Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ملف 12" مسرحية عراقية تعبر مآسي الهجرة نحو المجهول

ممثلون وراقصون "مهاجرون" يتوزعون بين اليابسة وأمواج البحار

مشهد من المسرحية العراقية التي تتناول الهجرة عبر البحر (الخدمة الإعلامية)

تستعيد مسرحية "ملف 12" للمخرج العراقي مرتضى علي لحظة فارقة في التاريخ القريب لآلام الشعوب المبتلاة بالمحن. يقدم العرض قصة الهجرة العربية التي بدأت قبل 10 سنوات عبر البحر المتوسط إلى أوروبا، طلباً للنجاة من مدن غطاها دخان الموت وعتمة الحرب.

العرض من إنتاج دائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، وقد حصد جائزة أفضل أداء جماعي، وجائزة "أفضل كيروكرافيا" لمرتضى نومي، وجائزة التميز في الإضاءة لعباس قاسم في مهرجان الإسكندرية الدولي بدورته الـ13.

تعيد المسرحية مأساة الشباب العربي الذين تدفقوا بالآلاف هرباً من بطش الديكتاتوريات وعنف الاقتتال الداخلي مع بداية عام 2013، هاربين عبر الهجرة الشرعية وغير الشرعية إلى مدن أكثر هدوءاً، تركزت في القارة العجوز بحسب تقارير منظمات عالمية. فبينما كان عدد المهاجرين العرب عام 2011، 131 ألف نسمة فقط، فإنه ارتفع عام 2014 إلى حدود 238 ألف نسمة بحسب تقديرات لـ"الإسكوا". هربت هذه الأعداد جراء أحداث سوريا الدامية والاقتتال الداخلي وظهور "داعش" في العراق، فضلاً عن المشكلات الاقتصادية في أنحاء أفريقيا. عن تلك المأساة وأسئلتها المرة تركز العرض الأدائي "ملف 12". معروف أن المسرح المعتمد على الرقص الأدائي يحتاج إلى معالجة إخراجية خاصة تعوض فقدان عنصر النص والحوار بين أبطاله. أنت هنا أمام الجسد ولغته وإيماءاته، أمام بلاغة الحركة في الإشارة والإيحاء وإطلاق العنان للعبة الخيال والتأويل وفك مغاليق الصورة. ومثلما يحتاج المسرح التجريبي تحديداً إلى رؤية إخراجية محكمة، وتجسيد واع وذكي من الممثلين، وأدوات مساعدة على قدر من المرونة والتمثل مثل الإضاءة والموسيقى، يحتاج إلى جمهور خاص قادر على التفاعل والاستقبال.

عناصر مسرحية 

اختار فريق مسرحية "ملف 12" الرقص الدرامي أو ما يعرف مسرحياً بـ"الكوريغرافيا"، الذي يستند إلى القدرة الأدائية التي تنقل الرسالة والنص عبر الحركة - الرقص إلى المتلقي. واستفاد من تضافر العناصر المسرحية جميعاً: الجسد والموسيقى والضوء، مثلما استثمر بعض مظاهر التقنية مثل العارضات الرقمية.

استطاع المخرج مرتضى علي عبر تكثيف حركة الراقصين في فضاء العرض، وتفاعلها مع العناصر المسرحية، تحقيق رؤية طقسية ساعدته في إيصال الحمولة النفسية لمهاجر يترك استقرار اليابسة نحو مجهول المياه المتلاطمة في لجج الاحتمالات. حالة الخوف والترقب والتحفز والأمل والحلم بغد مشرق، كلها كانت حاضرة ومؤثرة وصنعت جواً من التواصل المشحون بالعاطفة مع الجمهور الذي تفاعل مع رسالة العرض. ففي النهاية لم يكن هاجس الهجرة مقتصراً على بلد عربي دون آخر، بل صار في السنوات الأخيرة سمة بارزة رافقت الشباب العربي على امتداد الخريطة.

نجحت سينوغرافيا العرض في الإعانة على إيصال رسائل المسرحية ساحة مفتوحة غير مستقرة، تمثل السفينة التي تقل المهاجر المضطرب. في الفضاء يرتفع قوس يشبه مثلثاً شاهقاً، دلالة على الشراع المتفرس بالأمواج. مع أربعة إطارات (براويز) مستطيلة، فارغة، معلقة في الفراغ.

يبدأ العرض بمشهد شخص ببدلة رمادية بدت عليه أمارات الإرهاق والانشداه والحيرة، وقد تحول رأسه إلى جهاز تلفاز ثقيل، ينوء الجسد بحمله، ربما دلالة على تأثير الميديا وديكتاتورية الإعلام الذي هيمن على عقل الإنسان الحديث ومحا خصوصيته وحريته. أو إشارة إلى تحول المرء في زماننا إلى جهاز استقبال وبث، بلا بصيرة وتعقل وتحليل. حقيبة سفر ملقاة وملابس رثة بدت كأنها لمسافرين قضوا رحلتهم قبل أن تبدأ. طرق متقاطعة، جسدتها الإنارة، تنفرج تحت أقدام المسافر المنهك.

