Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يتأبطون حلم العودة ولا يدرون متى تنتهي الحرب

سودانيون تحولت منازلهم إلى ثكنات لـ"الدعم السريع" يبدأون "موسم الهجرة إلى الشمال": "تزعزع كل شيء"

ملخص

روايات وتفاصيل كثيرة تترى عن قرار الفرار الصعب وفجيعة وداع الديار نحو المجهول. لحظات انكسار تدمي القلوب، تجسدها دموع النظرة الأخيرة نحو أبواب الدور التي ألفوها زمناً وغادروها مكرهين لتبدأ رحلة الفرار هرباً من الموت بالمقذوفات الطائشة ورعب المعارك

لم يختبر سكان الخرطوم في حياتهم مثل هذه الحرب العنيفة الحالية، التي ما زالت معاركها المحتدمة تدفع كثيرين منهم إلى هجران بيوتهم والنزوح إلى الداخل والخارج بينما يتأبطون حلم العودة ولا يدرون متى ستنتهي هذه الحرب.

بعض المنازل انتزعت عنوة من أصحابه وتحول إلى ثكنات لمقاتلي "الدعم السريع"، روايات وتفاصيل كثيرة تترى عن قرار الفرار الصعب وفجيعة وداع الديار نحو المجهول. لحظات انكسار تدمي القلوب، تجسدها دموع النظرة الأخيرة نحو أبواب الدور التي ألفوها زمناً وغادروها مكرهين لتبدأ رحلة الفرار هرباً من الموت بالمقذوفات الطائشة ورعب المعارك.

الطريق إلى حلفا

منطقة وادي حلفا إحدى وجهات الفارين من السودان إلى مصر، هناك تتناثر قصص وحكايات عن كوابيس ومآسي الرعب الكبير الذي عاشه معظم سكان الخرطوم، يروي محمد بشرى "بعد 20 يوماً من الحرب  واشتداد المعارك شعرت بأن هذا الوضع ينحدر نحو فوضى كاملة، بخاصة بعد حرق ونهب الأسواق وصوامع الغلال بصورة أضحت فيها الخرطوم شبه مستباحة".

يتابع بشرى "20 يوماً كل يوم فيها كأنه عام كامل مثقل بهموم ومخاوف الدنيا كلها، وكلما أملنا أن يتوقف القتال في اليوم التالي تنهار أحلامنا ويزداد الوضع اشتعالاً، بخاصة بعد أن بدأت عربات قوات الدعم السريع المدججة بالمدافع الرشاشة والثقيلة تتسرب إلى داخل شوارع وأزقة الأحياء الضيقة طلباً للحماية من غارات الطيران تحت الأشجار ووسط البيوت".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف "لم يعد هناك قانون يحمي المدنيين، وليس هناك من يرأف بحال الناس الذين كادوا يفقدون كل شيء، فالحكومة مشغولة بسحق التمرد والحرب عليه، وقد أيقنت أنني وأسرتي لو بقينا أكثر مع استمرار الحرب قد نصبح محض أرقام تضاف إلى قوائم الجرحى أو القتلى أو المفقودين أو حتى اللاجئين، وتكفي بشاعة أننا بتنا نعلم أن ما يقارب 190 طفلاً ماتوا وأصيب 1700 خلال ثلاثة أسابيع فقط".

يتنازع بشرى شعور عميق بخزي الهروب من الحرب وهجر الديار، ويسأل "هل كان هناك من حل آخر تحت وطأة القذائف؟ لقد كان الصغار يرفضون الخروج من تحت الأسرة خوفاً من دوي القصف ودخان المعارك المتصاعد، ويسألون متى يسكت دوي الكاتيوشا والانفجارات في الشارع".

ويردف "أضف إلى كل ذلك الصعوبات الكبيرة التي باتت تواجه معاش الناس وغياب السلع وانعدام الوقود بعد أن دمرت الأسواق وأحرقت المتاجر ونهبت كبريات الشركات المنتجة للمواد الغذائية والبنوك وخروج معظم المستشفيات من الخدمة وتوقف الصيدليات وانقطاع خدمات المياه والكهرباء عن معظم الأحياء".

القرار المر

يشير محسن عبدالرحيم أحد المتوجهين إلى الحدود المصرية، إلى أن معظم الفارين هم من المناطق الملتهبة في أحياء الفتيحاب والمهندسين والملازمين بأم درمان، وأحياء الوابورات وحلة حمد وكافوري وشمبات ومناطق عدة في شرق النيل بالخرطوم بحري، فضلاً عن وسط الخرطوم وبري والعمارات والمناطق المتاخمة لشارع الستين وأماكن أخرى.

يحكي عبدالرحيم عن ساعات مروعة عاشها داخل بيته بعد سقوط دانة أودت بحياة اثنين من جيرانه، ثم تكرر الأمر نفسه مع جيران آخرين جرح منهم خمسة أفراد من أسرة واحدة، مبيناً أنه "بعد الحادثة الثانية قررت بشكل قاطع المغادرة للنجاة بأسرتي بعد أن تملكها الرعب والخوف، فالمرة الثالثة لسقوط الدانات ستكون من نصيبنا".

يقول مستحضراً هذه اللحظات "من كثرة الدوي وإطلاق النار بتنا نميز ونحن داخل منازلنا أصوات أنواع السلاح، فهذا مدفع (آر بي جي)، وهذه زخات المدفع الرشاش الرباعي، وهذا هو (الكلاشينكوف)".

يلخص عبدالرحيم هواجس الخوف التي دفعته إلى الفرار قائلاً "فقدنا أماننا تماماً، بخاصة بعد تشتت مقاتلي قوات الدعم السريع وسط الأحياء، وهم رجال بلا رحمة ولا يمكن التنبؤ بسلوكهم، ويمكن أن يدخلوا عليك في أي مكان وفي أي لحظة، لقد طردوا أناساً ببساطة من بيوتهم، أخرجوا الرجال واحتفظوا بالنساء لخدمتهم".

ويضيف "لم يعد بإمكاننا التحرك بسياراتنا الخاصة فهم ينهبون السيارات أيضاً، بخاصة الشاحنات الصغيرة وسيارات الدفع الرباعي، لقد تزعزع كل شيء فينا ولم يعد يسكننا سوى الرعب وتوقع الأسوأ في كل لحظة".

متضامنون وانتهازيون

بعد القرار وحزم الأمتعة، تبدأ الرحلة من الخرطوم في سوق قندهار بأقصى جنوب حي أم بدة بأم درمان حيث مجمع البصات السفرية.

وكما هي حال الحرب دائماً، يصبح التكسب والاستثمار في خوف الناس تجارة من نوع آخر مادتها الضمائر الفاسدة والطمع بالكسب السريع، لذلك لم يبالغ أصحاب الباصات في أسعار السفر فقط بل لا توجد أي خدمات من التي كانت متوفرة في الظروف الطبيعية في رحلة طولها 1000كيلو متراً وتستغرق نحو 25 ساعة حتى الوصول إلى وادي حلفا.

على طول الطريق وتضامناً مع الفارين من معارك الخرطوم يستوقف المواطنون باصات المغادرين، ويصطف سكان بعض القرى والمدن ليقدموا المساندة المعنوية وبعض الوجبات الخفيفة وقوارير المياه مصحوبة بعبارات التعاطف والمواساة.

في المقابل يستغل بعض ذوي النفوس الضعيفة من أصحاب الكافتيريات والاستراحات التجارية على الطريق ظروف الفارين أبشع استغلال ليفرضوا عليهم مبالغ تصل إلى 1000 جنيه سوداني (نحو دولارين) أجرة السرير لساعات معدودة، و500 جنيه (دولار واحد) لاستخدام الحمام مرة واحدة، وهو ما استهجنه كثيرون منهم كونه لا يشبه تقاليد السودانيين.

رحلة ثم أخرى

عند بلوغ محطة الوصول وانتهاء رحلة الـ1000 كيلومتر هي طول المسافة بين أم درمان ووادي حلفا تبدأ رحلة أخرى، إذ ينتظر آلاف الفارين العبور إلى ميناء قسطل على الضفة الأخرى من نهر النيل بينما هناك عدد آخر من العالقين ينتظرون إكمال إجراءاتهم كتجديد جواز السفر أو إرفاق في جواز الكفيل بالنسبة إلى الأبوين والأبناء الصغار أو الحصول على تأشيرة لمن هم أكبر من 18 عاماً ودون الـ50 عاماً كون الأكبر من ذلك، والنساء لا يشترط حصولهن على التأشيرة.

بعض الأسر تضطر لانتظار استكمال إجراءات أحد أبنائها لأكثر من أسبوع، وقد نأت المدينة الصغيرة بأعباء الأعداد المتزايدة من النازحين من دون انقطاع منذ أسبوع الحرب الأول.

على رغم جهود بعض منظمات المدني في تقديم ما يتيسر من خدمات ومعونات، لكن الوضع لا يزال صعباً بخاصة في ظل الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار الخدمات والسلع في وادي حلفا بسبب زيادة الكبيرة في الطلب عليها.

نتيجة عدم توفر مساكن لإيواء كل هذه الأعداد، يضطر كثيرون بخاصة من الشباب إلى افتراش الأرض، بينما فتحت المدارس والمساجد لإيواء الوافدين.

تهيئة لظروف أفضل ومنعاً للتكدس، أصدر محافظ أسوان (جنوب مصر) أشرف عطية، توجيهات عاجلة في شأن القادمين من السودان قضت برفع درجة الاستعداد في مستشفيات المحافظة، وإمدادها بأعداد إضافية من الأطباء في جميع التخصصات، ومضاعفة أعداد فرق الطب الوقائي بالمحافظة والمناطق الحدودية في إطار استكمال الأجهزة المحلية جهودها في تقديم الخدمات المختلفة للقادمين من السودان عبر المعابر البرية في كل من أرقين وقسطل ومستشفى أبو سمبل الدولي، إضافة إلى الموقف الدولي بكركر.

ذاكرة التهجير

وكلف عطية رؤساء المراكز والمدن بالإشراف ميدانياً على ما يتم تقديمه من خدمات في جميع المعابر البرية والموقف الدولي البري بكركر، مع عدم مغادرة هذه المواقع إلا بعد وصول بدلاء لهم لتحقيق السيطرة الكاملة على المستجدات أولاً بأول، وتكثيف أعمال النظافة العامة والتطهير والتعقيم داخل هذه المعابر، وتقديم الخدمات الطبية والعلاجية المدعمة بالتخصصات المختلفة داخل تمركزات سيارات الإسعاف الثابتة وكذا السيارات المتنقلة، وتوفير المستلزمات الطبية.

كما وجه المحافظ بتوفير مطبخ للوجبات الساخنة والجافة والمياه المثلجة النقية والسلع الغذائية، إلى جانب تقديم جميع التسهيلات لوزارة الصحة والهلال الأحمر المصري والمنظمات الدولية لإتاحة الخدمات المتنوعة، والتنسيق الدائم مع وزارة النقل وهيئة السكك الحديدية وغرفة الشركات السياحية لتوفير الأتوبيسات وقطارات السكك الحديدية على مدار اليوم بأسعار مناسبة.

كذلك شدد عطية في توجيهات أشار إلى أنها جاءت بناء على تعليمات القيادة السياسية والحكومة، على أن يتم بشكل يومي تمهيد الطرق المؤدية إلى المعابر البرية ورفع المخلفات بشكل يومي أولاً بأول، مع العمل على تشغيل العبارات النيلية على مدار اليوم ليلاً ونهاراً لاستيعاب أعداد الوافدين من السودان ونقلهم من قسطل شرقاً إلى مدينة أبوسمبل غرباً، مشيراً إلى أن المحافظة قامت بتركيب 45 عمود إنارة بالطريق المؤدي إلى مدخل مرسى ميناء حجر الشمس بقسطل.

ومنطقة وادي حلفا يسكنها من تبقى من سكان مدينة حلفا القديمة التي غمرتها بحيرة السد العالي، حيث تمسكوا بالبقاء ورفضوا التهجير إلى حلفا الجديدة في ستينيات القرن الماضي، وقد ردد هؤلاء هتافهم الشهير في وجه الرئيس إبراهيم عبود لدى زيارته إياهم لمحاولة إقناعهم بالهجرة "حلفا دغيم ولا باريس، حلفا أرقين ولا برلين"، تشدداً في تمسكهم بعدم مغادرة ديارهم.

وتعتبر حلفا أو حلفا القديمة مدينة سودانية تاريخية على الحدود المصرية، وتنتسب إليها قبيلة "الحلفاويين" أحد فروع النوبيين الكبيرة، وغمرت بمياه النيل لبناء السد العالي في عهد الرئيس إبراهيم عبود في نوفمبر (تشرين الثاني) 1964، وتم تهجير أهلها بقرار حكومي إلى منطقة جديدة في شرق السودان سميت حلفا الجديدة.

المزيد من متابعات