تشهد بريطانيا انقلابا تتبلور معالمه ببطء، إذ تسعى حكومة يمينية تدريجياً إلى إسكات أي معارضة فعّالة لحكمها أو تهميشها، وتعمل على تعزيز سلطتها بخنق البرلمان والتنديد بخصومها باعتبارهم خونة للأمة. كما تزيح المنتقدين في صفوفها وتطرد موظفي الخدمة المدنية ممن لا ينتمون إلى الحزب الحاكم أو غيره.
يصف البعض ما يحصل بأنه "انقلاب بريطاني للغاية" وهو ما يضفي على العملية دفئاً وغموضًا أكثر مما تستحقه. لكن ما يحصل في الواقع هو "غير بريطاني" بالمرة، إذ أن صناّع الانقلاب يتجاهلون أو يتلاعبون بالقواعد التقليدية غير المكتوبة للسياسة البريطانية التي توارثناها على مدار 400 عام الماضية والتي تضمن ألا ينفرد أي فصيل أو مؤسسة بالسلطة.
إن ما نراه لا يمتُّ بصلة إلى الماضي البريطاني وهو انقلاب عصري فريد، اندفع فيه للسلطة زعيم استبدادي قومي وشعبوي بطريقة شبه ديمقراطية، وهو الآن يعمل على ضمان عدم إزاحته.
حلّ هذا الأسلوب الجديد للاستيلاء على السلطة إلى حد كبير محل أسلوب الانقلابات العسكرية القديمة التي كانت تتمثل في احتلال الجنود والدبابات المقار والمراكز الحكومية في العاصمة و يسطرون على محطات التلفزيون والإذاعة. وفي الإنقلابات القديمة أيضا كان المعارضون غالباً يتعرضون للاعتقال ما لم يفروا من البلاد، فيما كان القادة العسكريون يسعون لتحييد الشعب بدلاً من العمل لنيل دعمه الصريح.
رأيت هذا النوع الجديد من الانقلابات قبل ثلاث سنوات أول مرة في تركيا، حيث وقع يومها كردة فعل على انقلاب عسكري من الطراز القديم. حاول قطاع من الجيش التركي تنظيم انقلاب عسكري في 15 يوليو (تموز) 2016، فقدم لرئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان ما بدا له فرصةً نفيسة لتثبيت أركان دكتاتورية انتخابية، يمكن التنبؤ فيها مسبقًا بالانتخابات اللاحقة والتوزيع الفعلي للسلطة. يحدث هذا عن طريق السيطرة على وسائل الإعلام والقضاء والخدمة المدنية وأجهزة الأمن، أو عن طرق التزوير الانتخابي المباشر إذا أصر الشعب رغم كل ذلك على التصويت ضد الحكومة.
تحدّثتُ إلى الكثير من الناس في إسطنبول في الأيام التي أعقبت الانقلاب العسكري الفاشل، وقد عبروا بوضوح بأن إخفاقه يعني أنهم ربما أفلتوا من حكم العسكر، ليقعوا في قبضة الحكم المدني الاستبدادي.
توقع أحد المثقفين، الذي اعتذر عن عدم الكشف عن هويته ككل الأشخاص الذين قابلتهم تقريبًا في ذلك الوقت، "أن شغف أردوغان بالسلطة أكبر من قدرته على ضبط النفس في خنق المعارضة بشكل عام." كان ذلك قولا سديداً بالتأكيد في وقت تواصل إغلاق المحطات التلفزيونية والإذاعية والصحف وأُسكتت مصادر النقد في كل دقيقة. حتى عندما تجرأت إحدى المجلات الساخرة محدودة الانتشار على نشر رسم كاريكاتوري ينتقد الحكومة بشكل طفيف، تحركت الشرطة من متجر إلى آخر لمصادرة النسخ.
اختار بعض الأتراك مواساة أنفسهم بالقول إن "أسوأ سياسي يبقى أحسن من أفضل جنرال." لكن بعد ثلاث سنوات، قد لا يكون أولئك الذين لم يُجبروا على الصمت أو الهروب إلى المنفى أو زُج بهم في السجن، متيقنين من وجود فرق كبير بين الديكتاتورية المدنية والعسكرية.
بعد أقل من عام من الانقلاب العسكري الفاشل، أجرى أردوغان استفتاءً مزورا بشكل صارخ أدى إلى تهميش البرلمان ومنح الرئيس سلطات ديكتاتورية. وعلى الرغم من مضايقة النقاد وإسكاتهم إلا أنه لم يفز بالاستفتاء سوى بنسبة لم تتجاوز 51.4% تمثل الأصوات المؤيدة للتغييرات الدستورية التي رفضها ناخبون بلغت نسبتهم 48.6%. وحتى هذه الأغلبية الضئيلة لم تتحقق إلا في وقت متأخر من ليلة الاستفتاء عندما قرر رئيس اللجنة العليا للانتخابات المشرف على الاقتراع أن الأصوات الملغاة، والتي بلغت نحو 1.5 مليون صوت، سيتم احتسابها، خلافًا للممارسة المتبعة في الانتخابات التركية السابقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحلول يوم الاستفتاء في عام 2017، كان حوالي 145000 شخص قد اعتُقلوا، و134000 قد أقيلوا من وظائفهم، وأغلقت 150 وسيلة إعلام. ولم يتردد النظام بالاقدام على إلى أي فعل من أفعال الاضطهاد مهما كان تافهاً أو قاسياً أكثر مما ينبغي. ومثلاً وجد نائب معارض انتقد الحملة الداعية للتصويت لصالح التغييرات التي يريدها أردوغان ، أن والدته البالغة من العمر 88 عاماً قد أُخرجت من المستشفى حيث كانت تتلقى العلاج لمدة عامين ونصف انتقاما منه.
