ملخص
مركز بومبيدو الباريسي يتتبع آثار إنجازات البريطاني نورمان فوستر المعمارية للحفاظ على البيئة
حين يُلفظ اسم المهندس البريطاني نورمان فوستر، تحضر إلى أذهاننا فوراً مشاريعه الهندسية الكبرى التي تمكّن بفضلها من تجميل صورة مدينة، ومن الارتقاء في شكل موقع، أو من إعادة الاعتبار لرمزية مكان. مطارات دولية، شبكات نقل، عمارات شاهقة، مقار شركات كبرى، صروح فنية ضخمة، تصاميم مدينية، متاحف... مشاريع تعد بالمئات وتعكس انخراط صاحبها في مختلف وجوه التنظيم الهندسي المعقد لمجتمعاتنا الراهنة، ضمن هاجس واحد وحميد، الحفاظ على البيئة الطبيعية من الآثار المدمّرة لعالمنا الصناعي.
من هنا أهمية المعرض الإستعادي الذي ينظّمه حالياً له "مركز بومبيدو" في باريس، ويسترجع مختلف مراحل عمله، مسلطاً الضوء على أبرز إنجازاته، مثل مقر مصرف "أتش أس بي سي" الأميركي في هونغ كونغ، "مربّع الفن" في مدينة نيم الفرنسية، مطار هونغ كونغ الدولي أو منتزه شركة "أبِل" في كاليفورنيا. معرض يستمد قيمة إضافية من كون فوستر هو الذي صمم سينوغرافيته، ومن كون مساره يتألف من ست محطات موضوعية تمنح الزائر صورة وافية وشاملة عن عمله الفذ.
وقبل التطرق إلى مضمون هذه المحطات، نشير بدايةً إلى أن كل شيء يبدأ، بالنسبة إلى فوستر، برسم تخطيطي. ممارسة على شكل تأمّل، تتجذر فيها تلك التوليفات المتقاطعة والتفاصيل الثلاثية الأبعاد الغالية على قلبه، ونشاهد نماذج منها في مدخل معرضه، تحيط بها رسوم شخصية تبيّن مهارات المهندس كرسّام بالدرجة الأولى.
طبيعة وحضارة
في المحطة الأولى من المعرض التي تحمل عنوان "طبيعة وحضارة"، نرى كيف نظر فوستر إلى العالمين الطبيعي والحضري، كعالمين موازيين يمكن أن يتقاطعا في شكل خلّاق عبر تشييد تجمّعات حضرية كثيفة تندمج داخل المشهد الطبيعي وتحافظ على خصوصياته، أو عبر تخصيص فسحة وافية للنباتات والأشجار والضوء والهواء النقي، داخل هذه التجمعات، واستثمار هذه العناصر الطبيعية لبلوغ بيئة حياتية أكثر صحية وبهجة، وأقل استهلاكاً للطاقة. وفي هذا السياق، تشكّل الشجرة، بالنسبة إلى فوستر، استعارة للمبنى المثالي، لكونها تتنفس وتستجيب للتغيرات الموسمية، علاوة على كونها بنية طبيعية متناسقة تشكّل مصدر إلهام في شكلها، وأيضاً نظاماً بيئياً مستقلاً يجني المياه،و يعيد تدوير النفايات ويمتص ثاني أكسيد الكربون. وهي مبادئ ألهمت عمله وتحكّمت به منذ البداية.
في المحطة الثانية من المعرض، التي تحمل عنوان "المدينة العمودية"، تتوزع مشاريع هندسية لفوستر تتجلى فيها نظرته إلى ناطحة السحاب، لا كرمز للهندسة الحديثة فقط، بل أيضاً كأعظم ابتكار للحضارة، لأن المدينة العمودية المتراصة التي تحظى بوسائل نقل عام ناجعة، تشكّل في نظره نموذجاً للتنمية المستدامة، لا سيما حين نقارنها بالمدينة الأفقية التي تتطلب من قاطنيها، بسبب تمددها داخل الفضاء، اقتناء سيارات فردية ملوِّثة. ومن هذه المشاريع، يتبين أن هذا المهندس كان من بين الأوائل الذين تحدوا، بتصاميمهم لناطحات السحاب، النموذج السائد، أي البرج التقليدي المتشرذم الهيكل، عبر تشييدهم فضاءات مفتوحة، متراكبة ومرنة، توفّر إطلالات على مشاهد فسيحة. وفي ناطحات سحابه تحديداً، عمد فوستر إلى تجميع الخدمات المساعدة بالقرب من أماكن العمل أو المعيشة. ابتكار قاد إلى تطور من نوع آخر: الأبراج الأولى القابلة للتنفس. فضمن حرصه على تقليل استهلاك الطاقة وخلق نمط حياة أكثر صحية، ابتكر نظام تهوئة طبيعية ينقل كميات كبيرة من الهواء، ويندرج ضمن نظام تكييف الهواء الداخلي.
في المحطة الثالثة التي تحمل عنوان "تاريخ وتقاليد"، تحضر المشاريع الهندسية التي التزم فوستر في تصميماتها بالمبدأ القائل بضرورة النظر بعيداً إلى الماضي، إن أردنا النظر بعيداً إلى المستقبل. فمن وجهة نظر بيئية، "من الأفضل ألف مرة إعادة تأهيل مبنى قائم، خصوصاً إذا كان يتحلى بأهمية مدنية ورمزية، من تشييد مبنى من الصفر"، على حد قوله. وبما أن المباني التاريخية تتميز بمراحل عديدة من التطور، اعتمد المهندس نهج الاستمرار في هذه السيرورة، مع الأخذ في عين الاعتبار الوظيفة الراهنة لهذه المباني، ومستقبلها.
فوائد بيئية
وفي المحطة الرابعة التي تحمل عنوان "مواقع وتصاميم"، نتعلم مع فوستر كيف أن خلق فضاءات حضرية يرتبط بشكل حميم بطريقة تصميم بنيتها التحتية ــ شوارع، ساحات، منتزهات، جسور... التي توحّد مختلف الأبنية فيها وتشكّل هويتها. نتعلم أيضاً أن الفضاء المديني هو أيضاً روح، وبنيته التحتية، إن صُمِّمت بذكاء وفن، بإمكانها تحويله أو إعادة ابتكاره، والاستجابة لأزمته الحضرية وحلّها، وبالتالي كيف أن تغييرات صغيرة قادرة على توفير فوائد بيئية كبيرة. فوضع تصاميم موجِّهة واتّباعها، يسمحان في انبثاق مدينة أكثر تراصاً وديمومة وإنصافاً لقاطنيها. ويسمحان أيضاً في إدخال الطبيعة والتنوع البيولوجي عليها، سواء على شكل حزام أخضر واقٍ، أو منتزهات وجادات مزروعة بالأشجار، أو نباتات متفرّقة داخل نسيجها المديني، وذلك لتجميل فضائها وتنقية هوائها.
المحطة الخامسة التي تحمل عنوان "شبكات وحركة" تتوقف بنا عند المشاريع العامة التي أنجزها فوستر في ميدان البنى التحتية الضرورية لتنقل الأشخاص والبضائع، ونرى فيها كيف أن نمو النقل الجوي وشبكات السكك الحديد للقطارات العالية السرعة، أتاح له فرصة إعادة ابتكار محطات دولية والارتقاء بها إلى مكانة مداخل مهيبة للدول المعنية بها، بكل ما تنطوي عليه من رمزية، فاتحاً إياها على السماء لمتعة العين، وآخذاً في الاعتبار دائماً ضرورة الاقتصاد في عمليتيّ تشغيلها وصيانتها. نرى أيضاً تصاميم وصور الجسور التي ربط بها ضفاف أنهر أو مرتفعات طبيعية، ومدّها ببعد رمزي يخطف الأنفاس. مشاريع قادته أيضاً إلى تحقيق ابتكارات بنيوية، سعياً خلف خفّة بصرية وهوية جغرافية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتختم المعرض محطة أخيرة بعنوان "آفاق مستقبلية" تسقطنا في زمن وفضاء قادمَين من خلال مشاريع خيالية لفوستر، توقع فيها عالماً أكثر استقلالية واكتفاءً ذاتياً، تتوافر فيه مصادر الطاقة غير الملوِّثة بوفرة، ولا يحتاج لشبكات نقل أو محطات ضخمة لتوليد الكهرباء. عالم يتم التنقل فيه بفضل أنظمة قيادة مستقلة، وتحلّ الأقمار الاصطناعية والأجهزة المحمولة كلياً مكان شبكات الهاتف التقليدية والأعمدة والأسلاك التي لا نهاية لها، وتشوّه مناظر البيئة الحضرية والطبيعية على حد السواء.
وفي بعض هذه المشاريع، استكشف فوستر، بالتعاون مع "وكالة الفضاء الأوروبية" ووكالة "ناسا" الأميركية، إمكانية تشييد مساكن على سطح القمر والمريخ، على شكل قبب، تُستخدم في بنائها مواد محلية. مشاريع استلهم فيها أحلام طفولته التي تنتمي إلى الخيال العلمي، ومكّنته بالنتيجة من تحويل هذه الأحلام إلى واقع ملموس.