Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوسا يستلهم عصر النهضة للحديث عن حرب أهلية برازيلية حقيقية

صاحب جائزة "نوبل" يؤرخ لجمهورية التعصب الديني وكوارثها في روايته

مشهد حرق سافونارولا في الساحة العامة بعد فشل ثورته (غيتي)

ملخص

تلك الخسارة التي نعرف أنها كلفت سافونارولا حياته حرقاً في الساحة العامة الفلورانسية

حتى وإن كان الكاتب البوليفي الكبير ماريو بارغاس يوسا، الفائز قبل عقدين تقريباً بجائزة "نوبل" الأدبية، قد جعل من تلك الحرب التي جابه بها أصوليون متعصبون نوعاً من حكم تنويري في البرازيل ليكوّنوا جمهورية ثورية جنودها وجمهورها من الرعاع وحثالة المشردين وفتيات الهوى وكل أصناف البائسين، وشتى أنواع "المتروكين لمصيرهم" مستنداً إلى فصل حقيقي من فصول تاريخ هذا البلد، فإنه سيقول دائماً في مجال تعليقه على روايته الضخمة هذه، "حرب نهاية العالم"، إنه إنما استقاها في الأصل من فصل، حقيقي هو الآخر، من فصول التاريخ الإيطالي في عصر النهضة، عرفته فلورنسا في عزّ تنويريتها الإنسانية، إذ لاحظ تشابهاً "يفقأ العين" على حدّ تعبيره، بين تفاصيل ذلك الفصل وتفاصيل ما حدث قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون ونيف في مدينة النهضة الإنسانية الإيطالية محاولاً نسف تلك النهضة وتحديداً باسم الدين. بل ربما تطابقاً أيضاً بين شخصية وأفكار زعيم الجمهورية البرازيلية، وسافونارولا زعيم الجمهورية الفلورنسية. وهو أمر لم يفت يوسا أن يعلّق عليه غامزاً من قناة تعبير "ماركسي" شهير فحواه أن التاريخ قد يعيد نفسه لكنه إذ يكون مأساوياً في المرة الأولى، يصبح هزلياً في الثانية، مضيفاً أن التاريخ يبدو هنا أكثر مأساوية وكارثية في المرة الثانية أيضاً!

 

سافونارولا وأعداؤه

والحقيقة أنه لا بدّ لنا هنا من العودة إلى تلك الجمهورية الأصولية التي لم تنتفض في الزمن النهضوي ضدّ السياسات الدكتاتورية بل تحديداً ضدّ الحماية التي أمنها آل ميديشي حكام فلورنسا لفكر تنويري، يمكن ربطه، على أية حال، بنزعة إنسانوية مستمدة من فكر نيو – أفلاطوني كان من بين كبار مبدعيه مفكرون من أمثال مرسيلو فيسينو وبيكو ديلا ميراندولا، وفي ركابهم رسامون ومسرحيون ومبدعون في شتى المجالات من طينة بوتيتشيلي وجوردانو برونو وماكيافيلي، وساندهم الحكام المتحدرون ليس فقط من تلك العائلة التي وصلت إلى حدّ إقامة جمهورية نهضوية غير بعيدة من فلورنسا جُعلت التحية المتبادلة فيها عبارة "أفلاطون عائد... حقاً هو عائد". وكان ذلك أخطر مما يتحمله رجل الدين المتزمت سافونارولا، فما كان منه وبعد أن شكا الأمر مراراً وتكراراً للعائلة الحاكمة إلا أن جمع من حوله أولئك الرعاع البائسين الذين، منذ الانتفاضة ضدّ مدرسة "الإسكندرية" وفيلسوفتها هيباتيا في مصر قبل قرون وصولاً إلى جمهورية رعاع الأرياف البرازيلية، وحتى الجمهور الذي سيسقط حكم الإيراني محمد مصدق بتحريض من الاستخبارات الأميركية أواسط القرن الـ 20، دائماً ما يشكلون الجمهور المقاتل دفاعاً عن الجمود الفكري المرتدي لبوس الدين. وهو الجمود الذي تزعمه سافونارولا في عزّ المرحلة النهضوية وضد ممارساتها في فلورنسا الإيطالية. فمن كان سافونارولا وكيف تحرّك لمناهضة ذلك التقدم الخلاق الذي كانته النهضة الإيطالية في زمنه؟

معركة غسل الأدمغة

في الحقيقة أنه من الأفضل لنا هنا، بدلاً من أن نعرّف سافونارولا وثورته البائسة مباشرة، أن نعرفه بما انتفض هو ضدّه. فرجل الدين هذا الذي سيجعل، خلال مرحلة من الزمن، من الدين سلاحه لتأليب الرعاع، محاولاً وبفصاحة تقوم أساساً على ما نسميه اليوم "غسل الأدمغة" (وهو كما بتنا نعرف السلاح الأكثر فاعلية لتحويل البائسين إلى خزان للفكر الفاشي المتخلف والمعادي لكل نزعة إنسانية وغالباً باسم الدين) وهو غسل يشتغل عادة على الفصاحة اللفظية كما الحال في كل تحريض غيبي يريد التصدي لأي وعي تقدمي، رجل الدين هذا أرعبه ذلك الوعي الذي راح ينتشر في زمن قياسي محاولاً أن يضع الإنسانية أمام مسؤوليتها فتعتمد التمحيص العقلي بدلاً من الاستسلام المخدر لأشباه سافونارولا. بل يمكننا أن نقول، على أية حال، إن سافونارولا، وعلى رغم انتشار أمثاله على مدى التاريخ، يكاد يكون بلا نظير، وعلى الأقل في "صراحته" التي جعلته يعلن، وبكل وضوح، أن ما ينبغي التخلص منه إنما هو ذلك "الكفر" الذي حملته الأفكار "المزعومة نهضوية" وفي المجالات كافة، وصولاً إلى الطب التجريبي، ونظريات الحب كما صاغها ليون العبري على خطى ابن حزم الأندلسي، والفكر الاجتماعي كما صاغه إنسانويون فرنسيون من طينة فرانسوا رابليه وميشيل دي مونتاني على خطى كورناي أغريبا، وصولاً إلى علوم الفلك العقلية على خطى كوبرنيكوس، بل حتى الأفكار النابعة من "مدينة الله" للقديس أوغستينوس، من دون أن ننسى صياغة بالداسار لكيف ينبغي أن تكون الأخلاق والسلوكيات الاجتماعية كمعادل لليوتوبيات الكبرى كما صاغها توماس مور وإيراسموس، وهؤلاء إضافة إلى ماكيافيلي وأميره وبيكو ديلا ميراندولا والمعركة التي، هذا الأخير، كان يخوضها ضد التنجيم بل حتى في سبيل ما دعاه بنفسه "الكرامة الإنسانية"، وصنوه مارسيلو فيسين، ومن دون أن ننسى هنا العداء الشديد لفنون الرسم كما أرخ لها فازاري وليون باتيستا ألبرتي، ولفنون الكتابة كما جاءت لدى بتراركا تنظيراً وممارسة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"جمهورية متخلفة"

أجل في الحقيقة أن المعركة التي خاضها سافونارولا وأقام انطلاقاً منها جمهوريته المتخلفة، وتكاد تشبه خطوة بخطوة في فكرانيتها وممارساتها، ما حملته من قبلها وما ستحمله من بعدها كل تلك "الجمهوريات" المماثلة وصولاً إلى تلك التي يشتد أوارها منذ بدايات الألفية الثالثة والتي دفعت معظم المؤرخين والباحثين في زمننا "الجديد" هذا، إلى استعادة الحديث عن سافونارولا، وبخاصة الحديث عما فعله في زمنه، حين أدرك بغريزته المتخلفة، أن ضرب ذلك الفكر النهضوي الإنساني لا يمكنه أن ينفصل عن ضرب الحكم الذي يدعمه أو يجعله ممكناً موفراً له الحماية.

ففي نهاية المطاف كان سافونارولا يدرك أن المعركة لا يمكن أن تنطلق من صراع مع مَن يمثلون الفكر في شموليته، لأنه يسترق وقتاً طويلاً، وهو وأنصاره لا يملكون السلاح المناسب (العقل كفعل) لخوضها، وبالتالي عليهم أولاً ضرب أو تحييد العنصر (السياسي والذي يمسك بمقاليد الحكم) الذي بدا له أسهل بكثير من ضرب ذلك "المجهول" بالنسبة إليه وإلى أنصاره.

ماذا لو ربح الراهب المتخلف؟

ومن هنا انتفض سافونارولا، ذات يوم، من الواضح أنه أجرى فيه ومن حوله حسابات مخطئة، فاستولى على الحكم وزرع في المدينة نوعاً من الرعب لا شكّ أن ممارسات "داعش" وأمثالها، والتي شهدناها في زمننا المعاصر هذا إنما سارت على خطاها، ما دفع إلى استعادة سيرة ذلك الواعظ وحكاية تلك الفترة، التي كانت قصيرة لحسن الحظ، والتي كادت فيه أفكار التخلف وممارساته أن تحدث في التاريخ قفزة كبيرة إلى الوراء بحيث لا يضحى الفكر الإنساني المتقدم أكثر من أسطورة تحكى للصغار في العشيات بصوت خفيض وفي خفية عن عيون وآذان العسس والمخبرين الراصدة أفئدة يكون قد فات أوان استعادتها طمأنينتها.

ومهما يكن من أمر هنا، لا بدّ من التذكير بأنه كان نادراً في التاريخ القديم والحديث أن ساد حكم المخبرين واستطال، وليس فقط من منطلق أن "لا أحد يمكنه أن يوقف التقدم" بشهادة التاريخ نفسه وانطلاقاً منه بشهادة المبدعين الذين جعلوا همهم رصد ذلك التاريخ منذ أولى انتفاضات البشر أنفسهم ضدّ غاسلي أدمغتهم، وصولاً إلى ضروب التعبير التي لا يمكن إسكاتها، وهي التي تجعل من نفسها دائماً سنداً أساسياً لتمسك، ولو أقلية من البشر أول الأمر، بالفكر والوعي الإنسانيين اللذين تعلّما كيف يلفظان ضروب التخلف.

ولعل درس سافونارولا ومحاولته ضرب التنوير والتقدم قبل نصف ألفية ونيف من الآن، وهو الدرس المستعاد في كل مرة يولد فيها ويستشري العديد من أمثال ذلك المغامر الأفاق، ليخوضوا ضدّ الفكر، ولكن نادراً ضدّ السلطات السياسية، وتحديداً كما حال ذلك الراهب المتطرف ضد الفكر، معركة لا يعرفون أن خسارتهم لها ستكون حتمية في نهاية الأمر، تلك الخسارة التي نعرف أنها كلفت سافونارولا حياته حرقاً في الساحة العامة الفلورانسية التي خيّل إليه أنه امتلكها بفصاحة لسانه التي كانت قد مكّنته من استمالة الرعاع والجهلة ولو إلى حين!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة