Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إستراتيجية جديدة للأمن القومي الألماني... درس أوكرانيا المرير

برلين قادرة على تحويل مصانعها المدنية إلى عسكرية خلال ستة أشهر

مناورات "إيرفند- 23" التي جرت على الأراضي الألمانية أخيراً يؤكد صحوة ألمانية أوروبية من دون أدنى شك (أ ف ب)

ملخص

 بدا واضحاً عودة ألمانيا العسكرية مرة جديدة لقلب العالم الأوروبي، مما قد يحمل مخاوف ضمنية لكثير من الأوروبيين على رغم أنها عودة في مواجهة المد الصيني - الروسي.

هل عادت شمس ألمانيا لتشرق من جديد على سماوات القارة الأوروبية، وباتت مهيأة للعب دور إستراتيجي مرة جديدة، وإن كان مغايراً لما عرفه التاريخ الأوروبي عن الدور الألماني الذي كان في أوقات كثيرة مهدداً للسلم والأمن الأوروبيين؟

المؤكد أن الذين تابعوا مناورات "إيرفند- 23" التي جرت على الأراضي الألمانية أخيراً، عطفاً على الدور الذي تلعبه برلين في دعم أوكرانيا التي تتعرض لعمليات عسكرية من قبل روسيا، يقطعون بأن هناك صحوة ألمانية أوروبية من دون أدنى شك.

ويبدو المشهد الألماني في الآونة الأخيرة وكأنه قراءة معكوسة في التوجهات التي سادت حلف الـ "ناتو" قبل بضعة أعوام، لا سيما في زمن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قبل أن يدخل جو بايدن البيت الأبيض بدا وكأن حلف الـ "ناتو" إلى نهاية زمنه بسبب الخلاف الأميركي -الألماني جراء مطالبات واشنطن بزيادة نسب إسهامات الدول الأوروبية المالية، واليوم تعود ألمانيا لنقطة ارتكاز أوروبية للـ "ناتو"، فضلاً عن ذلك تبدو الأزمة الأوكرانية وكأنها كعب أخيل الذي ستعود منه برلين ذات المسحة العسكرية مرة جديدة لقلب العالم الأوروبي مما قد يحمل مخاوف ضمنية لكثير من الأوروبيين، حتى وإن تماهى بعضهم ظاهرياً مع تصاعد حظوظ ألمانيا العسكرية وخططها لاستعادة نفوذها الذي كان ذات يوم.

لماذا الحديث مرة جديدة هذه الأيام عن الدور الألماني في أوروبا؟

لعل السبب الرئيس هو إستراتيجية الأمن القومي الألمانية الجديدة التي أعلن عنها، وفيها تظهر ألمانيا مغايرة عن تلك التي عرفناها خلال العقد الماضي، خصوصاً في ما يتعلق بدورها في إحياء التراث الأوراسي الذي أضحى اليوم أثراً بعد عين.

ألمانيا ونهاية زمن الطرح الأوراسي

قبل نحو عقد من الزمن كانت ألمانيا في مقدم الداعين إلى تعميق العلاقة مع الجانب الشرقي من آسيا، بخاصة روسيا والصين، وسواء تعلق الأمر بحديث الغاز الروسي أو التبادل التجاري مع الصين، طفا دور برلين في أوروبا وكأنه داعية إلى الطرح الأوراسي الذي نادى به الزعيم الفرنسي الأشهر شارل ديغول قبل بضعة أعوام.

دارت الفكرة حول التنسيق اللوجيستي والجغرافي والديموغرافي من المحيط الأطلسي غرباً إلى جبال الأورال شرقاً، ولاقت الفكرة ترحيباً وإن بدا خجولاً، غير أن نوازل القدر حطمت المستقبل الأوراسي، فقد كانت البداية من الصين التي توجهت إليها أصابع الاتهام بأنها كانت وراء انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) المستجد، سواء بشكل متعمد أو غير متعمد، وفي كل الأحوال طاردت بكين شبهات التستر على ما جرى والكلف التي دفعتها، ثم جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية التي زلزلت فكرة الأمن القومي الأوروبي، وليس الألماني وحسب، مما جعل الأوروبيين يستيقظون مرة جديدة على أهمية حلف الـ "ناتو"، لتعود العلاقات بين جانبي الأطلسي أقوى وأمتن مما كانت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة.

إذاً هل كان الغزو الروسي لأوكرانيا والتهديدات المستقبلية لعموم أوروبا، تلك التي لا يستنكف فلاديمير بوتين يطلقها في مواجهة الأوروبيين، مدخلاً لألمانيا الشعبية والحكومية معاً للبحث عن رؤية إستراتيجية لبلادهم في ضوء المتغيرات العالمية، وبعيداً جداً من رؤية التعاون بين القارة الأوراسية بجانبيها الأوروبي والآسيوي؟

إستراتيجية قومية

للمرة الأولى في تاريخها تنفذ الحكومة الألمانية واحداً من أهم مشاريعها المحورية، وأضحى لديها رؤية قومية أمنية متكاملة تغطي جميع الجوانب الحيوية وتقع في نحو 40 صفحة، بعنوان "الأمن المتكامل لألمانيا"، وقد جاءت في شكل أسئلة وإجابات عنها.

ولسنا هنا في سياق عرض وسرد جميع ما جاء في الإستراتيجية بشكل كامل، لكن هذا لا يمنع من مناقشة أهم الخطوط الرئيسة فيها، والأهم هو ما وراء تلك التوجهات في حاضر ومستقبل ألمانيا.

التساؤل الأول والرئيس، لماذا طفت على السطح الحاجة الألمانية إلى بلورة إستراتيجية للأمن القومي؟

يمكن القطع أن الخوف على مستقبل البلاد وخصوصاً في ظل أخطر تحرك عسكري شهدته أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، كان هو الدافع الرئيس الذي حرك وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ووزراء آخرين لوضع جذور الإستراتيجية لتكون مرتكزاً "لأمن وحرية البلاد" من خلال "تفهم كامل وشامل لمسألة الأمن"، وتبدو هذه الإستراتيجية مراعية لجميع الأخطار الداخلية والخارجية التي تهدد أمن ألمانيا، وتشمل الرؤية الواسعة لها التهديدات العسكرية مروراً بالاعتداءات السيبرانية ووصولاً إلى آثار التحول المناخي، وقد وصفت وزيرة الخارجية الألمانية أزمة المناخ بأنها "قضية  سياسية أمنية في عصرنا الحاضر".

وتجيء الإستراتيجية الجديدة لتعكس حال ألمانيا المتغيرة، بمعنى أنها لم تعد تتوقف عن سياسات البلاد الدفاعية فقط بل باتت الآن تتبع نهجاً أكثر شمولاً، وهو تعبير مقنع للتوجه العسكري الهجومي الألماني الذي سنأتي على ذكره لاحقاً.

ولأن الأمر يمثل حاجة حيوية وتهديداً جدياً للبلاد فقد شاركت الحكومة الألمانية بكامل أعضائها في إعداد الإستراتيجية الجديدة من الفاعلين في بلورة خطوطها وخيوطها، بدءاً من المستشار الألماني أولاف شولتز ووصولاً إلى وزراء الخارجية بيربوك والمالية كريستيان ليندنز والدفاع بوريس بيستورس والداخلية نانسي فيزر، كما أسهم في الإعداد شركاء دوليون علاوة على خبراء وخبيرات في مختلف الجوانب المتعلقة بالأمن.

ولم تتوقف إستراتيجية الأمن القومي الألماني عند حدود رجالات الدولة وحسب، بل شارك عدد من المواطنين والمواطنات في وضعها، إذ أجري خلال ربيع وصيف عام 2022 عدد من الحوارات الشعبية مع المواطنين في سبع مدن ألمانية.

ولعل الصوت الأعلى في سياق هذه الإستراتيجية هو صوت وزيرة الخارجية بيربوك التي صرحت بالقول، "بالنسبة إلي فإن هذه عملية تشاركية من أجل إستراتيجيتنا، إلا أنها أيضاً جوهر ما تعنيه السياسة الخارجية وبحسب اعتقادي من أجل وطننا، فهي ليست مجرد تبادل بين العواصم أو بين الوزراء والوزيرات، وإنما تبادل أيضاً بين الناس".

عالم من الدفاع والمرونة والاستدامة

ما الذي دار في عقل الألمان من أهداف حين تطلعوا إلى وضع الخطوط الرئيسة لتلك الإستراتيجية؟

مثيرة هي الجملة الأولى في تلك الإستراتيجية، ذلك أنها تبدو ثنائية التوجه، إذ إنها تشمل ألمانيا من جهة وأوروبا من جهة أخرى.

"الهدف من الإستراتيجية واضح، ضمان أمن المواطنين والمواطنات وتأدية دورنا في حماية أمن أوروبا"، هكذا أختصر أولاف شولتز الرؤية الألمانية في هذه الجملة.

وعلى الجانب الآخر نجد وزيرة الخارجية بيربوك تجمل الأمر في قولها إن "هدف هذه الإستراتيجية الأولى للأمن القومي هو أن نكون جميعاً أكثر قدرة في جميع مجالات الحياة"، مضيفة "بما أن التهديدات الجديدة أكثر تعقيداً، وهي تطاول مختلف جوانب الدولة والمجتمع والاقتصاد، فإننا نصوغ إستراتيجيتنا الأمنية بشكل متكامل لتغطي مختلف المجالات".

وتدور الخطوط الرئيسة للإستراتيجية الألمانية حول ثلاثة مرتكزات، "الدفاع والمرونة والاستدامة"، وكما ورد في مشروعها فإن "المهمة الأسمى للسياسة الأمنية الألمانية هي ضمان قدرتنا على مواصلة العيش بسلام وحرية وأمان في بلدنا الواقع في قلب أوروبا".

ولهذه الغاية تلتزم ألمانيا التزاماً تاماً وقطعياً بحلف الـ "ناتو" والاتحاد الأوروبي، وتعمل على تعزيز قدرات الجيش الألماني بحيث تستثمر على المدى الطويل اثنين في المئة من القدرة الاقتصادية في مجال الدفاع.

هل الكلمات الثلاث "الدفاع والمرونة والاستدامة" مطاطة وواسعة وتحتمل مزيداً من المعاني والمباني البينية التي تسمح للألمان ببناء دولة ذات توجهات مغايرة عن تلك التي عاشتها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم؟

إنه كذلك قولاً وفعلاً، إذ يتسع نطاق المجالات التي يغطيها هذا المفهوم، وهذا يتضمن على سبيل المثال حماية البنى التحتية التقنية ومواضيع الأمن السيبراني والفضائي، عطفاً على ضمان التزود بالمواد الأولية والطاقة من غير أن يتم إغفال مسألة الأمن الغذائي، إضافة إلى الوقاية من الأوبئة ومحاربة التضليل والمعلومات الزائفة، كما تعتبر الحكومة الاتحادية أيضاً إجراءات حماية المناخ والمحافظة على التنوع البيولوجي من المهمات المحورية للأمن.

وفي هذا السياق يعن لنا التساؤل: هل غالبية العبارات المنمقة الواردة في هذه الإستراتيجية ليست سوى تضاريس أيديولوجية للاختباء وراءها، وبما يسمح لألمانيا بالعودة لسماوات الدولة العسكرية مرة جديدة؟

في مواجهة التهديدات الروسية أولاً

تميط القراءة الأولية للإستراتيجية الألمانية الجديدة اللثام عن المهددات الجوهرية لألمانيا أولاً وأوروبا تالياً، إذ تتسنم روسيا هرم المخاوف ذات الطبيعة العسكرية، ومن غير أن تكون الصين أقل تهديداً وإن على الجانب الاقتصادي اليوم والعسكري في الغد، وهنا لا يمكننا أن نغفل تساؤلاً جوهرياً "هل هناك تماه يكاد يصل إلى حد التطابق بين الإستراتيجية الألمانية الجديدة وإستراتيجية الأمن القومي الأميركي الأولى في عهد الرئيس جو بايدن؟

يدهش الباحث من الروح الواحدة التي تجمع الإستراتيجيتين وموقع وموضع روسيا والصين من حيث القدرات التهديدية فيهما، فواشنطن بدورها كذلك تعتبر موسكو المهدد العسكري الرئيس في الوقت الحاضر، لكنها على المدى الزمني المنظور ترى في بكين التهديد الأكبر والأخطر.

ويلفت النظر في الإستراتيجية الألمانية الجديدة أنها لم تتعمق في التفاصيل السياسية بما في ذلك الخارجية، إذ يخطط المسؤولون لوضع إستراتيجيات أكثر تحديداً في مرحلة لاحقة.

غير أن الملامح ذات الصبغة الأمنية والعسكرية واضحة بشكل لا يقبل الشك، فروسيا على سبيل المثال، كما تنص الإستراتيجية اليوم وفي المستقبل المنظور، أكبر تهديد للسلام والأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية، وقد قالت الوثيقة "إننا نعيش في عصر تزايد التعددية القطبية حيث يحاول بعض الدول إعادة تشكيل النظام الدولي".

هل الإستراتيجية القومية الألمانية تختلف كثيراً في واقع الحال عن "الكتاب الأبيض" الذي كان ورقة توجيهية للسياسة الدفاعية الألمانية فيما سبق؟

يبدو ذلك جلياً بالفعل في ملامح العمل الألماني الجديد الذي يشكل خروجاً عن الطابع المحافظ لسياسة برلين، وينسجم مع تحول العقيدة العسكرية لها عقب اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا والمستمرة منذ فبراير (شباط) 2022.

وخلال تقديمه لها قال المستشار الألماني إن مجلس الوزراء بإقراره هذه الإستراتيجية اتخذ قراراً مهماً وغير عادي، موضحاً كيف أن البيئة السياسية الأمنية لألمانيا "تغيرت بقوة في ظل الهجوم الروسي على أوكرانيا والظهور العدواني المتزايد للحكومة الصينية".

وتابع شولتز أن كل ما كان يقتصر في تخطيط الحكومة الألمانية في الماضي على السياسة الدفاعية فقط سيتبع الآن نهجاً كلياً شاملاً.

هل يعني ذلك أن ألمانيا باتت تعتبر نفسها قائدة للأمن الأوروبي، وبنوع خاص طالما بقيت الهجمات الروسية على أوكرانيا مستمرة؟

لا يقتصر الأمر على روسيا التي بات الـ "ناتو" يجابهها بكل قواه حتى وإن قاد الأمر إلى انزلاق في مسارات الخوف النووي المجهول، إذ تتهيأ ألمانيا للتصاعد المخيف للصين الذي سيصل عما قريب إلى حد التهديدات العسكرية، كما حال ديدن القوى القطبية تاريخياً، تلك التي تبدأ من الاقتصاد ثم تحتاج إلى العسكرة للحفاظ على مقدراتها المالية حول العالم.

الصين ضغط متزايد على مستقبل أوروبا

وعند وزيرة الخارجية الألمانية بيربوك أنه إذا كانت روسيا تحاول زعزعة المجتمعات الأوروبية في الحال فإن الصين تمثل ضغطاً متزايداً على الاستقرار الإقليمي، وأن أفعال بكين تتعارض مع مصالح برلين وقيمها.

ويؤمن الألمان أن الصينيين يسعون في طريق إعادة تشكيل العالم وإن بصور مختلفة، بهدف تغيير القواعد الدولية القائمة منذ نهاية الحرب الكونية الثانية ووصولاً إلى حاضرات أيامنا، كما تدعي بشكل عدواني أكثر فأكثر السيادة الإقليمية.

تشاغل برلين بكين من فوق أكثر من جبهة، فمن جهة ترى أنها قوة دولية لا تحترم ولا تقيم وزناً لحقوق الإنسان، ومن جهة مقابلة تؤمن بأن الصينيين يفعّلون قواهم الاقتصادية بهدف الوصول إلى أهداف سياسية، وتبدو أزمة بكين مع برلين معقدة ومركبة في الوقت عينه، لا سيما وأنها الشريك التجاري الأكبر، كما أن الاستثمارات الألمانية في الصين كبيرة ومهمة.

والتساؤل المطروح على موائد النقاش اليوم هو "هل ستتعاطى ألمانيا مع الصين بالقوة والحدة ذاتها التي تبنتها في تعاملها مع روسيا؟

يبدو الوضع مختلفاً بشكل أو بآخر، بمعنى أنه يمكن لبرلين أن تقوم بفرض عقوبات خاصة على موسكو من غير أن تتأثر مفاعيل اقتصادها، لكن في حال بكين فالوضع مغاير، فعلى سبيل المثال فإن المصانع الأخيرة التي افتتحتها المجموعة الكيماوية الألمانية BASF في مدينة زانجيانغ جنوب الصين والتي يتوقع أن تستثمر فيها برلين قرابة 10 مليارات يورو (10.93 مليار دولار) بحلول نهاية عام 2030، فإنه من المتوقع أن ثلثي نمو هذه المجموعة سيأتي من بكين.

وتستثمر صناعة السيارات الألمانية أيضاً بشكل كبير في الصين، والأرقام تقطع بأن 40 في المئة من سيارات "فولكس فاغن" الألمانية تباع في الصين، وهنا يبدو من غير الوارد أن تسعى برلين إلى القوة الخشنة في مواجهة مشاريع بكين، وربما تفضل التعاطي معها عبر تفعيل الحوار وتغليب لغة المصالح الاقتصادية المشتركة، وربما هذا هو السبب الرئيس الذي جعل إستراتيجية الأمن القومي الألماني الجديدة تنص على أن "الصين على رغم كل ما تقدم تظل شريكاً لا يمكن حل كثير من التحديات والأزمات الدولية من دونه".

غير أن هذه الرؤية قد تتغير حال مثلت الشراكة الروسية - الصينية تهديدات عسكرية مستقبلية لألمانيا أو لأية دولة من دول الـ "ناتو".

وعطفاً على ذلك سيكون على ألمانيا بنوع خاص أن تساند الولايات المتحدة حال تصاعدت المواجهة بين واشنطن وبكين بسبب جزيرة تايوان أو بحر الصين الجنوبي، وهي منعطفات مصيرية في طريق العلاقات الصينية - الألمانية.

هل تتحدث ألمانيا بشكل ناعم فيما تعمل على تجهيز الأداة الخشنة للحفاظ على أمنها الإقليمي وتعزيز دورها في إطار حلف الـ "ناتو" بهدف الحفاظ على أمن القارة الأوروبية؟

هل العسكرة هي الحل؟

يبقى من الطبيعي جداً أن يتساءل القارئ للإستراتيجية الجديدة للأمن القومي الألماني "هل حزم الألمان أمرهم وعقدوا عزمهم على العودة وإن بهدوء ومن غير ضجيج لزمن إمبراطورية بسمارك وتجليات الرايخ من غير أيديولوجيات متطرفة، لكن بقوة عسكرية لا تصد ولا ترد؟

بعد ثلاثة أيام من قيام روسيا بغزو جارتها أوكرانيا ألقى المستشار الألماني أولاف شولتز خطاباً غير مسبوق تحت قبة البرلمان (البوندستاغ) وتحدث عن أن الصراع سيؤدي إلى تغير نموذجي أو نقطة تحول لبرلين، وأضاف قائلاً إن "العالم لم يعد كما كان من قبل، وفي قلب النقاش تساؤلات عما إذا كانت القوات الروسية تنتهك حقوقنا، وعما إذا بإمكاننا السماح لبوتين بإعادة عقارب الساعة إلى الخلف لزمن القوى العظمى في القرن الـ 19، أو عما إذا كنا نحشد قواتنا لوضع حدود لدعاة الحرب مثل بوتين".

من العبارة السابقة بدا واضحاً أن ألمانيا قد قررت إعادة سياقاتها التاريخية مع القوة المسلحة، ومن هنا أيضاً كانت الخطة الألمانية الساعية إلى إعادة هيكلة السياسة الأمنية، تلك التي بدأت عندما أعلن شولتز وبشكل مفاجئ أنه سيقدم دعماً مالياً خاصاً لمرة واحدة بقيمة 100 مليار يورو للجيش لشراء أسلحة حديثة عوضاً عن تلك التي عفا عنها الزمن، لا سيما على صعيد القوات الجوية وطائرات الـ "تورنادو" التي يعول عليها في حالات الطوارئ لنقل القنابل الذرية الأميركية المخزنة في ألمانيا إلى الأهداف المراد قصفها حال أزفت الأزفة.

وشدد المستشار الألماني في خطابه على أهمية اقتناء طائرات "أف- 35" والتي تعد حاملة لهذه الأغراض، فهل يعني ذلك أن ألمانيا تتهيأ للسيناريوهات الأكثر سوءاً؟

يقول قائل وما فائدة الأسلحة التقليدية الألمانية في مواجهة صواريخ بوتين الفرط صوتية الحاملة للرؤوس النووية؟

الجواب هنا يمضي في مسارين، فأولاً لدى ألمانيا مظلة نووية أميركية منذ الخمسينيات والستينيات وأيام الحرب الباردة، مما يعني أن قوات الردع النووي للـ "ناتو" كفيلة بأن توفر الغطاء النووي للألمان وبقية أوروبا التي ليس لديها أسلحة دمار شامل مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وسائر دول الاتحاد الأوروبي عدا فرنسا وبريطانيا التي غادرت أخيراً.

وثانيا إذا أراد الألمان حيازة السلاح النووي فإن الأمر لن يشق عليهم، ذلك أن لديهم علمياً تقنية صناعتها، كما أن لديهم مقدرة فائقة على تحويل جميع مصانعهم المدنية إلى عسكرية خلال ستة أشهر.

هل أيقظ بوتين مقدرات الرايخ الرابع؟

ذلك مؤكد، بل إن ما لم يأخذه بوتين في حسبانه هو أن دول أوروبا التي كانت فرائصها ترتعد من مواجهة ألمانيا المسلحة من قبل والتي كانت حتى وقت قريب تتحفظ على عودة برلين إلى سماوات التسلح مرة جديدة، أضحت اليوم تقلق من بوتين وفي الغد من شي جينبينغ، بأكثر من قلقها أو هواجسها القديمة من الألمان.

والأمر نفسه ينسحب على الولايات المتحدة التي كانت حتى وقت قريب تترصد أية صحة عسكرية ألمانية، واليوم تشارك برلين بأحدث أسلحتها الجوية في مناوراتها الأخيرة تحسباً لمواجهة قد لا تكون بعيدة زمنياً من الحدوث، سواء مع موسكو أو بكين.

إنها بالفعل لحظة تغير إستراتيجي على صعيد العقلية والبنية التكتونية الألمانية، مما ينذر بنهاية زمن "الباكسا رومانا" الأميركية طوال سبعة عقود، وتهيئة الأجواء الدولية لمواجهات عسكرية مسلحة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

المزيد من تقارير