ملخص
مع تزايد تهريب هذه المادة المخدرة أقامت الأجهزة الأمنية في غزة حواجز مفاجئة على الطرقات ونفذت عمليات تفتيش لبعض المناطق والمنازل في أوقات مختلفة خصوصاً في فترة الليل
في ساعات الليل يتناول زاهر أقراص الكبتاغون، ويحرص على ملازمة المنزل خشية أن يلاحظ عليه أحد حالة الهذيان التي تصيبه وغيابه عن الوعي، وخوفاً من أن يضبطه عناصر الأمن في غزة وهو في هذه الحالة.
لساعات طويلة يعيش حالة من الهذيان، ويبقى تحت تأثير المادة الكيميائية المخدرة لليوم التالي، على أن يشتري قرصاً جديداً وهو في طريق عودته من عمله.
ثمن مرتفع
يدفع الشاب ما يقارب 12 دولاراً ثمن حبة واحدة من "الكبتاغون"، ويتناولها على مراحل، إذ يتعاطى في أغلب الأحيان ربع القرص، إذ لا يقوى على شراء حبات عدة من المادة المخدرة، فثمنها المرتفع يحول دون ذلك، كما أنه يخشى أن يبلغ عنه للشرطة فتداهم عناصر مكافحة المخدرات بيته، وحينها يقع في ورطة.
أدمن زاهر على المخدرات منذ فترة قصيرة، لكنه لم يتعاط أي أنواع أخرى سوى "الكبتاغون"، وينتابه شعور الخوف في كل مرة يشتريه، وعلى رغم ذلك لم يحاول الإقلاع عنه.
يلعن الشاب الظروف التي أوصلته لحبوب "الكبتاغون" ويرى فيه خطراً يداهم عقله وحالته الصحية بخاصة جهازه العصبي، ولا يرمي السبب في إدمانه على أوضاع غزة الصعبة، على رغم أن الكثير من المدمنين والأطباء النفسيين ومعالجي المدمنين، يرجعون أسباب تناول المخدرات إلى ظروف الفقر والبطالة وسوء الاقتصاد وانعدام فرص العمل في القطاع.
لكن زاهر يعتبر أن بعض الظروف الشخصية السيئة التي مر بها كانت أحد العوامل المسببة لانحرافه، ويقول "ربما وضع القطاع سبب، لكن من غير المنطقي أن يدمن الفقير والعاطل من العمل الروتانا، هذا لا يصدق لأن ثمنها مرتفع مقارنة بحال غزة، وكيف يوفر مئات العاطلين من العمل سعر حبة واحدة؟".
ظهر عام 2018 وانتشر بسرعة
في الواقع، يعد مخدر "الكبتاغون" الذي يسمى في غزة "الروتانا" حديث الظهور في القطاع، وبحسب التقديرات فقد ظهر للمرة الأولى عام 2018، ولجأ له المدمنون كخيار بديل بعد شبه انقراض حبوب الترامادول التي شن عليها جهاز مكافحة المخدرات حملة كبيرة وقيد انتشارها، وباتت تصرف بوصفة طبية فقط كونها دواءً علاجياً.
ويعد "الكبتاغون" الذي يصنع في سوريا، ثاني أكثر المخدرات انتشاراً بين المدمنين في غزة، ويأتي بعد نبات الحشيش، بحسب مدير إدارة مكافحة المخدرات في جهاز الشرطة أحمد القدرة، الذي أكد أن "الروتانا" تعد الأخطر، وهي المخدر الأكثر انتشاراً في القطاع.
ومن مؤشرات انتشاره الواسع الضبوطات المسجلة أخيراً حتى بات إعلان جهاز مكافحة المخدرات عن ضبطه خبراً شبه معتاد ومتكرر، بعد أن بقي الأمر في السنوات السابقة مقتصراً على فترات متباعدة، ويرجع ذلك لزيادة محاولات التهريب وتعدد المصادر.
وكانت آخر عمليات التهريب الفاشلة في 18 يوليو (تموز) الحالي، عندما أعلنت شرطة مكافحة المخدرات في غزة ضبط 80 حبة مخدرة من نوع "روتانا"، إلا أن أكبر محاولات إدخال "الكبتاغون" إلى القطاع حصلت في 20 مايو (أيار) الماضي، عندما أحبط الجهاز نفسه محاولة تهريب 30 ألف حبة من "الكبتاغون". وفي 24 مارس (آذار) الماضي، ضبطت مكافحة المخدرات ستة آلاف حبة "روتانا" خلال مهمة تفتيش منزل أحد المروجين. وفي 20 فبراير (شباط) الماضي، جرى ضبط قرابة 50 ألف حبة مخدر من النوع نفسه أثناء محاولة تهريبها.
وبالعادة، تتلف هيئة القضاء العسكري المواد المخدرة التي تم ضبطها في قضايا التهريب عقب مؤتمر صحافي تحضره إدارة مكافحة المخدرات بالشرطة وممثلون عن المجتمع وفرق شبابية ناشطة في التوعية بقضايا المخدرات، ووفد من وزارة الصحة، ويجري حرقها في أفران مخصصة.
لا إحصائيات حول عدد المدمنين
ولا تقتصر محاولات إحباط تهريب الكبتاغون إلى غزة على نشاط جهاز مكافحة المخدرات، بل أيضاً أسهمت إسرائيل في ذلك، إذ أعلنت وزارة دفاع تل أبيب في 30 يناير (كانون الثاني) الماضي، عن تمكن حرس الحدود من إفشال محاولة تهريب آلاف حبوب "الكبتاغون" كانت في طريقها إلى القطاع.
وتعد الأرقام المرعبة التي جرى إحباطها خلال العام الحالي، جزءاً من عمليات تهريب مخدرات "الكبتاغون" إلى غزة، وبحسب نائب مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات أنور زعرب، فعلى رغم قلة الإمكانات وشح أجهزة الكشف عن السموم إلا أن نسبة ضبط المخدرات تتجاوز 30 في المئة.
مما لا شك فيه أنه هناك محاولات متعددة الجهات لترويج "الكبتاغون"، لكن من غير الواضح عدد المدمنين عليه أو حتى نسبة المتعاطين لأي نوع من المخدرات، ولا توجد دراسات حديثة حول ذلك. لكن في عام 2017 نشر المعهد الوطني للصحة العامة في رام الله دراسة حول مدى انتشار وتعاطي المخدرات في فلسطين، وكشفت النتائج أن حوالى 10 آلاف و47 شخصاً يتعاطون المخدرات بشكل خطر في القطاع، ويعتمدون بشكل أساسي على "الترامادول" و"الليريكا".
2.5 مليون دولار حجم التجارة
ويقول مدير الشؤون القانونية في الإدارة العامة لمكافحة المخدرات علاء الوادية، إن "جميع المواد المخدرة يتم جلبها من الخارج، ولا توجد عمليات تصنيع محلية، وعادة ما تدخل غزة بواسطة الشاحنات التجارية الواردة عبر معبر كرم أبو سالم، وتصل حجم التجارة في مجال المخدرات إلى قرابة 2.5 مليون دولار أميركي سنوياً".
وليست غزة وحدها التي تعاني من "الكبتاغون" الذي يعد منشطاً من نوع الأمفيتامين، بل أيضاً "تل أبيب يرهقها ذلك"، وبحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" فإن مسؤولي الجمارك ومكافحة المخدرات يعتقدون أنه مقابل كل شحنة يصادرونها تمر تسع شحنات أخرى، وتباع الحبة منه في بلادهم بحوالى خمسة دولارات، وتبلغ قيمة تجارته السنوية 10 مليارات دولار على الأقل.
هل إسرائيل متورطة؟
وفي ظل انتشاره في تل أبيب، تتهم السلطات الفلسطينية في غزة الجانب الإسرائيلي بالوقوف وراء تسهيل إدخال المخدرات إلى القطاع. ويعدد مدير دائرة مكافحة المخدرات في الموانئ والمعابر الحدودية أحمد الشاعر الدلائل على ذلك قائلاً "لا شيء يخرج أو يدخل إلى غزة إلا تحت أعين إسرائيل، فحين نجد المخدرات تدخل من المعابر التي تتحكم بها، نتأكد من أنها متواطئة في ذلك، وتعمل بالتنسيق مع تجار المخدرات لإغراق القطاع بالسموم".
ويضيف الشاعر "الدليل الثاني أن إسرائيل تمنع إدخال أجهزة الأشعة السينية التي تكشف عن المخدرات لقطاع غزة، على رغم أن هناك دولاً تبرعت بها. كما لا تسمح تل أبيب للكوادر العاملة في جهاز المكافحة بالسفر من أجل تلقي التدريبات اللازمة وتبادل الخبرات مع الدول الأخرى".
ترتبط غزة مع إسرائيل بمنفذين، الأول معبر كرم أبو سالم التجاري جنوب القطاع، والثاني معبر إيرز شمالاً، وتؤكد السلطات الفلسطينية أن الأول يعد البؤرة الرئيسة في دخول جميع أصناف المخدرات لغزة.
في الفترات الأمنية الهادئة يدخل إلى غزة من معبر كرم أبو سالم التجاري نحو 400 شاحنة، يقول الشاعر إنه من الصعب تفتيشها بسهولة، بخاصة في ظل عدم وجود أدوات مساعدة، والاعتماد على القوات البشرية المحدودة والكلاب المدربة فقط.
من جانب إسرائيل، ينفي منسق أنشطة حكومة تل أبيب في الأراضي الفلسطينية غسان عليان، تساهل أجهزة دولته إزاء تهريب المخدرات لغزة، ويقول "نسعى لمنع دخولها وتداولها في منطقتنا والمناطق الحدودية المجاورة، وسبق أن قمنا بعمليات إحباط تهريب عقار كبتاغون قبل وصوله لغزة في أكثر من عملية".
آليات تهريبه إلى غزة
وبحسب مدير دائرة مكافحة المخدرات في الموانئ والمعابر الحدودية أحمد الشاعر، فإن "الكبتاغون" يتم تصنيعه في إحدى الدول خارج فلسطين، ثم ينقل إلى وجهة ثانية، بعد ذلك يتم وضعه في بضائع تجارية مشحونة إلى غزة، بواسطة شركاء لبعض التجار الذين يتواجدون خارج القطاع، ويقومون بنقله إلى موانئ إسرائيل وعند وصولها، تنقل إلى مستودعات شركات النقل والشحن، ومن ثم إلى قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم.
ووفقاً لبيانات رسمية أوردتها وكالة الصحافة الفرنسية، يصنع "الكبتاغون" في سوريا ويعد أكبر صادرات دمشق، ويفوق جميع صادراتها القانونية مجتمعة، وتم ضبط أكثر من 400 مليون حبة في الشرق الأوسط عام 2021.
وبالعادة، تتولى شركات عدة عملية نقل وشحن وتوريد البضائع إلى غزة، وفي حال ضبط داخلها مخدرات، فإنها تتبادل الاتهامات مع التجار والموردين حول مسؤولية وضع المخدرات داخل المنتجات.
ويشير الشاعر إلى أن الإدارة العامة لمكافحة المخدرات دائماً ما تحقق حتى تصل إلى المسؤول عن السموم المضبوطة في البضاعة، لكن بعض القضايا معقدة وفيها أكثر من طرف مثل حالات الشحن الجزئي، لافتاً إلى أنه في حال لم يكن صاحب الشركة على علم بالمخدرات وجرى استغلال بضاعته لدس السموم فيها، حينها لا يقع عليه جرم.
ويوضح الشاعر أن عملية تهريب "الكبتاغون" ونقله إلى غزة تتم عبر شبكة لها فروع في دول عدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أدوات بدائية في مكافحة التهريب
وإلى جانب معبر كرم أبو سالم، يدخل "الكبتاغون" إلى غزة من بوابة صلاح الدين التي تربط بين القطاع ومصر، وأيضاً يجري تهريبه من البحر الذي تضعف فيه الرقابة نسبياً مقارنة مع المنافذ الأخرى. ويؤكد مدير الشؤون القانونية في الإدارة العامة لمكافحة المخدرات علاء الوادية أن الفترة الأخيرة شهدت نشاطاً ملحوظاً في عمليات التهريب عبر البحر، مشيراً إلى أنه إذا استطاعت الشرطة ضبط ما نسبته 40 في المئة من حجم ما يدخل غزة فهذه نسبة جيدة.
كثفت دائرة مكافحة المخدرات جهودها لمراقبة المعابر، لكنها في الوقت نفسه ما زالت تعمل بأدوات بدائية. ويقول مدير دائرة مكافحة المخدرات في الموانئ والمعابر الحدودية أحمد الشاعر، "نعمل بإرهاق ونعتمد على الأيدي البشرية من ضباط وأفراد بشكل كبير وتساعدهم الكلاب المدربة، إذ يتم تفتيش الشاحنات يدوياً ونحصل على المعلومات من متعاونين بأن الحاوية الفلانية تحوي مواد مخدرة".
ومع تشديد الملاحقة، دأب مهربو "الكبتاغون" على استخدام أساليب جديدة فأصبحوا يضعون الحبوب داخل المراهم الطبية والأحذية والملابس والفواكه والبقوليات والأسماك وأكياس رقائق البطاطا وقطع غيار السيارات والأثاث وغيرها من السلع، ما يجعل من الصعب اكتشافها من قبل قوات الأمن.
وليست غزة وحدها التي تكافح انتشار "الكبتاغون" بل أغلب دول العالم تسعى لمنع تعاطيه. وقد عملت وزارة الخارجية الأميركية على استراتيجية تنفيذية لقانون "مكافحة كبتاغون الأسد"، الذي صادق عليه الرئيس الأميركي جو بايدن نهاية العام الماضي، وخلال الأشهر الماضية عملت على التعاون مع دول في أوروبا ومناطق أخرى لوقف تفشيه.
ومع تزايد تهريب هذه المادة المخدرة، أقامت الأجهزة الأمنية في غزة حواجز مفاجئة على الطرقات، بحثاً عن المخدرات والمروجين لها، إلى جانب تنفيذ عمليات تفتيش لبعض المناطق والمنازل في أوقات مختلفة، خصوصاً في وقت الليل.
"الكبتاغون" الأخطر في غزة
ويؤكد مدير إدارة مكافحة المخدرات في جهاز الشرطة أحمد القدرة، أن المخدرات من نوع "روتانا" هي الأخطر من حيث المفعول والأكثر انتشاراً في غزة، وعادة ما يكون ترويجها من خلال أفراد، ولا توجد عصابات منظمة تعمل داخل غزة في هذا المجال.
ويقول القدرة "نكثف جهودنا لوقف المخدرات، ونحن في مرحلة السيطرة والحد من عملية التعاطي والاستهلاك للمواد المخدرة، وهذا يجري ضمن مشروع نعمل عليه منذ عام 2017.
ويضيف "نحاول وقف جميع أشكال تهريب المخدرات عن طريق استهداف التجار المتورطين، ونجحنا في تقليص عمليات التهريب، أخيراً لاحظنا انخفاضاً في نسبة المواد المضبوطة وندرة تفشيها في غزة، وأيضاً تمكنا من إنهاء وجود بعض البؤر التي تسعى إلى الترويج لها".
من جهة النيابة العامة، بصفتها الجهة المخولة في إصدار المذكرات القانونية للاعتقال والتفتيش والحبس، يجزم المتحدث باسمها في غزة زياد النمرة أن الفترة الماضية شهدت انخفاضاً كبيراً في انتشار المخدرات، بعد اتباع سياسة عقابية واضحة وقاسية، وتشكيل لجان متخصصة لملاحقة مروجيها.
وبحسب التقرير السنوي للمجلس الأعلى للقضاء، فخلال عام 2022 فصلت المحاكم في 271 قضية مخدرات، أما عام 2021 فقد بلغ عدد قضايا المخدرات المحولة للمحكمة نحو 1200، وعام 2020 كانت 1300 قضية موزعة بين التعاطي والإتجار والتهريب.
ويعد تعاطي "الكبتاغون" أو أي مخدر آخر جريمة يعاقب عليها القانون الفلسطيني، إذ وافق المجلس التشريعي عام 2013 على قانون المخدرات والمؤثرات العقلية، والذي يتضمن عقوبات صارمة تشمل الإعدام والسجن المؤبد ودفع غرامات مالية كبيرة.
أحكام بالإعدام وتطوير للقانون
بالعادة، تفصل المحاكم العسكرية في قضايا المخدرات باعتبارها جرائم تمس بالأمن القومي الفلسطيني، ومنحها المجلس التشريعي هذه الصلاحيات عام 2016، على رغم أن القانون يعتبر قضايا الإتجار بالمخدرات ضمن اختصاص المحاكم المدنية فقط. وأصدرت محاكم غزة خلال العام الحالي حكماً بالإعدام شنقاً على تاجر مخدرات، وحكمين مماثلين العامين الماضيين.
ويقول مدير الشؤون القانونية في الإدارة العامة لمكافحة المخدرات علاء الوادية، إن سياسة المكافحة تقوم على ملاحقة التجار وليس المتعاطين الذين يعدون ضحية لهؤلاء التجار، والإجراءات المشددة الرادعة أحدثت إرباكاً لدى التجار.
ومن جانب المجلس التشريعي، يقول النائب محمد الغول إنهم بصدد إجراء تعديلات على قانون المخدرات بهدف سد الثغرات القانونية، إذ يسعى مهربو المخدرات إلى استغلال بعض الثغرات القانونية لمصلحتهم.
وترفض المؤسسات الحقوقية عرض المتهم على المحاكم العسكرية كما ترفض أحكام الإعدام الصادرة بحق بعض المهربين، كونها مخالفة للقانون الفلسطيني الأساسي والاتفاقيات التي شاركت فيها السلطة.
ويعتبر جميل سرحان نائب المدير العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (مؤسسة رسمية حكومية)، أن "إحالة المتهمين المدنيين للقضاء العسكري للنظر في القضايا الخاصة بالمخدرات إجراء مخالف للقانون، كما نطالب بوقف عقوبة الإعدام في مختلف القضايا بما في ذلك المخدرات، تطبيقاً لاتفاقية مناهضة عقوبة الإعدام التي انضمت إليها فلسطين".