Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أونغاريتي الإيطالي شاعر متوسطي من الإسكندرية أرخ لأوروبا

تأملات في العلاقة بين الثقافة والتاريخ مروراً بالإنسان صانعهما في "الصحراء وما بعدها"

جيوزيبي أونغاريتي (1888 – 1970) (موسوعة الأدباء الإيطاليين)

ملخص

تأملات في العلاقة بين الثقافة والتاريخ مروراً بالإنسان صانعهما في "الصحراء وما بعدها"

إذا كان مؤرخو الأدب قد اعتادوا التوقف طويلاً عند التأثير الذي مارسته مدينة الإسكندرية على حياة وعمل شاعرها اليوناني الكبير قسطنطين كافافي، فإن هناك شاعراً آخر ولد في الإسكندرية، وفي فترة متقاربة زمنياً مع فترة ولادة كافافي فيها، لم يقل عنه ارتباطاً بالمدينة، على رغم أنه، هو، عاش الردح الأكبر من عمره بعيداً منها. هذا الشاعر الآخر هو الإيطالي جوزيبي أونغاريتي الذي يعتبر من كبار شعراء القرن العشرين، حتى وإن بدت شهرته أقل من شهرة كافافي. ولعل السبب في ذلك هو استقرار كافافي في مدينة الإسكندرية وفي اللغة اليونانية، مقابل تشرد أونغاريتي في العديد من البلاد، وفي لغتين على الأقل، هما الفرنسية والإيطالية. ومع ذلك يمكننا أن نقول إن أونغاريتي بدا في نهاية الأمر أكثر وفاء لمصر مما فعل زميله اليوناني. فإذا كان هذا الأخير عاش حياته كلها في الإسكندرية من دون أن يعرف مصر وشعبها أو يكتب عنهما بشكل جدي، فإن الشاعر الإيطالي الذي عاش في مصر حتى مطلع شبابه فقط، لن ينسى هذا البلد وسيظل يذكر ما تعلمه عنه في صباه.

بدءاً من الصحراء

ومن هنا إذا كانت كتابات أونغاريتي قد اقتصرت على الشعر الذي وضعه في مصاف كبار القرن العشرين، فإنه في كتاب نثري، نادر، له تحدث مطولاً عن مصر. بل جعل من تجواله في صحاريها عنواناً لكتاب الرحلات الذي أصدره أواسط ثلاثينيات القرن العشرين بعنوان "الصحراء وما بعدها" وترجم إلى الفرنسية وغيرها من اللغات بعنوان أقل شاعرية هو "بدءاً من الصحراء". ومهما يكن فإن الصحراء المعنية في الحالتين هي الصحراء المصرية التي سوف يفتتح فصول كتابه بالحديث عنها لينتقل بعد ذلك إلى بلدان أوروبية متوسطية وشمالية عاش فيها وتجول في أزمنة تلت نشأته المصرية. غير أن السؤال يبقى هنا عما إذا كنا حقاً أمام كتاب في أدب الرحلات؟ ظاهرياً أجل. فهي صفحات استخلصها أونغاريتي من سفراته وجولاته بين مصر وفرنسا وإيطاليا وكورسيكا والفلاندر وهولندا وما إلى ذلك؛ غير أن واقع الكتاب يكاد يقول لنا إن النصوص إنما هي نوع من التأمل في التاريخ والثقافة والعلاقة بينهما أكثر مما هو أي شيء آخر. وهذا ما يضعنا منذ التجوال المصري في قلب لحظات حضارية اختارها أونغاريتي بدقة وعناية لتمتد بين زمن يوليوس قيصر وزمن حملة بونابرت على مصر متأملاً من خلالها انفتاح مصر ولو القصري على العالم.

بين الحاضر والماضي

وأونغاريتي حتى لئن حرص في نصه عن مصر على ترداد أنه إنما يكتب عن هذا البلد من منظور غيابه عنه عشرين عاماً تلت مبارحته له شاباً، فإن همه الأساسي إنما كان تأمل الحاضر بما فيه ماضيه الشخصي على ضوء تينك النقطتين الزمنيتين البعيدتين. وذلك هو نفس ما يفعله بالنسبة إلى تأملاته في كورسيكا التي يبدو زمن أهلها في الكتاب متوقفاً عند ذكرى نابوليون وذكرى باسكوالي باولي. ومثل هذا يفعله الكاتب الشاعر بالنسبة إلى المناطق المتوسطية من إيطاليا بدءاً من نابولي إلى باليرمو. ثم يعود إليه في سرده لحياة منطقة الفلاندر قبل أن يصل إلى هولندا حيث يقول لنا كم أن التاريخ كان أرحم بتلك المنطقة مما كان بالنسبة إلى غيرها؛ ولكن في زمن رمبراندت الذي يتأمله في تاريخيته وتحديداً من خلال إطلاله على مأساوية حياته ولكن من خلال ذلك، على الشجاعة التي جابه بها الهولنديون الزمن والطبيعة والأخطار الداخلية. بشكل عام كان يمكن النظر إلى هذه النصوص ذات الألق المتوسطي في نظرة صاحبها مهما توغل شمالاً، بوصفها كما أسلفنا تأملاً في الفعل المتبادل بين الثقافة والتاريخ ولكن من خلال مروره بالاثنين عبر الإنسان المبدع الذي هو خالق الاثنين معاً ومحركهما الحقيقي في مصر أو انتويرب أو بالرمو. أو في أي مكان آخر.

متوسطيّ حقيقي

بشكل عام لا بد من اعتبار أونغاريتي شاعراً متوسطياً بامتياز، فهو الذي ولد عام 1888 في الإسكندرية المصرية، عاش القسم الأول من حياته والذي تلا شبابه المصري، في فرنسا، في باريس طبعاً ولكن أيضاً في مناطق الجنوب الفرنسي، كما أنه عاش القسم الثاني من حياته في إيطاليا، ناهيك عن تنقله الدائم بين بلدان البحر الأبيض المتوسط. طبعاً، لم يعرف عن أونغاريتي نطقه اللغة العربية أو قدرته على قراءتها، لكن قراءة متأنية لشعره ستجعل من السهل اكتشاف عناصر عدة فيه ترتبط بمصر بشكل أو بآخر، كما ترتبط بالمأثور العربي. وقد ولد أونغاريتي لعائلة توسكانية مهاجرة إلى مصر. وهو هاجر إلى باريس في 1910 ليتلقى هناك دروسه الجامعية، بعد أن اتجه منذ صباه إلى دراسة اللغة الفرنسية والتحدث بها. وفي باريس انكب على دراسة النقد الأدبي، بشكل خاص، في جامعة السوربون، كما درس الفلسفة على هنري برغسون في "الكوليج دي فرانس"، في نفس الوقت الذي راح يرتاد فيه حلقات الشبيبة المثقفة في تلك الآونة. ومن هنا افتخر كثيراً في ما بعد بأنه كان من أوائل الإيطاليين الذين عرفوا بودلير ومالارميه وريمبو "في وقت كان هؤلاء مجهولين تماماً" بحسب تعبيره.

في 1925 جند أونغاريتي في الجيش حين كانت قناعاته فاشية متأثرة بأستاذه دانونزيو، وحارب في إيطاليا ثم في فرنسا، ولقد ترك لديه ذلك أثراً لم يمح. وهو انتظر انتهاء الحرب لكي يعود إلى باريس ويواصل احتكاكه بالحركة الأدبية فيها، حيث واصل الكتابة بالفرنسية ونشر القصائد والمقالات في مجلات ذلك الحين الطليعية. وانتقل إثر ذلك من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإيطالية حاملاً إلى هذه الأخيرة، وفي مجال الشعر خاصة، تجديداً حاول به أن ينقذها من سيطرة لغة دانونزيو وحوارييه. ولقد نجح في ذلك طوال السنوات العشر التالية، حيث بات يعتبر من أفضل الأصوات التجديدية في الشعر الإيطالي الحديث، إلى جانب مونتالي وكازيمودو وسابا. ولقد كان أونغاليتي أخصب واحد بين هذا الرباعي، كما كان الأكثر امتلاء بالعناصر المكونة لثقافة تمزج بين الطليعية الباريسية والانفتاح المتوسطي، والجذور الكوزموبوليتية الإسكندرانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جرح لا يندمل

في 1937 قتل ابن وحيد على بنتين لأونغاريتي، فأثر ذلك عليه تأثيراً كبيراً حيث نجده وقد حول شعره من شعر مقبل على النور إلى شعر لا يخلو من حس تراجيدي عميق. امتلأ شعره بتمزق أليم. غير أن وجوده في البرازيل حيث عيّن مدرساً للأدب الإيطالي في جامعة ساوباولو خفف من وطأة ذلك الحدث الأليم عليه. وهو سيظل في البرازيل حتى 1943 حيث سيعود إلى إيطاليا ويعين أستاذاً في جامعة روما. وفي روما هذه المرة، بدلاً من أن ينصرف إلى مواصلة عمله الشعري والتجديد فيه، انصرف إلى الترجمة، فنقل إلى الإيطالية بعض روائع غونغورا وراسين وبلاك ومالارميه، وصولاً إلى الشاعر الروسي سيرغي ييسنين، إضافة إلى انكبابه على كتابة النثر واهتمامه بدراسة الفن التشكيلي. كان يبدو عليه وكأنه يريد أن يولد من جديد، هو الذي كان قد "ولد ألف مرة وعاش ألف منفى" كما يقول في واحدة من قصائده.

واحد من الكبار أخيراً

توفي أونغاريتي بدايات صيف عام 1970 عن 82 سنة، في وقت كانت الحياة الأدبية في إيطاليا قد بدأت تعترف به بوصفه واحداً من كبار شعراء القرن العشرين. وفي وقت كان هو قد انصرف إلى كتابة قصائد يشعر قارئها أنها شعر شديد المعاصرة. وكان أونغاريتي يبدي في سنواته الأخيرة ندمه لأنه لم يقم في مصر فترة أطول، ولم يعبر عن مصر بشكل أكثر كثافة في أشعاره. هذه الأشعار التي ضمتها، بشكل أساسي، خمسة كتب جامعة صدرت في 1951 لتضع في مركز القلب من الحركة الشعرية الإيطالية والأوروبية قصائد قال عنها الناقد جورجيو دي روبرتس: "إن قصائد أونغاريتي تشتغل فنياً بشكل مزدوج: ظاهرياً هي أشعار زاهدة فقيرة، لكنها عند قراءتنا لها، سرعان ما تثرى داخل أفكارنا، بشكل يجعلنا ندرك كم أن أونغاريتي يقول ولا يقول في آن معاً، وبشكل يزيد قوة عما يفعله أي شاعر آخر".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة