرها من النصوص النفيسة وصولاً إلى ظهور "الحلية" واللوحات التي يجتمع فيها الخط العربي مع فن الزخرفة، ليتكامل الخط العربي مع باقي الفنون الإسلامية التي ازدانت بها القصور والمساجد والزوايا من نحت وتذهيب وتوريق.               

ويوضح خضر الدرج أنه "مع مرور الزمن ازدادات التفاصيل واغتنت الأحرف، إذ ظهر تنقيط الحروف العربية الذي بدأ مع أبو الأسود الدؤلي فأضيفت نقاط على الأحرف بمثابة حركات النصب أو الجر، أما نقاط الحروف المعروفة حالياً فجاءت نتيجة الإعجام، إذ أضيفت إلى حروف الفاء أو القاف مثلاً لكي يميز العجم بين الحروف التي كان يدركها العربي بالفطرة ويقرأها بحسب السياق وليس المكتوب".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة