ملخص
فيلم "العراب" كان سرداً لشخصية المجرم الذي ينجح في تحقيق حلمه بصرف النظر عن الطريقة
بعد فيلم "العراب" تحديداً ومنذ عام 1972، ظهرت موجة الأفلام التي روجت للجريمة بوصفها وسيلة من وسائل تحقيق الأحلام، وأنكرت دور العمل في ذلك، وحينها استند الفيلم الذي فازت الشخصية الرئيسة فيه بجوائز سينمائية عدة مرموقة إلى شخصية المجرم الذي ينجح في تحقيق حلم أو ثروة مالية كبيرة، بوصفها شخصية بطولية تعكس نوعاً نادراً من الذكاء بغض النظر عن الطريقة التي تتبعها لتحقيق الحلم.
ولاقت أعمال كثيرة من هذا النوع استحساناً جماهيرياً كبيراً، فيما أصبح العمل المضني والشاق من أجل تحقيق الأحلام فكرة عبثية تواجه بالسخرية اللاذعة وتوصف بكونها مضيعة للجهد والوقت، ووصل الأمر في احتقار دور العمل بوصفه طريقة مضنية وعقيمة في تحقيق الأحلام إلى تشبيه العامل المجتهد بـ "الحمار" الذي يموت بسبب زيادة العمل، وفي سبيل تحقيق أحلام الآخرين في بعض الأحيان.
تبرير أخلاقي
ومن أجل إقناع الجمهور بهذه الفكرة الخطرة كان لا بد من بذل جهد تنظيري كبير، إذ غاص كثير من جهابذة الكتاب في هوليوود في أعماق بعض الأعمال التراثية العريقة، مثل رواية "جيميني كريكت" المستقاة من الثقافة الإيطالية، وتمكن بعضهم من استخراج معلومات صادمة عبر التحليل النفسي العميق لشخصيات رئيسة في هذه الأعمال، إذ عمد هؤلاء إلى عكس الأحداث أحياناً وتجاهل البعد الأخلاقي للشخصية الأسطورية تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقوم فكرة شخصية كريكت على بعد أخلاقي محض وهو معاقبة الصبي جيميني عند الكذب من طريق إطالة أنفه، ولكن كتّاب هوليوود من خلال "ديزني" الذي حول الشخصية إلى شخصية شهيرة باسم جديد هو "بينوكيو" ركزوا على جزئية كراهية الصبي الصغير للعمل التي وصلت لدرجة قتل الشخصية الأخلاقية الرئيسة في الرواية وهي شخصية "كريكت"، فجاء التبرير الأخلاقي لهذه المفارقة الذي نجح في تحويل ثلة من أعتى مجرمي العالم وبعض زعماء المافيا، إضافة إلى المزورين والسارقين والمحتالين، إلى شخصيات سينمائية مرموقة وفاتنة لأنها ترفض العمل والتعليم وتعتمد على ما يسمى الـ "كاريزما" الفاتنة التي تبرر الأساليب الدموية التي انتهجها بعضهم أثناء تحقيق أهدافهم وأحلامهم في الثروة والنفوذ.
من هو بينوكيو؟
"بينوكيو" نسخة "ديزني" من شخصية جيمني كريكت التي ظهرت في رواية إيطالية للكاتب كارلو كولودي (1828- 1890) ونشرت عام 1883، وتدور الرواية حول دمية خشبية لطفل له أنف طويل تعاني مشكلة غريبة، فأنف الصبي يزداد طولاً عندما يكذب، كما أن على الفتى المنحوت من قطعة خشبية ناطقة أن يثبت نفسه من خلال العمل الشاق لكي تتحقق أمنيته الكبيرة ويصبح بشرياً، وعرض العمل عربياً عام 1972 ضمن 52 حلقة من إنتاج "نيبون إنيميشن" اليابانية بدبلجة من تلفزيون مصر.
ووثقت شخصية "بينوكيو" لبداية انقضاء زمن السحر ودخول الإنسان عصر العلم، فانتهت مرحلة العصاة السحرية أو التعويذة أو المصباح السحري وانقرضت كل هذه الأدوات الخرافية التي كانت تتكفل بتحقيق الأحلام بسرعة خيالية من دون الحاجة إلى العمل المضني والشاق، مع معاناة تمتد لعقود من البؤس في سبيل إدراك جزء يسير من الحلم.
ومع تحقيق العلم إنجازات معرفية وطبية وإنسانية كبرى ومنها حلم غزو الفضاء، تخيل كثيرون أن العلم أصبح بمثابة المصباح السحري القادر على تحقيق كل أحلام الإنسان الفردية والجماعية في وقت قصير، لكن "بينوكيو" من خلال حكاية الدمية الخشبية التي تطمح في التحول إلى كائن بشري قدم لأجيال من المتابعين لهذه الحال صدمة كبرى، إذ رفض العمل والتعليم كوسيلة لتحقيق الأحلام.
ومن هنا تحولت شخصية هذا الصبي المتعثر الذي يكره فكرة العمل إلى أيقونة فنية عالمية ترمز إلى التحول السينمائي الكبير الذي طغى على فكرة تحقيق الحلم من خلال العمل وانتقاله إلى وسائل أخرى ومنها الجريمة، إذ باع "بينوكيو" وفق الرواية الأصلية كتاب الأبجدية للحصول على بعض المال، كما أنه كان مستعداً للقتل لتجنب أعباء الحياة الحديثة.
ما بعد "بينوكيو"
وقد بدأ التحول الكبير في فكرة تحقيق الأحلام سينمائياً من خلال التحليل النفسي لبعض الشخصيات الكرتونية، ومن أشهرها شخصية "بينوكيو" الذي أنهى حقبة قديمة من الأفكار التي جعلت من العمل المضني أداة رومانسية ساذجة لتحقيق الأحلام، لأنها أداة عقيمة تتميز بالبطء والسطحية، وانتهت حقبة الأعمال السينمائية الجادة ومحاولات الرسوم المتحركة التي ركزت على الجانب التربوي والأخلاقي أكثر من تركيزها على الجانب الواقعي والسياسي في الحكايات التي تدور فيها حبكة الفيلم حول الحلم، وأسهم هذا الفيلم العجائبي الكوميدي المقتبس من الثقافة الإيطالية الذي أعادت هوليوود إنتاجه عام 2022 ضمن صياغة جديدة للمخرج روبرت زيميكس لاحقاً، في لعب دور حاسم لتحويل الإنتاج السينمائي العالمي والعربي باتجاه جديد فضح هشاشة التأسيس الفني لفكرة تحقيق الأحلام في التراث العربي، فيما استمر أثر العمل بصورة خطرة في السينما العالمية حتى يومنا هذا.
حكاية "العراب"
تدور حكاية فيلم "العراب" الشهير الذي عرض عام 1972 للمخرج فرانسيس فورد كوبولا حول قادة واحدة من أقوى عائلات الجريمة في نيويورك، والفيلم مقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه نشرت عام 1969 وتدور أحداثها بين عامي 1945 و 1955، إذ يتحول مايكل كورليوني الفتى الذي يعمل بجد لكي يصبح ضابطاً مرموقاً في سلاح البحرية الأميركية ويرفض الاندماج بأعمال العائلة الإجرامية، من شخص بسيط إلى زعيم مافيا عديم الرحمة بعد مقتل شقيقه سوني.
ويعد العمل الأكثر شهرة في تاريخ الأفلام السينمائية العالمية ومن أهم الأعمال التي أسست لموجة من الأفلام التي وثقت لهذا التحول الكبير في أدوات تحقيق الإنسان لحلمه من خلال الجريمة، مبينة أن ذلك يحدث أحياناً بمقتضى التحولات الاجتماعية القاسية التي تكون كفيلة في حرف مضمون الحلم المشروع عن وجهته الصحيحة في كثير من الأحيان.
في السينما العربية
ولا تراعي معظم أعمال السينما العربية التي تتحدث عن فكرة تحقيق الذات والأحلام المتغيرات الثقافية العميقة والحقيقية التي تعترض طريق الإنسان الطموح في رحلة تحقيق حلمه داخل المجتمعات المتأخرة، مع أنها تشير أحياناً إلى فكرة عدم المساواة بين الناس بوصفها عائقاً أمام تحقيق الأحلام، ولذلك ظلت الأعمال الدرامية العربية محلياً وضمن محيط السينما العربية الحديثة أسيرة المفارقة الأخلاقية ذاتها التي تصنع الإنسان الناجح، فيحقق حلمه أو جزءاً منه أحياناً ولكن في نهاية مشوار طويل من الألم والتحمل، إذ تركز هذه الأعمال على الكم أكثر من النوع، فيما تدور حبكة معظم هذه الأعمال الدرامية والفنية شرقاً حول مفارقة قريبة من مفارقة السينما العالمية الغربية بعد فيلم "العراب"، وتستلهم بدورها شخصية أخرى من شخصيات حكاية الدمية الخشبية وهي شخصية "لامبويك" صديق "بينوكيو" المقرب الذي تحول من دمية إلى حمار، وانتهى به المطاف ميتاً بسبب العمل الزائد.