مع ذلك، فالانتخابات التركية لاتعتبر مهزلة من العيار الثقيل كتلك التي تشهدها مصر وسوريا، والدليل على ذلك انتخاب مرشح معارض محافظاً لإسطنبول في وقت سابق من هذا العام. لكن العملية السياسية ككل تُرجح كفة أردوغان بحيث يكون من الصعب للغاية إزاحته. هذه سمة من سمات انقلابات القرن الحادي والعشرين، التي ما إن يصل قادتها إلى الحكم حتى يكون من إخراجهم منه أصعب بكثير من إزاحة زمرة انقلابيين عسكريين عن السلطة قبل قرن من الزمن.
هل يمكن إذن أن يحدث نفس الشيء هنا في بريطانيا؟ إن واحدة من نقاط قوة انقلاب جونسون هي أن العديد من الناس لا يمكن أن يصدقوا أنه حدث فعلا. علاوة على ذلك، تساعد فكرة الاستثناء البريطاني المفترض على ترسيخ الاعتقاد بأن التجارب الأجنبية لا تنطبق على بريطانيا. إن قليلين فقط يعرفون أو يهتمون بأن لتركيا تقاليد قوية في الديمقراطية البرلمانية بالإضافة إلى سجل قاتم من الانقلابات العسكرية. لكن هذه الانقلابات المدنية التي تتبلور ببطء هي سمة من سمات العالم الحديث التي يجب أن نعاينها ونحاول أن نتعلم منها، وليس مما حدث في بريطانيا في ثلاثينيات القرن السابع عشر عندما سعى تشارلز الأول لفرض حكومة تعسفية.
يؤمن معارضو تعليق البرلمان، على نحو مثير للعطف، بأن الحكومة الحالية ستلتزم بالقواعد التاريخية للعبة السياسية، على الرغم من أن كل ما فعلته حتى الآن يظهر تصميمًا على التلاعب وإساءة استخدام هذه القواعد لنيل القوة السياسية والحفاظ عليها.
يهبُّ كثيرون في بريطانيا الآن للدفاع عن البرلمان لكونه هيئة تمثيلية منتخبة، لكن كان ينبغي عليهم أن يهبُّوا في وقت مبكر قليلاً. ويبدو أن أعضاء حزب العمال الذين التزموا الحياد حيال بريكست، أو حتى اعتبروه موضع ترحيب معتبرين أن بوسعه زعزعة الوضع الراهن كما أنه فرصةً للقيام بإصلاح جذري، قد بدأوا يلاحظون الآن أن قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي كانت دائمًا وسيلة يمكن من خلالها لليمين المتطرف السيطرة على الحكومة.
جرّب التقدميون الأتراك السير على هذا الطريق ويعرفون جيدًا ما الذي يكمن في نهايته، وقد اكتشف الثوريون اليساريون فجأة أن اليمين أيضًا يثور وأن هناك فضيلة في برلمان منتخب إلى حد ما. هذا ما لخّصه أحد الأتراك الذين اعتنقوا هذا الرأي عندما نشر تغريدة كتب فيها وهو يحاول التصدي لتزوير الانتخابات "ها أنا ذا، وقد تحوّلت من فوضوي ما بعد البنيوية إلى مراقب لصناديق الاقتراع."
اقتُبست هذه التغريدة من كتاب "كيف تخسر بلدًا: الخطوات السبع من الديمقراطية إلى الديكتاتورية" وهو كتاب قوي ومليء بالعبر للكاتبة إيجه تيميلكوران، التي تنبأت قبل عام بالمنحى الذي ستتخذه أزمة بريكست. لذلك فإن كتابها جدير بالقراءة بالنسبة لأي شخص يسعى لفهم الاتجاه العالمي الذي تشرحه الكاتبة ومقاومته.
وتتمثل نقطة ضعف هذه المقاومة في أن قادتها المحتملين، بمن فيهم المتطرفون المفترضون مثل جيريمي كوربين، ينظرون حقًا إلى الماضي البريطاني كما لو كان بوسعه أن يدلهم على الطريق الواجب اتبّاعه. إن أولئك الذين كانوا موضع سخرية بسبب محاولتهم إعادة نسج وطن انجليزي من الخيال، مثل جونسون وكبار مساعديه، هم من يعيش في تناغم أكثر مع العالم الحديث ويمشون غريزيًا على خطى ترمب وإردوغان وأمثالهما من واشنطن وساو باولو وبودابست إلى مانيلا.
كان 2016 عاما رائعا للمستبدين القوميين الشعبويين الجدد، إذ أُجري استفتاء بريكست في يونيو (حزيران)، والانقلاب العسكري التركي وانقلاب أردوغان المضاد في يوليو، وانتخاب دونالد ترمب رئيسًا في نوفمبر( تشرين الثاني) . يشبه جونسون وأردوغان وترامب بعضهم بعضاً في الدفاع بشراسة عن القومية وعن الاستقلال القومي المهدّد وفي الحنين إلى أمجاد الماضي.
ومن أجل مقاومة ناجحة ضد هذا التيار السام، يجب التعلم من التجارب الجديدة للدول الأخرى التي تعاني المشاكل نفسها وليس من التاريخ البريطاني.
© The Independent