ملخص
حتى لو عادت درنة، من يرد الناس؟
ينهمك محمد بدر بتنظيف منزله الغارق في الوحول والتربة، ويتوقف ليعدد أسماء عائلات من جيرانه وأقاربه لا يعرف شيئاً عن مصيرهم منذ الفيضانات المدمرة التي جرفت أجزاء واسعة من مدينة درنة في شرق ليبيا.
ليلة الكابوس
جاء إلى المنزل مع فريق من ستة عمال محاولاً إنقاذ ما تبقى من أثاث المنزل وأغراضه الشخصية، بعد أن نجا من الموت بأعجوبة. ويقول الشاب البالغ 23 سنة، الذي تلطخت يداه وملابسه بالوحل، لوكالة الصحافة الفرنسية "آل بوزيد وآل فشياني وآل الخالدي عائلات بالكامل، ليس هناك أحد منهم".
على السطح حيث نقل بضع قطع من أثاث منزله وأغراض عائلته، يعود بتأثر إلى الساعات التي كان محاصراً خلالها بالمياه ليلة 10 سبتمبر (أيلول)، "سمعت كثيراً من الصراخ، هناك جيران لي صرخوا حتى الموت، كانت الدنيا ظلاماً وليس هناك أحد" لمساعدتهم.
يؤكد بدر أنه عاش في تلك الليلة "أكثر من كابوس"، متابعاً "توفي شقيقي بعدما نزف لساعات بسبب إصابة في ذراعه التي سقط عليها شيء ما"، من دون أن يتمكن أحد من إسعافه.
لحظة نجاة
عندما اجتاحت المياه منزل العائلة، تشبث محمد بدر بمكيف الهواء، وظلت المياه تصعد، فلم يبق لديه سوى مسافة نصف متر تقريباً أبقى رأسه فيها خارج المياه، لكن المكيف ما لبث أن اقتلع من مكانه، وكاد يغرق قبل أن تتحول كنبة كانت تطفو بجانبه إلى قارب نجاته، بقي متمسكاً بها ساعات قبل أن ينكسر زجاج نافذة الغرفة ويبدأ مستوى المياه بالانخفاض.
على جدران المنزل، لا يزال أثر المستوى الذي وصلت إليه المياه واضحاً في أعلى الغرف.
ونجا أيضاً والداه وزوجة أخيه وأبناؤهما الثلاثة، لكنه لم يسمع شيئاً عن عديد من أقربائه.
ويروي أن لا أثر لـ32 شخصاً من أعمامه وعائلاتهم الذين "لم يعثر على جثثهم بعد لأن المبنى الذي كانوا يقطنون فيه لا يزال مطبقاً على بعضه"، مضيفاً "قد يكون عثر على جثثهم لكن لم يتعرف أحد عليها، فالجثة لا تعود محددة الملامح بعد مرور الوقت".
كارثة وإغاثة
وضربت عاصفة قوية شرق ليبيا ليل 10 سبتمبر مصحوبة بأمطار غزيرة تسببت بانهيار سدين في أعلى درنة، ما أدى إلى تدفق مياه أشبه بتسونامي في مجرى نهر جاف إجمالاً اجتاحت مناطق واسعة، جارفة في طريقها أبنية وجسوراً وموقعة 3351 ضحية على الأقل، في أحدث حصيلة رسمية موقتة لسلطات شرق ليبيا، بينما لا يزال هناك آلاف المفقودين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الأيام الأولى بعد الكارثة، عملت فرق إغاثة ومتطوعون عثروا على جثث من ضحايا الفيضانات، أحياناً على وضعها في أكياس ودفنها في مقابر جماعية من دون التعرف عليها، وفق بعض التقارير.
يحاول بدر إنقاذ أشياء لا تزال صالحة للاستخدام من منزله، على السطح كنبات وأوسدة وملابس وآلة ركض، إضافة إلى مصابيح وطاولات خشبية وكراسي بلاستيكية وسجاد وستائر وأدوات كهربائية، ويقول "الله أعلم إن كانت تشتغل"، مضيفاً أنه يسعى للعثور على "أغراض ومستندات يجب إخراجها" من المكان.
وليس محمد بدر وحده من ينتظر معرفة مصير معارفه وأقاربه.
أسى وفقدان
في مكان آخر من درنة، وفي "استراحة" متواضعة أقامها لتقديم مياه للشرب ومرطبات لعناصر الإغاثة في المدينة، لم تجف دموع محمود ارقيق (50 سنة) وهو يتحدث عن فقدان جيرانه الذين يعرفهم منذ 50 عاماً.
ويعدد بدوره عائلات لم يسمع عنها أي خبر "عائلة الكراز وعائلة بو شتيلة، وكذلك عائلة غرياني وآل سنيدل والطشاني".
ويقول إنه انتشل من حيه "في اليوم الأول بعد الفيضانات 20 جثة"، موضحاً أن جميع من نجا كان يسهم في عملية البحث، لكن الانتشال "من تحت الأنقاض يحتاج إلى متخصصين".
ويردد كثيرون في درنة أن الجثث موجودة في كل مكان، تحت الأبنية المدمرة، أو ربما تحت التربة التي حولت أحياء بكاملها إلى مساحات فارغة، وفي بعض الأحياء، تنبعث رائحة نتنة يقول مسعفون وسكان إنها صادرة على الأرجح من تلك الجثث.
ولم يتأذ منزل محمود ارقيق الواقع في طابق مرتفع، لكنه يدل على "مصدر رزقه"، ورشة خراطة تدمرت بالكامل.
في الاستراحة، يحتسي ميلود بوسرتيه (40 سنة) الشاي بينما لا تزال الصدمة بادية على وجهه، يقول إنه فقد 25 شخصاً من عائلته. ويضيف "عمارتي انهارت وكان فيها 25 شخصاً توفوا جميعاً رحمة الله عليهم، هذا في عمارتي فقط، لكن لدي عمي وأقارب آخرين يصل عددهم إلى 70 ماتوا".
راحت درنة
ويضيف الرجل الذي لم يكن موجوداً في المنزل لحظة الكارثة، "لا يزال لدينا مفقودون، دفنا الجثث التي عثرنا عليها".
وبحثاً عن هؤلاء المفقودين يبقى بوسرتيه إلى جانب فرق الإنقاذ، ويقول "وكلما عثروا على جثة نأتي ونفتح الكيس، لكن الآن لم تعد هناك ملامح" يمكن التعرف إليها.
في أحد الأحياء الأكثر تضرراً في درنة، تسهم مجموعة شبان ليبيين متطوعين في جهود البحث عن المفقودين، من بينهم طارق ضيف الله الذي جاء من مدينة طبرق التي تبعد نحو 200 كيلومتر من درنة.
ويقول ضيف "نسهم في هذه الحملة ونبحث عن إخوتنا المفقودين وأولئك الذين تحت الأنقاض، ونحاول انتشال الجثث كي لا نبقى في الحيرة التي نعيشها الآن".
ويطالب محمد بدر بتأمين مساكن للناس التي دمرت بيوتها، ويقول "هناك أشخاص لا يعرفون إلى أين يذهبون، لم يعد لديهم أقارب الآن إلى أين يذهبون؟".
ثم يتابع بأسى "درنة كلها راحت، وحتى لو عادت لكن من يرد الناس؟".