Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة محمد بركة في منطقة غامضة بين العالم والماوراء

"آيس هارت في العالم الآخر" رواية السرد الذاتي والتخييلي انطلاقا من الحاضر

عالم ما بين الحياة والماوراء للرسام دو سيف (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

"آيس هارت في العالم الآخر" رواية السرد الذاتي والتخييلي انطلاقا من الحاضر

على رغم كل ما شيَّد الإنسان من حضارة، وما حقق من تقدم علمي بلغ به مناطق لم يكن العقل - سابقاً- يتصور بلوغها، ظل الموت سراً رهيباً، ومنطقة شائكة عصيَّة على الفهم. لكن البعض استطاع الاقتراب منه، وولوج نفق يفصل بينه وبين الحياة، يسمى البرزخ، أو الغيبوبة كاصطلاح طبي. هذه المنطقة الرمادية المجهولة إلا للعائدين منها؛ تمثل فضاءً للسرد في رواية الكاتب محمد بركة "آيس هارت في العالم الآخر" (دار إبيدي – القاهرة). مهَّد الكاتب لرحلته السردية التي اخترقت منطقة بالغة الغموض بعنوان يحفز الأسئلة، حول ماهية "آيس هارت"، ومعناها بالعربية "قلب بارد"، وأيضاً حول العالم الآخر، وعلاقته بالأحداث.

حقيقة آيس هارت

بدا اختيار الكاتب أسلوب السرد الذاتي ضرورة سردية، تتجاوز فكرة حميمية النص وصدقيته، أو تقليص المسافة بين الراوي والقارئ، فضمير المتكلم هو الأنسب لرحلة بلغت منطقة غامضة، قلّ من يعود منها. ويتعذر على عينٍ خارجية إدراكها، على النحو ذاته الذي يتسنى لصاحبها. وقسّم بركة رحلته إلى ثلاثة أجزاء، أولها ما قبل الانتقال، وثانيها الانتقال، وثالثها العودة. وقضت هذه الأجزاء الثلاثة، أن يتراوح النص بين الواقعية والخيال، فكان الفضاء الواقعي "ما قبل الانتقال"، نقطة انطلاق السرد، الذي رصد الكاتب عبره سمات بطله الرسَّام، الذي تمرَّد مرتين، الأولى حين اتبع شغفه والتحق بكلية الفنون الجميلة، وخالف رغبة أبيه في إدارة أملاكه، وأراضيه. والثانية كانت في خروجه على تقاليد أهله ومجتمعه، حين رسم لوحات جعلته منبوذاً بينهم، إذ وجدوها منفلتة ولا أخلاقية... "تأكل النار مرسمي في الحسين فيهلل أحدهم: عدالة السماء تقتص من صاحب الرسومات العارية" ص 6.

وفي هذه المرحلة التي سبقت الانتقال، أفصح الكاتب عن هوية "آيس هارت". وكشف عن كونها قطة، كانت الأقرب إلى قلب البطل "مروان"، فقدها جراء حريق التهمها، كما التهم لوحات أنجزها خلال عشرين عاماً، وتركه رهينة اكتئاب حاد، ومصحة نفسية لم يخرج منها، إلا بمزاج سوداوي، وكثير من مشاعر الغضب الصامت، واللامبالاة.

رحلة إلى العالم الآخر

كانت وفاة الأب في القسم الأول من الرواية، دافعاً ومحفزاً لعودتين، وذهاب واحد. أما العودة الأولى فكانت عودة مكانية، سلكها البطل من المدينة إلى القرية، من أجل المشاركة في مراسم دفن أبيه، بينما كانت العودة الثانية، عودة زمنية إلى الماضي عبر جسور الذاكرة، وتقنيات الفلاش باك. وعبر هاتين العودتين، طَرَقَ الكاتب قضايا كبيرة تؤرق المجتمع المصري، أهمها زحف العمران على الأرض الزراعية، وتآكل اللون الأخضر، وتردي الذوق العام، لا سيما في ملابس النساء، والبيوت المشوهة.

وطَرَقَ قضايا أخرى مثل تدني الرعاية الصحية، تردي التعليم، وتراجع الخدمات الحكومية، والرشاوى، والفساد. كما اصطدم بموروث صلب يقهر المرأة ويهمشها بمباركة النساء أنفسهن، ويخجل من الحب، والفن، والجمال، بينما يتفاخر بالقسوة، والصلف، والغرور... "علامات الساعة الكبرى بالنسبة لها... في اليوم الذي تتبجح فيه السِت في وجه زوجها وتقول أن لها نفس حقوقه" ص 65.

وكانت رحلتا العودة إلى القرية وإلى الماضي، بمثابة دلوين جلبا غضب البطل الكامن، وحملا به إلى السطح. ولكون الجنس طريقة ذكورية ناجعة لتنفيس الغضب، ولأنه تزامن مع عطب في القلب، استبق الكاتب بالإعلان عنه في بداية السرد. كانت تلك المعطيات سبباً في تعطل قلب "مروان"، ودخوله في غيبوبة. وكانت كذلك جوازاً لرحلة عبوره إلى تلك المنطقة الوسطى، التي تفصل بين الحياة والموت. ومع هذه الرحلة وصل السرد إلى جزئه الثاني "مرحلة الانتقال"، حيث تخفَّفت الروح من عبء الجسد، لتبدأ مغامرة مثيرة في العالم الآخر؛ جاب الراوي خلالها الأرض والفضاء وتكشفت له أسرارٌ، يبعث بعضها السعادة ويحفز بعضها الخوف.

سؤال الموت

مع تدفق السرد تجلى انشغال الكاتب بسؤال الموت، ذاك السؤال الذي ظل ملمحاً مهماً في أدب ما بعد الحداثة، فقد بدا ثيمة رئيسة للنص، ليس في صورته المجازية، وإنما كان موتاً فيزيقياً صريحاً، يفجر أسئلة جدلية حول المصير، وما بعد ارتقاء الروح، وما ينتظر الإنسان في حياته الثانية، من سعادة أو شقاء.

ومع بداية تحرر روح البطل من جسده، وانطلاقها في رحلتها الأثيرية إلى البرزخ، الفاصل بين الحياة والموت، اتسعت مساحات الفانتازيا في النص. واتسقت هذه المساحات الكثيفة من الفانتازيا، مع الطبيعة الضبابية والغامضة لتلك المنطقة، التي تسبق الموت. واعتمد الكاتب تقنيات الوصف، مما أكسب خياله خصائص صورية، دعمها بلغة مشهدية، وتقنيات بصرية، أضفت عليه إمكان الرؤية والتصديق، فنقل حالة الطفو، مراقبة النفس جسدها من الخارج، اختراق العقول، وسماع الأفكار، التحليق نحو بقاع، وفضاءات، وكواكب بعيدة.

غير أن ما خلقه من مساحات الخيال الخالص، كان وثيق الصلة بالثقافة، والموروثين الديني والشعبي، وبالمشاعر التي غرساها في النفس الإنسانية، والتي توزَّعت بين خوف من النهاية والعقاب، وأمل في الرحمة والغفران. فكان كل ما تراءى للبطل من صور وأحداث في رحلة روحه، بعد خروجها من الجسد، انعكاساً إما لهذا الخوف، الذي جسَّدته الصحراء والعطش، الوحش، الأفاعي، الأمطار الساخنة، الأصوات المجهولة المتصاعدة من باطن الأرض. أو ذلك الأمل، الذي بدا عبر المروج والفضاءات الزاهية، التحليق حول الشمس والكواكب، عودة القطة، وعودة الحبيبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبدا أيضاً في مرافقته لأبيه، الذي رقّ قلبه بعد انتقاله، وتخلى عن قسوته. وكما انعكس الموروث الديني في أحداث ما بعد الانتقال، برز أيضاً في لغة السرد، التي حوت أشكالاً مباشرة وغير مباشرة من التناص مع هذا الموروث: "آويتُ إلى جبل من الصمت يعصمني من مرارة الجدال" ص 23. ومرَّر الكاتب حمولات معرفية، أودعها طيات النسيج، وجعلها وثيقة الصلة بالأحداث، فاستخدم "بئر كولا"، الذي حفره السوفييت لاستكشاف قشرة الأرض، وما أثير حوله من أسباب أدت إلى توقف العمل به؛ من أجل أن يدعم غرائبية الرحلة، ولتجسيد المخاوف الإنسانية من اللعنة والعقاب. كما كانت دراسة البطل وعمله بالفن التشكيلي، منفذاً مرَّر عبره معارف حول خواكين سورويا، ومعجزته في الفن التشكيلي الإسباني.

 كذلك برز حضور الأسطورة، التي استمدها الكاتب أيضاً من الموروث والمعتقد الشعبي: "حين كنتُ صغيراً آمنتُ بوجود العفاريت ككائنات غير لطيفة تتلفع بالظلام، وحين كبرت، آمنت بإمكان عقد هدنة، لن أدلق ماءً ساخناً في دورة المياه ليلاً، أو أتعرض لقطة سوداء..." ص 32.

تفكيك الأيديولوجيا

استخدم بركة الحوار المسرحي بين البطل ومرشده في رحلته الغرائبية، ليعزز الإيهام بالحدوث، ويمرر رؤاه التي حاول من خلالها، تفكيك الأيديولوجيا السائدة، في الخطابات الثابتة، تلك التي ترهب أكثر مما تحبب، وتنفّر أكثر مما ترغّب: " لدينا معاييرنا لنقرر الصالح من الطالح. يكفي أن تعرف أن العمق بثباته، وليس السطح المتقلب هو ما يعنينا عند الحكم على الأشخاص. للأسف كثير من خطباء الجمعة ودعاة السوشيال ميديا لا يوافقونكم الرأي" ص 98.

ومرَّر رؤى فلسفية حول نشأة الكون، أصل الإنسان، قدرته على الفهم والاستبصار، ضلالاته وعذاباته، الحرية والجبرية. كما غلَّف السرد بنزعة صوفية، تجلَّت على مستوى اللفظ عبر الإشارة - في غير موضع- إلى الدوائر، والحركة الدائرية، ورقصة التنورة. وتجلَّت أيضاً على مستوى الفكرة، عبر الحب غير المشروط، والطاعة الكاملة، والعبودية المطلقة. وكانت الرؤى على إجمالها؛ انتصاراً للحب مقابل الخوف، للإنسان بكل تناقضاته ونقصانه، للنفس المجبولة على الخطأ، التي يتقاسمها الطهر والخطيئة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة