Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النازيون أحرقوا كتب إريش كستنر وفرضوا عليه الصمت

في الذكرى التسعين لمحرقة ساحة الاوبرا في برلين التي قضت على مؤلفات "الإنهزاميين"

الكاتب الألماني إريش كستنر طارده النازيون (مركز غوته)

ملخص

في الذكرى التسعين لمحرقة ساحة الاوبرا في برلين التي قضت على مؤلفات "الإنهزاميين"

"أكره الأيديولوجيات، أياً كانت. أنا إنسان فردي عن اقتناع... كاتب أخلاقي، عقلاني، وحفيد أصيل لعصر التنوير الألماني، عدو لدود للعمق الزائف الذي لم يفقد بريقه أبداً في بلاد الشعراء والمفكرين، كاتب يقدس المطالب الثلاثة: الصدق في المشاعر، والوضوح في التفكير، والبساطة في التعبير".

هكذا وصف الكاتب الألماني إريش كستنر (1899 – 1974) نفسه، وهو المتعدد المواهب، الثري الإنتاج، وفي مكان آخر قال عن نفسه: "إن وصف كستنر أمر يبدو للوهلة الأولى صعباً. أي وصف نضعه تحت اسمه؟ بماذا نصف شخصاً ألف إلى جانب دواوين الأشعار الساخرة كتباً للأطفال؟ أديباً كتب رواية تحمر عند قراءتها حتى وجوه الأطباء، في حين يصف أطباء آخرون لمرضاهم رواياته المرحة السهلة وكأنهم يصفون دواءً للصداع أو أقراصا ضد المغص؟ شخصاً يكتب للصحف المقالات الافتتاحية في شؤون الثقافة والسياسة، ويؤلف الأغاني والاسكتشات لدور اللهو، ويهم الآن بكتابة مسرحية؟ كيف يستطيع المرء أن يرتب هذه الفوضى ليكون منها باقة زهور جميلة؟".

كان كستنر يكتب بخفة ، ووصف "السهل الممتنع" ينطبق عليه تمام الانطباق، وإلى ذلك يتميز أسلوبه بالسخرية اللاذعة من دون تهكم أو قسوة. وبشعبيته الجارفة أثار سخط بعض الكتاب والنقاد الذين اتهموه بالتهمة الشائعة في مثل حالته: "إنه يفتقد العمق!". عن ذلك يقول مارسيل رايش رانيتسكي، أشهر النقاد الألمان في النصف الثاني من القرن العشرين، إن كستنر كان كاتباً ناجحاً ومشهوراً، "ولهذا نظر إليه بريبة". ويضيف منتقداً موقف زملائه: "كان يكتب قصائد سهلة، إذاً فهي سطحية في نظرهم. وكان مرحاً ساخراً، إذاً فهو غير جاد. وكان مشهوراً، إذاً فهو كاتب شعبي".

الحرب والكساد العالمي الكبير

ولد كستنر في الثالث والعشرين من شهر فبراير(شباط) من عام 1899 في مدينة درسدن في شرق ألمانيا وسط أسرة متواضعة الحال بذلت كل ما في وسعها حتى تنفق على تعليم ابنها الوحيد. في سن الخامسة عشرة اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى، وفي عمر الثامنة عشرة جند كستنر، ولكنه سرعان ما سرح من الجيش بسبب مرض قلبه. بدأ كستنر دراسة الأدب الألماني والفلسفة في برلين وروستوك ولايبتسغ، ولولا المنحة التي حصل عليها من ولاية ساكسونيا، لما استطاع استكمال دراسته في تلك الفترة التي شهدت تدهوراً اقتصادياً رهيباً. عمل كستنر آنذاك متدرباً في إحدى الصحف، وفي نهاية الأسبوع كان يتلقى أجره في ملف كبير. يقول كستنر: "كان عليَّ أن أعدو حتى أشتري بالأجر طعاماً. وفي المتجر تكون النقود قد أمست أقل قيمة! آنذاك كانت هناك أوراق نقدية بمليارات من الماركات".

بعد أن حصل على الدكتوراه في الأدب الألماني، عمل كستنر صحافياً في جريدة محلية تصدر في لايبتسغ، ثم انتقل ليعمل في برلين. كانت العاصمة الألمانية آنذاك إحدى عواصم أوروبا الثقافية، وملتقى المثقفين والفنانين، ومقراً لدور النشر والصحف الكبرى، وشركات الإنتاج السينمائي، والمسارح، ومقر الحكومة والبرلمان. تفرغ كستنر للصحافة والأدب والمسرح والسينما، واتخذ من المقاهي مكاناً للعمل، فيها كان يكتب، ويجري حوارات، ويستقبل ضيوفه، ويتفاوض حول شروط عقود أعماله.

