Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا يرفض عسكر السودان المبعوث الأممي؟

الاستياء من بيرتس بدأ مبكراً وصولاً إلى إخطار المنظمة الدولية بأنه شخص غير مرغوب فيه

مبكرا بدأ الاستياء من المبعوث الأممي إلى السودان (موقع بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان ـ يونيتامس)

ملخص

عندما حدث الانشقاق في المكون العسكري بالسودان اتهم الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة من قبل الجيش بأنه انساق لطموح "قوى إعلان الحرية والتغيير" التي هددت في الصحف "إما القبول بالاتفاق أو الحرب"

تمر العلاقة بين الأمم المتحدة والسودان بواحدة من سلسلة تطورات تشير إلى ارتفاع خطر سوء التقدير من الجانبين في ظل اندلاع الحرب السودانية المفتوحة على احتمالات واسعة، أقربها إلى التحديد هو أن السودان لن يعود إلى سابق عهده، بل ربما يتطور الوضع وتمتد رقعة الحرب لتتحول إلى صراع يشمل أقاليم مختلفة ويؤثر في المنطقة. وهذا ما يقلق الأمم المتحدة تحديداً أكثر من مراقبة عملية الانتقال الديمقراطي الذي عينت لها مبعوثاً خاصاً.

مبكراً، بدأ الاستياء من الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) فولكر بيرتس، الذي عين عام 2021، إلى أن وصل إلى حد إخطار الخرطوم المنظمة بأن مبعوثها شخص غير مرغوب فيه.

وقبلها طلب قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان من أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش استبدال بيرتس، وهو ما أثار "صدمة" لدى الأمين العام. وسلكت حكومة السودان القنوات الدبلوماسية بالإعلان عن عدم رغبتها في التجديد له عبر وزارة خارجيتها، بعد أن قرر مجلس الأمن الدولي تمديد تفويض بعثة "يونيتامس" لمدة ستة أشهر حتى الثالث من ديسمبر (كانون الأول) 2023، ولكنه لم يعتمد التمديد لرئاسة بيرتس بسبب اختلاف موقف دول المجلس حول استمراره، إذ طالبت بعض الدول في مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا بإعادة تعيينه، في حين رفضته دول أخرى.

كان البرهان قد اتهم في أواخر مايو (أيار) الماضي بيرتس بالإسهام في تأجيج النزاع الدامي مطالباً باستقالته، بينما أوضح المندوب الدائم للسودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس أن "السودان مارس حقه بطلب تغيير مبعوث الأمم المتحدة، لكنه لم يعترض على عمل البعثة الأممية".

ذاكرة استعمارية

تميز تاريخ السودان ما بعد الاستعمار بالجهود المبذولة لإنشاء دولة موحدة، تنادي بالتمسك بالسيادة الوطنية، إلى جانب دول أفريقية مستقلة حديثاً، وكان من ضمن ما بقي من إرث النضال ضد الاستعمار هي الفكرة التي تؤمن بها القارة السمراء عموماً، بأن معاناة الأفارقة رسخت السير في انسجام نحو مستقبل جديد. وضمن مناضلي هذه الدول كان السودانيون مفعمين بالمشاعر القوية المناهضة للاستعمار وكراهية التدخلات الأجنبية حقيقية أو متخيلة.

واتبعت القارة نهج التكامل الإقليمي متمثلاً في منظمة الوحدة الأفريقية التي تحولت في ما بعد إلى الاتحاد الأفريقي، الذي أنشأ مجلس السلم والأمن الأفريقي، ولم يتحد مبدأ عدم التدخل فحسب، بل كان يهدف إلى تشكيل قوة إقليمية أقوى، وهي جبهة إقليمية موحدة ومجهزة للتعامل مع الصراعات الداخلية وإلغاء الحاجة إلى التدخل الغربي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكانت هناك محاولات كثيرة لإلغاء التدخل الأجنبي والدافع إليها كان ضمن تأثيرات الخطاب النضالي الذي يتحرك في أجزاء من التاريخ الاستعماري للقارة ضد الهيمنة الغربية. في الواقع، أشار ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية إلى حاجة الدول الأفريقية المستقلة حديثاً إلى "محاربة الاستعمار الجديد بجميع أشكاله". وفي سياق المبعوث الأممي للسودان، ربما تضاعف مفهوم الإمبريالية عن غير قصد بسبب فشل محاولات المنظمة السابقة، فأصبح كل قرار هو "إهانة" للسيادة السودانية.

ويمكن النظر إلى حالة العداء من منظور أن الجيش السوداني في موقفه المناوئ للمبعوث الأممي لا ينطلق من الإرث النضالي الأفريقي الذي مر بمراحل اندماج في حركات مد شيوعي شرقي وليبرالي غربي، إضافة إلى الحركة الأفريقانية التي تأثرت بمدارس فكرية عديدة، ولكن بوصفه من أعرق الجيوش في أفريقيا ومر بفترتي الاستعمار ثم الاستقلال، فإنه يتحرك في فضاء ذلك الإرث القابع في مخيلة العسكر وهو عقدة الأجنبي المتربص، ويغذيها عنصر الاستنفار، أحد المتطلبات العسكرية في حالة الحرب، خصوصاً أن الجيش أحد طرفيها.

ويمكن شرح رد الفعل العنيف ضد المبعوث الأممي من خلال الإشارة إلى التناقضات مع مبدأ المساواة في السيادة، إذ ينطلق قادة الجيش من أن قرارات الأمم المتحدة تقع على القادة الضعفاء فقط، وأظهر هذا التصور لعدم المساواة، إضافة إلى ما يمكن أن يكون قد وصل إلى البرهان نفسه، من اتهامه بالضعف ومحاولة استفزازه بأنه لم يتمكن من حسم الحرب إلى الآن.

مهندس الاتفاق

بدأ فولكر بيرتس مهمته ممثلاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة في السابع من يناير (كانون الثاني) 2021. وبعد عشرة أشهر نفذ المجلس العسكري بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) على المكون المدني. وشهدت تلك الفترة خصومة كبيرة بين المكونين العسكري والمدني الذي كان يرى أعضاء منه في مجلس السيادة أن وجودهم مع العسكريين في مجلس واحد "يخصم من رصيدهم السياسي"، بينما كان العسكريون يرون أن بيرتس يتدخل في الشؤون الداخلية للدولة، بمباركة من رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك.

 بعد ذلك عقد اتفاق سياسي بين البرهان وحمدوك في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، برعاية الآلية الثلاثية للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي و"إيغاد"، وقد أدرك الناس بعدها أن الاتفاق هو ما أبطأ الحرب التي كان السودان مؤهلاً للدخول فيها مباشرة بعد تلك الاختلافات، ولكنها حدثت في النهاية بسبب الاختلاف حول "الاتفاق الإطاري"، بين البرهان من جهة، وحميدتي والجهات التي يتهمها الجيش بأنها تقف وراء الدعم السريع من جهة أخرى، ومنها "قوى إعلان الحرية والتغيير - المجلس المركزي" التي يعدها الجيش الجناح السياسي لقوات الدعم السريع والحاضنة لها.

حمدوك قال وقتها إن توقيعه على الاتفاق السياسي "لم يأت تحت ضغط من أحد". ومن ضمن بنود الاتفاق كان "إطلاق سراح جميع الوزراء والسياسيين المعتقلين منذ 25 أكتوبر 2021، والتحقيق العادل والشفاف في جميع جرائم القتل التي وقعت منذ ذلك التاريخ"، واتفقا على التعهد بإتمام المسار الديمقراطي في البلاد. واشترط تجمع المهنيين السودانيين أن "تكون عودة رئيس الوزراء حمدوك مرتبطة بسلطة مدنية كاملة"، ولكن واجه الاتفاق معارضة من بعض الأحزاب وفصيل من قوى إعلان الحرية والتغيير، ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني والمجموعات النسائية.

لم يمر ذلك العام حتى كان بيرتس يضغط بشكل كبير من أجل تحقيق الانتقال السياسي إلى الحكم المدني، وهو ما لمس اعتراض البعض عليه بسبب ما وصفوه بأنه "مهندس الاتفاق الإطاري" الذي تسبب البند الوارد فيه "دمج قوات الدعم السريع ضمن الجيش"، بالحرب الحالية.

تباين المواقف

لم يكن "الاتفاق الإطاري" وحده الذي فاقم من حالة المواجهة بين طرفي النزاع قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة، ولكن هنالك اصطفاف كثيف حولهما. وإن كانت "قوى الحرية والتغيير" قد اختارت الاصطفاف وراء حميدتي بعد حالة عداء استمرت حتى إجراءات 25 أكتوبر، فإن التيار الإسلامي العريض يقف وراء البرهان على رغم تنصله من هذه العلاقة، ومطالبته في كل بياناته بإشراك جميع القوى السياسية في الحكومة الانتقالية "ما عدا المؤتمر الوطني".

أما موقف بيرتس فقد تعرض أيضاً إلى الانتقاد من قبل "قوى الحرية والتغيير"، بسبب أنه اتهم ابتداءً بأن مواقفه أضفت "شرعية دولية للانقلابيين". وعندما حدث الانشقاق في المكون العسكري بين الحليفين السابقين، اتهم مرة أخرى ولكن هذه المرة من قبل الجيش بأنه انساق لطموح "قوى إعلان الحرية والتغيير - المجلس المركزي" التي هددت في الصحف "إما القبول بالاتفاق أو الحرب". وأضافت قيادة الجيش أن المبعوث الأممي ومعه القوى السياسية يقفون إلى جانب قائد قوات الدعم السريع، ولم يدينوا احتلال القوات منازل المواطنين وعمليات النهب وغيرها من التجاوزات بشكل واضح. وكل من زاويته، ألقى باللوم على عاتق المجتمع الدولي لعدم توصله إلى رؤية حقيقية حول ما يجري في السودان.

ومع تباين مواقف الجيش والقوى السياسية حول المبعوث الأممي، نشأ تباين آخر على المستوى الشعبي كانعكاس للمواقف الرسمية، فهناك من يرى أن بيرتس لعب أدواراً أضرت بالانتقال الديمقراطي، ولم يستطع خلق حلقة وصل بين القوى السياسية كافة والجيش، وإنما انحاز لقوات الدعم السريع. وهناك من يرى أنه جاء بطلب من الحكومة المدنية بقيادة حمدوك، ولم يبد الجيش رفضه هذه الخطوة حينذاك لأنه لم يكن يستطيع مقاومة المد الثوري، ورغبة القوى السياسية في الانتقال الديمقراطي التي عين من أجلها بيرتس.

تفويض حيوي

لم تفض محاولات بيرتس إلى التوفيق بين الفرقاء العسكريين من جهة وبينهم وبين المدنيين من جهة أخرى، إذ ظهرت معارضة صلبة لأي اتفاق مع العسكر قادته "لجان المقاومة"، وبدا شعارها المكون من اللاءات الثلاث "لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية"، حاسماً. وعندما حاول بيرتس دعم محاولاته بالدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة لتعود "قوى الحرية والتغيير" إلى التفاوض، حدث ذلك ولكن كان الاتفاق وصفة جاهزة للحرب لم يتم تداركها.

وعندما كان بيرتس يعتزم مغادرة السودان ويهم بركوب طائرة الأمم المتحدة في طريقه إلى نيويورك أواخر مايو الماضي، لتقديم التقرير ربع السنوي عن السودان إلى الأمين العام للأمم المتحدة أمام مجلس الأمن، ملأت صورته الفضاء الافتراضي وسط تكهنات بعدم عودته، وإشاعات عن طرده، هذا الموقف المتوقع شعبياً ناجم عن الاستياء من عدم مقدرة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي من الضغط على طرفي النزاع لإنهاء الحرب، أو التزام الهدن السابقة، ولكن ذلك شجع الجيش على إبداء رأي صريح وواضح ورد فعل قوي في الرسالة التي أعلنت المبعوث شخصاً غير مرغوب فيه.

تقع قضايا السودان ضمن أكثر القضايا التي شهدت انقسامات داخل أروقة الأمم المتحدة بين القوى الكبرى في مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. وعلى رغم أن مجلس الأمن الدولي يجدد بانتظام مهام بعثات حفظ السلام في الدول الأفريقية وغيرها، فإن دبلوماسيين يطالبون بمزيد من الاتفاق حول وجهات النظر بين الدول الأعضاء حتى تضمن التأثير في هذه الدول، وعزوا فشل اتفاقات السلام إلى هذه الفرقة وإلى عدم رضا الحكومات التي يتم ابتعاث ممثلي الأمين العام إليها.

أما في ما يتعلق بالرعاية والإشراف على الفترة الانتقالية فإن التجديد ستة أشهر أخرى لبعثة الأمم المتحدة، بغرض "إتاحة الوقت اللازم لمجلس الأمن لتقييم تأثيرات قدرة يونيتامس على ممارسة تفويضها الحيوي"، يبنى على أحد احتمالين، الأول، وقف الحرب وبدء المشاورات السياسية، إيذاناً بالعودة إلى الفترة الانتقالية، فتكون مهمة البعثة مراقبة مرحلة الانتقال الديمقراطي. والثاني، استمرار الحرب وزيادة وتيرة العنف فتتغير طبيعة هذه البعثة إلى أخرى من البند السادس الذي يحث على حل الخلافات بطريقة سلمية، إلى البند السابع الذي يسمح باللجوء إلى خيارات عدة من بينها العمل العسكري، إذا رفض أحد الأطراف الإذعان لمطالب مجلس الأمن.

المزيد من تحلیل