ملخص
"مئة يوم من العزلة" رواية "فكرت فيها طويلاً قبل البدء في كتابتها"
إذا وضعنا الكاتب الاستثنائي الأرجنتيني جورج لويس بورغيس جانباً، ربما سيمكننا اعتبار زميله الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز، الكاتب الأميركي - اللاتيني الذي أجري معه العدد الأكبر من الحوارات على مدى مساره الأدبي طوال ما يزيد على نصف قرن أبدع خلاله عدداً كبيراً من الروايات الكبرى وعدداً أكبر من القصص القصيرة والنصوص ذات الأساليب المتميزة، لكنه أبدع كذلك عشرات الحوارات المطولة أو القصيرة والعابرة لتشكل متناً حكائياً ومعرفياً وتهكمياً وتبريرياً أيضاً قد يحتاج العثور عليه ونشره كاملاً إلى عدد كبير من المجلدات. فماركيز الذي كان كثيراً ما يعلن عدم رغبته في أن يحاضر حول رواياته مبدياً استنكافه عن شرح ما قد يبدو غامضاً فيها ويحتاج شرحاً، كان، ما إن يسأله محاور ما عن شؤون تتعلق بتلك الأعمال ويتبين له أنها لا تحمل أية أفخاخ تنصب له لسبب أو لآخر، ينطلق في كلام قد يبدو أحياناً وكأنه لا نهاية لها، إذ هنا يتحول صاحب "مئة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا" إلى شلال كلام، وتبدو كل إجابة من إجاباته وكأنها تشكل فصلاً كاملاً من كتاب في النقد الأدبي، وربما أيضاً من كتاب في ما قد يصح أن نسميه "نقداً ذاتياً في عالم الأدب".
انتشار سريع
والحقيقة أن هذا التشبيه الأخير يعيدنا إلى واحد من أول الحوارات التي أجريت باكراً مع ماركيز، ولا سيما في فرنسا التي حتى وإن اشتكى دائماً من إهمالها إياه في سنوات ظهوره الأولى على ساحة الحياة الثقافية العالمية، كانت من أول بلدان العالم، خارج القارة الأميركية - اللاتينة، التي اهتمت به، ولا سيما منذ روايته الكبيرة الأولى التي أطلقته عالمياً قبل ما يزيد على نصف قرن من عام وفاته. ونعني بها طبعاً "مئة عام من العزلة" نفسها التي تعد على الأرجح أشهر رواية في العالم منذ أواسط القرن الـ20. ومن المؤكد أنها كانت على أية حال، الرواية الأسرع انتشاراً في العالم، هي التي ترجمت إلى ما يزيد على 20 لغة خلال الأعوام الأولى لصدورها، ومن أشهر تلك اللغات الفرنسية التي صدرت بها في عام 1968، ونالت ما تستحقه من انتشار على رغم أن ذلك العام كان عام انتفاضات الشبيبة الكبرى في أوروبا وأميركا اللاتينية وغيرهما، من فرنسا نفسها على وجه التحديد.
رواية الروايات
ومن اللافت أن صدور تلك الترجمة الفرنسية التي اعتبرت "رواية الروايات" في إطلالتها الأولى قد تزامنت مع جملة من حوارات أجريت مع هذا الكاتب الذي كان في شرخ شبابه حينها، وكان يجد مشقة في التعبير عن نفسه وسط بدايات تلك الفترة التي جعلت عشرات الكتاب المنتمين إلى شتى بلدان القارة اللاتينية، ينتشرون بأعمالهم وآرائهم نافخين دماً جديداً في الأدب العالمي الذي كان ولا يزال، بعد، يتسم بطابع أيديولوجي سرعان ما غمرته فورة "الواقعية السحرية"، وهو الاسم الذي أسبغ على تيار توحيدي افترض النقد أن معظم إنجازات ذلك الأدب ينتمي إليه، لكن ماركيز، وفي واحد من حواراته الفرنسية الأولى، نشرته مجلة "ماغازين ليتيرير"، رفض هذا الاسم الجامع ولا سيما الدامج بينه وبين تلك الغرائبية التي اعتبرت أسلوباً له، بشكل أنتج خلطاً نقدياً كبيراً بخاصة أن النقاد الذين وجدوا أنفسهم أمام أدب يعجزون عن تعريفه اعتبروا الغرائبية والواقعية السحرية شيئاً واحداً، بل راح كثر يضيفون إلى روايات الواقعية السحرية التي ارتبطت بها أسماء كتاب راسخين من القارة الأميركية - اللاتينية من "أستورياس" إلى بورغيس مروراً بعدد كبير من أبناء الجيل السابق على جيل ماركيز مبادرين إلى خوضه في مزج مفترض بين سوريالية ما و"غرائبية" ميغيل دي سرفانتس. ومن هنا، كان لافتاً ومثيراً للإعجاب من جهة وللاستنكار من جهة أخرى، أن يأتي ذلك الشاب الكولومبي، ومن باريس تحديداً، ليرفض المزج بين المفهومين معلناً، منذ بداية حديثه، أنه لا يؤمن بتلك الغرائبية المفترضة، وأن روايته الكبرى الأولى التي "حركت ذلك التيار" براء منه "كما أنها براء من السوريالية وأساليب إبداعها التلقائية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد تفكير طويل
فبالنسبة إلى هذا البعد الأخير بدا ماركيز مصراً على القول، منذ مفتتح كلامه يومها، إن "مئة يوم من العزلة" رواية "فكرت فيها طويلاً قبل البدء في كتابتها. بل إنها رواية كتبتها مرات عديدة". فالحقيقة، قال ماركيز "إنني كنت أمتلك كل المواد والأفكار اللازمة لكتابتها، لكنني كنت أشعر، وطوال سنوات، أنني أفتقر إلى الإيقاع، بل كنت أحس أنني أنا نفسي لا أؤمن بما أريد أن أحكيه. وكنت أعتقد ولسوف أعتقد دائماً كما يبدو، أن الكاتب، أي كاتب، حر في أن يقول كل ما يريد قوله، شرط أن يكون قادراً على جعل الآخرين يصدقونه. أما المؤشر الذي يتعين عليه اعتماده لكي يقيس مدى تصديق الآخرين له، إنما هو تصديقه هو لنفسه". ولقد كمنت مشكلة تلك الرواية خلال السنوات الطويلة التي حاول مبدعها خلالها إنجازها، في أنه لم يؤمن بها أو بما ترويه في كل مرة يستأنف كتابتها. ولقد وصل ذات لحظة إلى حد التفكير بأن الخلل الأساس يمكن في الإيقاع الذي لم يتوصل إليه، حتى اللحظة التي تذكر فيها كيف كانت جدته تحكي به ولأطفال العائلة الآخرين تلك الحكايات التي كان لسانها يبدعها، ولسوف تكون الخطوة الأولى على طريق تحول الفتى غابو، إلى ذلك الكاتب المبدع، غابريال غارسيا ماركيز الذي يتابع تلك الحكاية متذكراً كيف أن جدته كانت تروي أقل الحكايات قابلية لأن تصدق من قبل المتلقين، وأكثر الحكايات غرائبية تبعاً لإيقاع يبدو طبيعياً إلى أبعد ما يكون. وأعتقد اليوم أن اكتشافي ذلك الأسلوب هو الذي شكل الأساس الذي قام عليه بناء النسخة النهائية للرواية، وفي الأقل من منظور المادة الأدبية التي تشكل هيكل الرواية.
إبداعات جدة
غير أن ماركيز إذ يقول هذا ويحدد كيف أن اكتشافه أسلوب جدته وواقعية غرائبيتها، هو الذي أوصله إلى أسلوبه الخاص، يضيف أنه لم يتملك ذلك الأسلوب إلا بعد أن قرر ونفذ فكرة أساسية خلصت رواياته من تلك الغرائبية نفسها "ففي نهاية المطاف، ليس ثمة بعد في روايتي الأولى تلك، وفيما أنتجت بعدها من نصوص حكائية، إلا وله أساس حقيقي وواقعي. لأنه إن لم يكن كذلك سيكون مجرد غرائبية (فانتازيا) وللفانتازيا في الإبداع مكان أثير هو عالم والت ديزني. وأنا لا علاقة لي بديزني على الإطلاق ولا يهمني لا عمله ولا غرائبيته. فإذا قيل لي إن ثمة مقداراً، ولو واهياً من تلك الغرائبية في عمل لي، سأشعر من فوري بقدر كبير من الخجل. ولنأخذ للتدليل على ذلك مشهد فراشات موريسيو بابيلونيا الصفراء في روايتي، وهو المشهد الذي صرخ كثر حين وصلوا إليه: رباه يا للمشهد الغرائبي! لكنه في حقيقته مشهد واقعي كل الواقعية. فأنا ومنذ كنت في السادسة من عمري، أتذكر عامل الكهرباء الذي كان يتردد على بيتنا في آراكاتاكا. وأتذكر المشهد الذي يتواكب مع وصوله، وهو مشهد جدتي وهي تطرد فراشة بيضاء مستخدمة قطعة من القماش. لقد كانت الفراشة في الحقيقة بيضاء بياضاً ناصعاً ولم تكن صفراء على الإطلاق. وكانت جدتي تتمتم بغضب: يا للسماء إنني عاجزة تماماً عن طرد هذه الفراشة. والغريب أن هذه الفراشة كانت تهاجم البيت وتحوم في أجوائه في كل مرة يدخل الكهربائي بيتنا".
واقعية مفرطة
وهنا يضيف ماركيز خاتماً كلامه "إنه لمشهد يظل على الدوام يحوم في ذهني تحويم الفراشة البيضاء في أجواء البيت. والآن، إذ نستعيد معاً هذه الحكاية يمكننا أن نقارنها بما أسفرت عنه في الرواية نفسها. ومع ذلك أود أن أختم هنا هذا المثال الصغير بتذكيرك بأمر قد لا يكون بالغ الأهمية: في الأصل كانت ثمة فراشات حقيقية وكانت بيضاء لا صفراء، لكنني في الواقع لم أرها بيضاء لأنني لم أكن أريدها بيضاء. كنت أريدها صفراء، فجاءت في الرواية صفراء لأنني لاحقاً لم أردها أبداً أن تكون بيضاء. فآمنت بكونها صفراء ونقلت هذا الإيمان إلى الرواية وإلى ذاكرة قرائي. فأين الغرائبية في هذا؟ وأين هي الواقعية السحرية التي يتحدثون عنها"؟