حاول مراراً جمع أشعاره في ديوان، وبعد مشقة وافق أحد الناشرين الصغار، وغامر بطبع الديوان الذي كان عنوانه "قلب على خصر" (1927). نجح الديوان نجاحاً كبيراً، أدهش الشاعر والناشر، ثم طبعت منه طبعات عدة. احتفى النقاد بالصوت الجديد المعبر عن الجيل الجديد، "الجيل الضائع" بعد الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير. تميزت قصائد كستنر بالصور البلاغية الجديدة، والاستخدام الطازج للغة المستمدة من الحياة اليومية، والنبرة الساخرة المتهكمة التي تفضح عجز الإنسان وقلة حيلته. جمع كستنر عدداً من قصائده الساخرة في ديوان بعنوان "الصيدلية الشعرية المنزلية لصاحبها الدكتور إريش كستنر". وعلى رغم النبرة الحزينة المخيمة على القصائد، فإنها تشيع مرحاً في النفس، وأحياناً بعض الأمل. يقول الناقد رايش رانيتسكي إن قصائد "الصيدلية الشعرية" هي التي منحته الأمل عندما كان معتقلاً في غيتو وارسو، وإنه ظل حتى بعد نهاية الحرب يحتفظ بالنسخة التي نسختها له بخط يدها حبيبته، وزوجته فيما بعد.

"فابيان – قصة رجل أخلاقي"

بعد عامين فاجأ الشاعر والصحافي قراءه وناشريه بقصة لليافعين بعنوان "إميل والمخبرون". نجح "إميل" نجاحاً مذهلاً لأنه كان كتاباً ذا نبرة جديدة، تبتعد عن الوعظ والإرشاد المباشر، ويظهر فيها الأطفال أشخاصاً أذكياء، مستقلين، معتمدين على أنفسهم، متعاونين، وعقلانيين متحررين من الخوف.

اكتشف كستنر عالم السينما، أو اكتشفه السينمائيون كاتباً بارعاً، فاستعانوا به لكتابة سيناريو أفلام عدة. ووسط كل هذه المشاغل الصحافية والسينمائية وجد إريش كستنر وقتاً لكتابة أولى رواياته التي صدرت عام 1931 "فابيان – قصة رجل أخلاقي".

وتعد الرواية من أهم الروايات الألمانية في فترة ما بين الحربين، ومن أهم أعمال تيار "الموضوعية الجديدة". كانت الرواية جريئة في بعض مشاهدها، حتى إن الناشر حذف بعض المقاطع والفصول، بموافقة الكاتب. عبر عديد من المشاهد في بيوت الدعارة والخمارات صور كستنر الانحلال الأخلاقي في الفترة التي واكبت الانهيار الاقتصادي، وأثمرت في النهاية تياراً سياسياً يمينياً متطرفاً هو التيار النازي الذي جلب الحرب والدمار والخراب على ألمانيا وأوروبا، بل وعلى العالم كله.

وعندما نطالع الرواية اليوم، ندهش من قدرة كستنر على استشفاف ما آلت إليه الأوضاع في ألمانيا بعد سنتين فحسب من نشرها، عندما وصل هتلر إلى الحكم في عام 1933.  ويلاحظ القارئ أن في الرواية مقاطع عديدة شديدة الراهنية، يمكن قراءتها على أنها تعليق على ما يحدث في عالمنا الآن. وربما لهذا تحولت الرواية في السنوات الأخيرة إلى فيلم ناجح (2021)، وقدمت معالجة مسرحية لها العام الماضي على مسرح برلينر إنسامبل (مسرح برشت).

ماذا يفعل الكاتب الحر في مواجهة نظام قمعي؟

بعد وصول هتلر إلى الحكم في يناير عام 1933 أحرقت أعمال الكاتب مع كتب المعارضين والمنتقدين للحكم النازي في ألمانيا في حريق الكتب المشهور في ساحة الأوبرا، أمام جامعة هومبولت البرلينية. يقول كستنر إنه كان يقف يوم العاشر من مايو (أيار) 1933 وسط الجموع الغفيرة في ساحة أوبرا برلين، وشهد بعينيه حرق كتبه. أحس الشاعر بغضب هائل، لكن "قبضته ظلت في جيبه". بعد ذلك منع من الكتابة، وقبض عليه مرتين، ومع ذلك رفض مغادرة وطنه.

ماذا يفعل كستنر إذاً بعد أن منع من الكتابة والنشر في ألمانيا؟

هل يهاجر، ومن المنفى يواصل الكتابة مثل برشت، وتوماس مان وشتيفان تسفايغ؟ أم يبقى داخل البلد، ويعارض، سواء بالكتابة أو بالفعل؟ أم يقوم بما سمي آنذاك "الهجرة الداخلية"، أي أن يبقى ويصمت مرغماً، ويكتب أشياء لا تغضب أحداً؟

بقي كستنر ولم يهاجر. ولعل أسباباً عديدة جعلته يواصل الحياة في ألمانيا. في البداية لم يكن أحد يتخيل ما ستؤول إليه الأوضاع بعد 12 عاماً من حكم النازيين. كان ربما يأمل مثل ملايين من الألمان ألا يستمر الكابوس النازي فترة طويلة، وألا ينجح الحزب النازي في الانتخابات التالية. ذكر كستنر أيضاً أنه كان يريد أن يكون شاهداً على تلك الفترة، وأن يكتب رواية كبيرة عن النازية، فضلاً عن أنه لم يرد أن يترك أمه وحيدة. وأعتقد أن هذا هو السبب الأهم.

يتحدث "فابيان" في الرواية بحب بالغ عن أمه، يتلقى منها الرسائل، والطرود التي تحتوي على ملابسه بعد غسلها وكيها. من يعرف إريش كستنر، يدرك أنه يتحدث في تلك الفقرات عن نفسه، وعن أمه إيدا كستنر. كانت الرابطة التي جمعت كستنر بأمه من القوة بحيث إنها وقفت عقبة أمام تكوين علاقة سوية مع حبيباته وعشيقاته الكثيرات. كان يحكي لأمه كل شيء، كل صغيرة وكبيرة في حياته، حتى فيما يتعلق بحياته الغرامية والجنسية.

الكاتب الممنوع من الكتابة: "جثة حية"

قدم كستنر عديداً من التنازلات ودفع ثمناً غالياً كي يواصل الحياة في ألمانيا. فمن ناحية، منع من الكتابة والنشر، واعتبره النازيون كاتباً "انهزامياً" "يقوض الروح المعنوية"، من ناحية أخرى وضع كستنر نفسه تحت رقابة ذاتية، وامتنع عن إبداء النقد السياسي. كان "جثة حية" مثلما وصف وضعه لاحقاً.

كان ثمن البقاء هو الصمت والبطالة. حاول كستنر عبر محاميه رفع الحظر المفروض عليه، مدعياً أنه قد تغير، ولم يعد انهزامياً، لكن من دون جدوى. نعم، لم يتملق كستنر النظام، لكنه حاول النجاة بالصمت أو بالحيلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في مايو 1945 كان لكستنر دور نشيط في الحياة الثقافية. انتقل إلى مدينة ميونيخ ورأس القسم الأدبي لجريدة "نويه تسايتونغ"، لكن المهام الصحافية الكثيرة التهمت وقته، فاستقال كستنر بعد عام ليتفرغ للكتابة الإبداعية. وعاد إلى كتابة روايات للأطفال واليافعين. يئس كستنر من الكبار، وفقد إيمانه بإمكانية إصلاح الإنسان، وأن يسلك سلوكاً واعياً مسؤولاً. ومن الغريب أنه لسنوات طويلة لم يتناول النازية في أعماله الإبداعية. انتظر الجميع صدور الرواية التي تتحدث عن فترة النازية، والتي وعد كستنر بها قراءه منذ سنوات طويلة، لكنها لم تصدر قط. الاستثناء الوحيد هو مسرحيته التي كتبها عام 1956 بعنوان "مدرسة المستبدين" (ترجمت إلى العربية)، وصور فيها كيف يتحول كثير من الناس أثناء فترات الطغيان إلى أداة طيعة، إلى ماكينات ودمى متحركة تعمل في خدمة النظام السائد. ولعل المسرحية تعبر أيضاً عن موقف كستنر اليائس، إذ لا جدوى في المسرحية من المقاومة، فالديكتاتورية هي المنتصرة دائماً.

نال كستنر بعد الحرب عديداً من الجوائز الأدبية تقديراً لدوره الرائد في الحياة الثقافية في ألمانيا. وفي عام 1957 حصل على جائزة غيورغ بوشنر، أهم الجوائز الأدبية في ألمانيا، كما ترأس نادي القلم الألماني، وصدرت أعماله في طبعات جديدة، ومنها طبعة الأعمال الكاملة، لكن مرارة ما ظلت في حلقه، مرارة شخص يعرف أن الأخلاق والعقلانية لا ينتصران في النهاية.

عاش كستنر سنواته الأخيرة في ظل المرض وإدمان الخمر. وتوقف كلياً تقريباً عن العمل وعن إعطاء الأحاديث الصحافية. كان يكرر: لقد استسلمت! وبعد عيد ميلاده الخامس والسبعين بأشهر، اشتكى كستنر من مشكلات في البلع، وبعد الفحص الطبي أخبره الأطباء بإصابته بسرطان المريء الذي سرعان ما وضع حداً لحياته في التاسع والعشرين من يوليو عام 1974.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة