ملخص
تحوي الجبانات التاريخية في مصر كثيراً من الأدلة على روعة وتميز فن الخط العربي، فهي متحف مفتوح للاطلاع على أهم الخطوط وأعمال الرواد ودراستها وتوثيقها والاستلهام منها.
على مدار التاريخ اعتبر المصريون المثوى الأخير معبراً لحياة ثانية، وأضفوا خلاصة فنون حضارتهم على المدافن، وكانت الكتابة حاضرة بقوة ومكون رئيس في المقابر من النقوش الهيروغليفية التي زينت مقابر ملوك مصر القديمة، مروراً بحضارات متعددة تعاقبت على مصر، وصولاً إلى العصر الإسلامي الذي كان لفنون الخط العربي حضور لافت فيه، إذ أبدع الخطاطون وأنتجوا روائع الكتابات التي تزين جدران المقابر وشواهدها، لتدل على فن رفيع وعناية كبيرة بالمقر الأخير كما الأول.
وتحوي الجبانات التاريخية في مصر كثيراً من تلك الأدلة على روعة وتميز فن الخط العربي في مصر، وكذلك ريادة المدرسة المصرية لفنونه، فالنقوش الكتابية في "القرافة" تعد كنزاً لتأريخ وتطور فنون الخط، وهي متحف مفتوح للاطلاع على أهم الخطوط وأعمال الرواد من الخطاطين ودرسها وتوثيقها والاستلهام منها.
وتعد مقابر منطقة الإمام الشافعي التي تضم كثيراً من مقابر أسرة محمد على وكبار العائلات خلال تلك الفترة، ساحة للتنافس في روعة الكتابات وجمال النقوش والعبارات التي تزينها.
وخلال الفترة الأخيرة كانت الجبانات التاريخية في مصر في بؤرة الأضواء وكانت مثار أزمات متعلقة بتعرض بعض منها للإزالة والهدم بسبب طرق ومحاور مرورية مزمع تنفيذها خلال الفترة المقبلة، مما وضع كثيراً من الأمور المتعلقة بقيمتها الفنية والتراثية والمعمارية في دائرة اهتمام كثير من الباحثين والمتخصصين وحتى عوام الناس، ومن بين الفنون التي تضمها المقابر التاريخية بين جنابتها روائع الخط العربي وفنونه التي تتنوع من تطور الخطوط والنقوش الكتابية والزخارف من عصر لآخر.
سمات مصرية
مدارس عدة لفنون الخط العربي ظهرت في بلدان مختلفة وتطورت مع الزمن، وتأثر بعضها ببعض بفعل ترحال الخطاطين من بلد لآخر، وفي مصر تأثرت فنونه ومن بينها كتابات المدافن بالمدارس المختلفة.
الخطاط والباحث في فنون الخط العربي محمد شافعي قال إن "مصر تأثرت بغيرها من المدارس الفنية، إذ كان السائد في بداية عهد محمد علي باشا الأسلوب الفارسي بسبب استقدامه لكثير من خطاطي تلك المدرسة، ثم بدأ الخط العثماني في الظهور والانتشار، أما معالم المدرسة المصرية للخط العربي في العصر الحديث فقد بدأت في التبلور مع بزوغ نجم الخطاط محمد مؤنس زاده الذي يمكن اعتباره رائد النهضة الخطية بمصر خلال العصر الحديث مع تلميذه محمد بك جعفر، إذ قاما بتدريس الخط العربي في مدرسة دار العلوم منذ نشأتها ليكون تلاميذهما النواة التي قامت عليها مدرسة تحسين الخطوط الملكية التي افتتحت عام 1922".
وأضاف شافعي، "في ما يتعلق بنقوش المقابر فإن عملهما الأجمل الذي اشتركا فيه هو النقوش الكتابية على تركيبة قبر والدة الخديوي توفيق (شفق نور) المؤرخ عام 1301 للهجرة بمدافن العائلة المالكة (حوش الباشا) بمقابر الإمام الشافعي، والتركيبة تتكون من ثلاثة مساطب تزخر بتكوينات عدة تصل إلى 12 تكويناً بخط الثلث الجلي، وكثيراً من الأشرطة الكتابية بالثلث المركب تحيط بالجهات الأربعة لكل مستوى منهم، تتخللها زخارف نباتية غاية في الجمال في تناغم مع النقوش الكتابية".
عبارات وأشعار
"أم هبّت الريح من تلقاء كاظمة
وأومض البرق في الظلماء من إضم"
الأبيات السابقة من قصيدة نهج البردة في مدح النبي وهي من ضمن عبارات وأشعار كثيرة ومتنوعة زينت كثيراً من المدافن في جبانات مصر، وتنوعت ما بين آيات قرآنية وأشعار وحكم مستخلصة من أحوال الدنيا الفانية، وكتبت بأنامل الخطاطين لتزين المدافن التي دائماً ما اعتاد المصريون على مدار التاريخ اعتبارها بيتاً ثانياً ومستقراً للمتوفى، وأنه يجب العناية بها وإعدادها شأن البيت الذي يسكنه الراحل في الدنيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع شافعي القول، "اختلفت العبارات والنصوص التي نقشت على تراكيب وشواهد القبور بالقرافة، فهي بين الآيات الكريمة والأحاديث النبوية، وكذلك الأشعار بين مدح ورثاء المتوفى، وتسجيل بيانات تخص الميلاد والوفاة وذكر محامد ومآثر وإنجازات صاحب القبر، إضافة إلى المناصب التي تولاها".
وأشار الخطاط المصري إلى وجود آيات عن الموت وذكر للجنة وما أعده الله لعباده الصالحين، إذ تعتبر "آية الكرسي" النص الأكثر تكراراً على النقوش بشكل عام، ومنها ما يحمل نصوصاً غير تقليدية مثل النقش الموجود أعلى مدخل مدفن علي باشا فهمي في مقابر الإمام الشافعي، ويحمل دعاء وابتهالاً بطلب الرحمة بخط الثلث نصه "يا رحمة الله هذي روحنا فقفي وآنسي روحنا يا رحمة الله".
ولفت شافعي إلى النصوص غير التقليدية المنقوشة أعلى مدخل أحد المدافن بمقابر السيدة نفيسة ونصها "تأمل في الوجود بعين فكر ترى الدنيا الدنية كالخيال، ومن عليها سوف يفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال"، موضحاً أن الخطوط العربية المستخدمة بالنقوش الكتابية على التراكيب تنوعت بين خطوط الثلث والنسخ والفارسي والرقعة والكوفي، ولكن "يظل خط الثلث الأهم والأغنى بتكويناته وعلاقات حروفه التي نتج منها تجانس وتناغم جعلاه أكثر ملائمة لمثل تلك الأمور، ويشترك معه خط الفارسي في تزيين كثير من تراكيب القرافة".
تراكيب فريدة
واستعرض الباحث المصري أهم التراكيب الخطية في المقابر ومنها "تركيبة قبر الشاعر محمود سامي البارودي التي أبدع خطها وزخرفتها الفنان الكبير ومفتش الآثار يوسف أحمد، وهو أحد الرواد في لجنة حفظ الآثار العربية خلال النصف الأول من القرن الماضي، وأيضاً التراكيب الموجودة بمدفن الأمير يوسف كمال الذي عرف بحبه الشديد للفنون وإنشائه مدرسة الفنون الجميلة في مصر، إذ يحوى قبره أربعة تراكيب منها واحدة لأمه وواحدة لأبيه وواحدة لزوجة أبيه والأخيرة تخصه، أما التركيبتان اللتان تخصان أباه وأمه فهما آيتان من الجمال خطاً وزخرفة ونحتاً وتذهيباً، أبدع خطهما محمد إبراهيم الأفندي المدرس بالمدارس الأميرية وخبير الخطوط بالمحاكم المصرية والمعلم بمدرسة تحسين الخطوط الملكية منذ نشأتها إلى أن توفي منتصف الأربعينيات".
واستطرد شافعي، "واحد من أغرب التراكيب التي تحتويها القرافة هو تركيبة قبر المحسنة عائشة صديقة هانم التي تحرت أوجه الخير وأوقفت جل ثروتها عليها، فيذكر النقش الكتابي بعض مظاهر حبها للخير، إذ أنشأت جامعاً ومستشفى ومدرسة وكتبخانة (مدرسة لتعليم الأطفال الكتابة والقراءة والقرآن) وملجأ للبنات ومنازل للفقراء وكثيراً من أعمال الخير، وتوفيت في يناير (كانون الثاني) عام 1910، إذ إن تركيبة قبرها لها تصميم فريد غير مألوف، فيعلو مكان الشاهد التاج يليه نص البسملة بالخط الكوفي المربع، ثم الشهادتان وسورة الإخلاص والآيات الثلاث الأخيرة من سورة الصافات، وجميعها بخط الثلث المركب، ثم تلاها الشاهد الذي يحمل اسمها وتاريخ وفاتها وبعض مآثرها بالخط الفارسي الرشيق، ثم اختتمها بذكر (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) بخط الثلث، فالتنوع والعناية التي وزعت بها الخطوط العربية على النقش الكتابي والتي نتج منها تجانس وتآلف ملحوظ جعلت من التركيبة عملاً فريداً يستحق الدراسة".
أعمال نادرة
وعلى مدى الأعوام تتابعت أجيال من الخطاطين على مصر، وفي حقب سابقة لم تتوافر فيها آليات للحفظ والتوثيق مثل العصر الحالي فقد كثير من إنتاج هؤلاء الخطاطين مع الزمن بسبب عدم أرشفته وحفظه بشكل منظم، وفي الوقت ذاته ربما لم يحظ بعضهم بالشهرة التي يستحقونها ولم يعرف عنهم عوام الناس كثيراً مثل خطاطي العصر الحالي الذين يمتلكون كثيراً من الأدوات والوسائل للتعريف بنشاطاتهم وإنتاجهم الفني، مثل المعارض ووسائل التواصل الاجتماعي، بينما تضم المدافن أعمالاً نادرة وروائع لبعض الخطاطين الراحلين، تمثل إرثاً ثقافياً وكنزاً لمن يرغب في التعرف على مدارس الخط العربي وتطورها في مصر.
وتطرق شافعي إلى أبرز خطاطي الجيل الحالي ومنهم محمود الشحات الذي يعد من مشاهير الرعيل الأول من خريجي مدرسة تحسين الخطوط الملكية، مشيراً إلى أن النقش الوحيد المنسوب له بالمقابر موجود على مدفن الأديب محمد حسين هيكل، ويرجع السبب في ذلك إلى الصلة التي جمعت بينهما، فعندما كان يشغل هيكل منصب رئيس مجلس الشيوخ كان الشحات خطاطاً لمكتبه لفترة طويلة، وكذلك نقش وحيد للشيخ على بدوي أحد أهم وأشهر فناني ومعلمي الخط العربي في مصر خلال النصف الأول من القرن الـ 20، والمدرس بالأزهر الشريف ومدرسة تحسين الخطوط الملكية على قبر الطبيب الشهير محمد عبدالسميع، أحد أوائل من تولى منصب مدير مدرسة الطب بالقصر العيني من المصريين.
وأوضح الباحث أن خطوط الشيخ علي بدوي تزين مسجد الشعراني بالقاهرة والمسجد الكبير بأسيوط، كما كانت تزين السبيل المصري الذي أنشأه الملك فؤاد الأول بمكة المكرمة، وهو الذي كتب أغلب لوحات شوارع وميادين وحارات القاهرة مطلع القرن الـ 20.
ونوه شافعي إلى أهمية النقش الكتابي الوحيد للشيخ محمد عبدالعزيز الرافعي والمهدد بالإزالة، إذ إن الشيخ جاء إلى مصر مطلع عشرينيات القرن الماضي بدعوة من الملك فؤاد الأول ليكتب له مصحفاً شخصياً، فكتبه في ستة أشهر وذهبه في ثمانية أشهر، ثم أمر الملك عام 1922 بإنشاء مدرسة تحسين الخطوط الملكية، وكان على رأس المدرسين بتلك المدرسة، موضحاً أن الكتاب الوحيد الموجود بخطّه موجود بمدفن أحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوي ومدير عموم الأوقاف سابقاً.
مقابر الخطاطين
ومنذ أن ثارت أزمة مقابر مصر التاريخية بالتزامن مع المشاريع والطرق الجاري تنفيذها أثيرت أزمات عدة في خصوص مقابر لمشاهير قيل إنها ستهدم أو سيتم نقلها إلى مواقع بديلة، وبعض منها تم نقله مثل مقبرة الكاتب الراحل يحيي حقي وبعضها الآخر نجا من الهدم مثل مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين التي أثير في شأنها أزمات عدة، إلا أن هناك أيضاً من أثروا الحياة الفنية في مصر من الخطاطين الذين تزين روائع كتاباتهم كثيراً من الأماكن الأثرية والمباني القديمة، وبعض المدافن في القرافة ذاتها لم تسلم من الهدم.
وعن هؤلاء الخطاطين يقول الباحث "أخيراً هدم قبر الخطاط درويش سليم بمدافن الإمام الشافعي، وهو أحد أهم الخطاطين الذين تخصصوا في كتابة النقوش الكتابية بمصر، وله إبداعات فريدة على تراكيب قبور كثير من مشاهير مصر خلال النصف الأول من القرن الماضي، ومنهم عبدالخالق باشا ثروت وقاسم باشا رسمي وقبة الأمير سيف الدين، وكذلك محمد نسيم باشا توفيق وإسماعيل باشا يكن وإسماعيل باشا عاصم، إضافة إلى محمد عز الدين بك يكن والشيخ محمد بك الإبياني ومصطفى بك صبري الكردي وغيرهم كثير".
وحذر من هدم قبر الخطاط الكبير عبدالله بك الزهدي كاتب الحرمين الشريفين بتكليف من السلطان عبدالمجيد الأول، والتي تزين خطوطه سبيل أم عباس بالصليبة ومسجد الرافعي والشيخ صالح أبو حديد وغيرها كثير من المنشآت خلال عهد الخديوي إسماعيل الذي منحه لقب خطاط مصر الأول.