معمار الحكاية

ينفعل حشد الراقصين مع تصاعد العرض الذي يستثمر في الإضاءة الناجحة: الأحمر والأزرق بدلالتيهما الدرامية والسيكولوجية، والأبيض بسطوعه المحايد. قسمت الإضاءة بذكاء مساحة العرض إلى بقع تأثير متفرقة، ركب عليها الراقصون معمار الحكاية على أكثر من مستوى تعبيري. هل كانت أزياء الراقصين معادلاً موضوعياً لرسائل الفضاء المحتدم؟ أكانوا كناية عن الهواجس والأفكار التي تشتعل في رأس المهاجر المكلوم، أم أطياف الذين ماتوا من أبناء الوطن، وهي تعود مستغيثة ومحذرة من المصير الواحد المحتوم لمن يتمسك بأرضه المستعرة؟ توظيف الألوان المتداخلة انعكاس لاضطراب الأفكار في رأس المهاجر، بين بقاء لا حياة فيه وهرب بين فكي الموت.

أسهم الشريط الموسيقي المرافق للعرض، من جانبه، في تدعيم الرؤية الإخراجية. أصوات تأتي من الطبيعة: أمواج، زخات مطر، حفيف أشجار. وأصوات أخرى تجيء من المعدن، الآلة: تشويش، ضجيج مكائن، النعومة أمام الخشونة. تعزز هذه المقابلة الثنائية التي عملت المسرحية على إبرازها إلى جانب التيمة المركزية، تغول المادية وأدواتها: السياسة والجشع والرغبة التدميرية مقابل انحسار الارتباط القديم بين الإنسان والطبيعة، ضحيتي آلة المال والسياسة. المهاجرون في النهاية ضحايا تلك العلاقة غير المتكافئة التي تكاد تودي بكوكبنا إلى النهاية. وهم، وإن جازفوا بأغلى ما يملكون، حياتهم وحياة أسرهم، فإن الفردوس الذي حلموا به لم يكن سوى أمواج عاتية لا ترحم تركتهم طعماً لأحياء البحر أو أشلاء هامدة على الضفاف تتناقلها الكاميرات ونشرات الأخبار. يعود البطل بعد انتهاء رحلة صراعه إلى نفسه، يستعيد رأسه، أي يستعيد استقلاليته وخصوصيته، لكن الطريق ظل منطوياً على خساراته التي لن يعرفها أحد. ربما هذا ما أراد المخرج الإيحاء به عبر مشهد الراقص الأخير الذي استعرض بعض ملابس زملائه أمام الأطر الخمسة المعلقة في الفراغ، كأنه يلوح للجناة المجهولين بما خلفوه من جرائم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول مرتضى علي لـ"اندبندنت عربية": "يشير العنوان، ملف 12، إلى الـ12 دولة أعضاء الاتحاد الأوروبي التي فتحت أبوابها إلى اللاجئين كي يتنعموا بحياة كريمة بعد أن أرقتهم الحروب. إلا أن النهاية لم تحمل للاجئين ما كانوا ينتظرونه ويتوقعونه من نهاية لمأساتهم، بل ذهب في هذه المغامرة عدد هائل من الأبرياء الذين تبددت أحلامهم على ضفاف سواحل أوروبا، منهم من صار وجبة للأسماك البحرية، وبعضهم ابتلعتهم قيعان البحر. تفتح المسرحية باب السؤال عن المسؤول وراء هذه المآسي التي تركت في قلوب ذويهم جروحاً لم تندمل حتى الآن".

ويضيف: "المسرحية تناقش قضية الهجرة، والهجرة قديمة بدأت قبل أحداث الربيع العربي وتداعياته المرة بمئات السنين، لكن سؤالها عبر التاريخ واحد، إنه سؤال اليائس الذي لا حل أمامه. لا حياة له على اليابسة حيث الوطن يأكل أبناءه كل يوم، ولا السماء تأتي بالحل. لم يبق سوى البحر، كأني استعدت نداء العربي الذي نادى يوماً، مع اختلاف الظروف والأسباب، بمن معه: العدو أمامكم والبحر من ورائكم، هذه هي الحقيقة".

ويؤكد علي أن المسرحية "تنطق بلسان من خذلتهم الأقدار وباتوا لعبة بيد قوى لا قبل لهم بها. إنها صرخة احتجاج عن الإنسان البسيط الحالم بحياة كريمة لا أكثر، طلبها هارباً من الموت ليقع فيه بلا رحمة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة