Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النزعة "اللاإنجابية" في مصر... إشفاق أم أنانية؟

متخصصون يفندون أسباب تنامي الظاهرة ويرجعونها إلى غياب الشعور بالأمان النفسي والمجتمعي

بعضهم قد ينشأ في مجتمعات أسرية مدللة، وهو ما يعزز فكرة عدم تحمل المسؤولية لديهم (غيتي)

ملخص

بعضهم قد يعاني مشكلات اضطرابات الشخصية المضادة للمجتمع والنرجسية كونهم لا يهتمون سوى بأنفسهم وهو ما يجعل علاقتهم بمن حولهم دائماً "مبتورة"

عام كامل مضى ولم تتجاوز آية يوسف (اسم مستعار) صدمة فشل ارتباطها بشريك حياتها بعد قصة حب جمعت بينهما، عقب اعترافها له بأنها "لا إنجابية"، وترفض فكرة إنجاب أطفال.

لا تزال تلك الصدمة عالقة في أذهان الفتاة الثلاثينية التي قررت الانعزال عمن حولها في المجتمع، والبحث عن شريك آخر لحياتها في مجتمع يؤمن بأفكارها بالعيش معاً من دون إنجاب أطفال لهذا العالم على غير رغبتهم وفرض الحياة عليهم.

الصدمة التي عاشتها آية بعد فشل ارتباطها لم تكن الوحيدة، بل كان أكثر ما يؤرقها نظرات أسرتها إليها واعتراضهم على أفكارها ومحاولات إقناعها المستمرة بالعدول عنها، كونها بحسب رؤيتهم تمثل "أفكاراً شاذة" عن السياق المجتمعي المتعارف عليه بالزواج من أجل إنجاب أطفال وحلم بناء الأسرة.

"لا أشعر بغريزة الأمومة"

"أفكاري ومعتقداتي حرية شخصية، ولا أشعر بغريزة أو عاطفة الأمومة"، مبرر ساقته الفتاة المصرية خلال حديثها إلى "اندبندنت عربية"، عبرت فيه عن رؤيتها للأفكار والرؤى التي تؤمن بها، مشيرة إلى أن كل شخص حر في ما يفعله طالما لن يضر أحداً أو يجبره على فعل شيء لا يريده "كنت أظن أن فكرة الأمومة غريزة وعاطفة حتى اكتشفت مع الوقت أنها ليست كذلك، ولا أميل إليها على الإطلاق، وهناك كثيرون يؤمنون بأفكاري نفسها، وهنا شعرت بالارتياح بأنني لست وحيدة في هذا العالم".

تنظر آية إلى أعراف وتقاليد المجتمع حول فكرة الزواج من أجل إنجاب أطفال وحلم بناء الأسرة بنوع من الاستنكار والدهشة، معتبرة أن الأشخاص "اللاإنجابيين" لا يفعلون شيئاً مجرماً، وعلى رغم ذلك يواجهون دائماً عقبات مع المقربين منهم في محيطهم وصعوبات في محاولة شرح أفكارهم التي يصنفها كثير من أفراد المجتمع بـ"الغريبة".

وتفند الفتاة المصرية الأفكار التي يؤمن بها "اللاإنجابيون" بأن بعضهم يرى أن إنجاب أطفال "أمر غير أخلاقي"، وآخرون يرون أن الظروف المادية والمعيشية لا تحتمل إحضار طفل لتلك الحياة، وفريق ثالث ينظر بأسلوب أشمل بأنه كلما زادت أعداد السكان قلت الموارد، وهو ما يجعل أزمات الدول تتفاقم.

ولم تنكر ابنة العقد الثالث من العمر رغبتها في استكمال رحلتها بالبحث عن شريك لحياتها في مجتمع يتفهم أفكارها ودوافعها "بدأنا كأشخاص لا إنجابيين أخيراً نتواصل مع بعضنا بعضاً، ونناقش أفكارنا ومشكلاتنا لأننا سيفهم بعضنا بعضاً جيداً".

وبحسب ما أعلنته الساعة السكانية بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (جهة حكومية) في إحصاء حديث لها، بلغ عدد سكان مصر بالداخل 104.395 مليون نسمة، ووصل عدد المواليد (2.183 مليون مولود) خلال 2022، ومتوسط عدد المواليد 5982 مولوداً يومياً.

الإنجاب فعل غير أخلاقي

طفت على السطح خلال الآونة الماضية ظاهرة "اللاإنجابية" في مصر، وهو ما برز جلياً عبر الدعوات والصفحات التي انتشرت على نطاق واسع بمنصات التواصل الاجتماعي من بلدان مختلفة، وضمت آلاف المشاركين التي تدعو إلى عدم إنجاب الأطفال كونه فعلاً غير أخلاقي، ولأسباب بعضها قد يرتبط بالظروف المعيشية والاجتماعية والضغوط التي قد يتعرض لها الأطفال في الحياة.

وعلى رغم الانتشار الواسع لتلك الدعوات عبر منصات "السوشيال ميديا" وتفاعل فئات عمرية شبابية معها، فإن دعوات أصحاب الفكر "اللاإنجابي" لم تلقَ أرضاً خصبة على أرض الواقع، بخاصة أن قطاعاً عريضاً في المجتمع ينظر إلى تلك القضية من منظور ديني، ويعتقد بضرورة الإنجاب من أجل حلم تكوين الأسرة.

وتطرق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى قضايا الزواج والإنجاب في مناسبات مختلفة، كان آخرها ما أدلى به أواخر العام الماضي، خلال كلمته في افتتاح مشروعات قومية بإحدى المحافظات المصرية، وتأكيده أنه ليس ضد الإنجاب، لكنه يطالب في الوقت نفسه بضرورة توفير الوقت اللازم للزوجين من أجل التفكير في تلك الخطوة.

"رفاهية" وليست ضرورة

بعد آخر في القضية، يكشف عنه مراد وائل (لا إنجابي)، مؤكداً أن إيمانه بتلك الأفكار من جانب إنساني وأخلاقي بحت، وبدأت معه القصة منذ الطفولة، حينما دارت تساؤلات في ذهنه عن أسباب مجيئه لهذا العالم، ومع مرور السنوات أيقن أن فكرة الإنجاب "لا تعد أكثر من كونها مجرد عادات وتقاليد وأعراف فقط في المجتمع، الناس بتخلف (تنجب) من دون تفكير، بحكم المسلمات المتعارف عليها، لكن أنظر إليها باعتبارها رفاهية وليست ضرورة، ولا يحق لي أن أجبر شخصاً على أن يأتي للحياة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يضيف مراد (22 سنة) "الحياة بطبيعتها صعبة وقاسية وإنجاب أطفال قد يزيد الأمور تفاقماً، كفاية (كفى) بشر، هل يعقل أن يزيد عدد السكان في الشهر الواحد ربع مليون نسمة والمجتمع يشكو من غلاء الأسعار؟ ما المانع في الاستمتاع مع الزوجة بالحياة من دون إنجاب أطفال؟ ولماذا نقيد أنفسنا بطفل يأتي ليعيش حياة بائسة في ظل أوضاع وظروف اقتصادية صعبة؟".

ويواجه الشاب المصري صعوبات مع أسرته التي رفضت في البداية تقبل أفكاره، لكن مع مرور الوقت تقبلوا الفكرة وبدأوا يستمعون لأفكاره، إلا أنه يفضل الصمت مع أصدقائه المقربين منه الذين لا يتقبلون مجرد طرح الفكرة للمناقشة باعتبارها بعيدة عن أعراف المجتمع، بحسب ما حكى لنا.

ويستشهد مراد بقصة الفنان الراحل عبدالسلام النابلسي، حينما أطل على جمهوره عبر لقاء تلفزيوني معلناً رفضه فكرة الإنجاب "أحب الأطفال مثل غيري، لكن الإنجاب بالنسبة إليَّ مشكلة، وأشفق على كل شخص ينجب، لأني أعتقد أن أي شخص يكفيه همومه وهموم الدنيا. وأعتبر إنجابه كأنه أنجب هماً جديداً إلى العالم".

روابط أسرية مفككة

أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس هالة منصور تفند أسباب تنامي تلك الظاهرة مجتمعياً، مرجعة ذلك إلى أسباب عدة، أبرزها يكمن في غياب الشعور بالأمان النفسي والمجتمعي لهؤلاء الشباب، الذين يكون لديهم الرغبة في عدم التقيد بأي روابط أو قيود أسرية والعيش من دون إنجاب أطفال لعدم قدرتهم على تحمل المسؤولية، إلى جانب النشأة في مجتمع غير سوي نتيجة ظروف مادية أو أسرية مفككة، إضافة إلى وجود مشكلة تتعلق بـ"أنانية" هؤلاء الأشخاص والنظر إلى أسرهم كونهم مصدراً للإنفاق فقط، فضلاً عن أن بعضهم لا يكون لديه الرغبة في الاستمرار بالعلاقة الزوجية لفترات طويلة، لذلك لا يريد أن يتقيد بأطفال.

وتواصل أستاذ علم الاجتماع تشريح شخصية تلك الفئة "بعضهم قد ينشأ في مجتمعات أسرية مدللة، وهو ما يعزز فكرة عدم تحمل المسؤولية لديهم ويجعلهم لا يفكرون سوى في أنفسهم وإشباع رغباتهم فقط، كما أن هناك فريقاً منهم يرى أن الضغوط والأعباء النفسية متزايدة والإنجاب يزيد الأمور سوءاً. والمجتمع ينظر إلى هؤلاء باعتبارهم أشخاصاً غير أسوياء، لأن الحياة المثالية تنشأ على الحياة الزوجية السليمة والعطاء والنظرة إلى المستقبل".

وعن الأضرار الاجتماعية الناجمة عن تزايد الظاهرة تقول منصور إنها قد تخلق "أسراً مشوهة وغير قادرة على القيام بالوظائف الأسرية نتيجة الأنانية المفرطة بين الطرفين والمشكلات النفسية التي ستجمع بينهما والرغبة في عدم الاكتمال المجتمعي، وهو ما ينعكس على المجتمع برمته في نهاية الأمر".

وطالبت بمواجهة تلك الظاهرة مجتمعياً من خلال عودة المؤسسات لدورها في النشأة الاجتماعية السليمة، وتعديل لغة الخطاب الديني والثقافي والاجتماعي، لكي تعود قيمة الأسرة مرة أخرى. متوقعة ارتفاع معدلات تنامي الظاهرة في الفترة المقبلة، لا سيما مع تزايد نسب الطلاق والأسر المفككة داخل المجتمع، وهو ما ينعكس بدوره على تزايد الظواهر الفردية الغريبة التي تظهر نتيجة نشأة مجتمعية غير سوية.

وفي إحصاء رسمي أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (جهة رسمية) في أبريل (نيسان) من العام الحالي، أظهر أن عدد حالات الطلاق في مصر بلغ 254 ألفاً و777 حالة طلاق خلال عام 2022، وأن هناك 10 محافظات سجلت عدد 189 ألفاً و68 حالة طلاق.

"التبني" أحد الحلول

إلا أن مراد يرفض ما وصفته أستاذة علم الاجتماع بأنهم أنانيون، "لسنا أنانيين كما ينظر إلينا بعض الناس، الأناني هو من يمتلك شيئاً ولا يقدمه لغيره، وهو مفهوم مغاير لرؤيتنا، لأن أفكارنا حتمت علينا أن يكون لدينا مسؤولية إضافية، وأن لا نتخذ تلك الخطوة حتى لا نظلم غيرنا".

ويعضد رأيه بأنه على رغم قناعاته وأفكاره لا يجد غضاضة في الاعتراف بأنه ليس ضد فكرة تبني طفل، لأنه "قد ينقذه من مشكلة حقيقية ولا يزيد الأمور في العالم تفاقماً في التعداد السكاني. كثير من اللاإنجابيين ليس لديهم مشكلة مع قضية التبني، لكن القضية الرئيسة تكمن في اعتراضهم على إحضار طفل إلى العالم من دون رغبته وفرض الحياة كأمر واقع عليه وأن يورث معاناته لمن بعده".

علاقات "مبتورة" ومشكلات نفسية

فيما يحلل استشاري ومدرس الطب النفسي بكلية طب الأزهر محمد محمود حمودة الدوافع النفسية والسلوكية للاإنجابيين بأن هناك كثيراً منهم "يعانون بعض الأمراض النفسية، يكمن أبرزها في كونهم شخصيات اعتمادية يخشون تحمل المسؤولية ويعتبرون من وجهة نظرهم أن إنجاب أطفال سيكون بمثابة عبء عليهم في الحياة، ولا يرغبون في إنجاب طفل بائس في هذه الحياة".

وأوضح أن غالبيتهم لديه مشكلات قد ترجع إلى فترات طفولتهم والظروف التي عاشوا فيها تلك المرحلة، سواء مشكلات تتعلق بالتربية بشكل سليم أو أزمات قاسية مرتبطة بالظروف المادية أو الأسرية.

ووفق إحصاء رسمي، صادر عن المجلس القومي للأمومة والطفولة (جهة حكومية)، أظهر تلقي 647 ألفاً و956 مكالمة هاتفية وردت من المواطنين والأطفال إلى خط نجدة الطفل خلال 2019، وأن بلاغات العنف ضد الأطفال بلغت نسبة 37 في المئة من إجمالي عدد البلاغات الواردة.

علاوة على ذلك، فإن بعضهم قد يعاني مشكلات اضطرابات الشخصية المضادة للمجتمع والنرجسية كونهم لا يهتمون سوى بأنفسهم وهؤلاء الأشخاص يتسمون بالأنانية بطبعهم، وهو ما يجعل علاقتهم بمن حولهم دائماً في المجتمع "مبتورة"، كما أن كثيراً منهم لديه مشكلات مع ما يسمى "السلطة الأبوية" ويخشون الإنجاب حتى لا يتعرض أطفالهم لسلطات أعلى تقهرهم، بحسب رؤيتهم.

يضيف مدرس الطب النفسي في تصريح خاص أن بعض الأشخاص الذين يؤمنون بتلك الأفكار تسيطر عليهم فكرة الانتحار بسبب شعورهم بالاكتئاب، وهو غالباً ناتج من عدم رغبتهم في بناء أسرة، بالتالي يشعرون بالوحدة، لا سيما في ظل رفض المجتمع أفكارهم، كما يعاني بعضهم مما يسمى "اضطرابات الشخصية الحدية" والتي يتسم بها الشخص متقلب المزاج وسريع الانفعال ويكون تقييمه مرتبطاً بمواقف، مؤكداً أن أغلب "اللاإنجابيين" يكونون "لا دينيين" لديهم مشكلات تتعلق بفكرة الإيمان والمعتقدات الدينية، و"لا جنسيين" بما يعني أنهم ليس لديهم هوية جنسية ولا يميلون لممارسة الجنس.

وتعقب آية يوسف على هذا الطرح "من يتزوجون وينجبون الأطفال قد يعانون مشكلات أكبر وقد ينتهي الأمر بهم إلى الطلاق في النهاية وأن تورث المشكلات في ما بعد للأطفال والأجيال الجديدة. لا أعتقد أن لديَّ مشكلات نفسية أو صحية أو بيولوجية، لكنني قررت بدافع حرية شخصية عدم الإنجاب، مثل الأشخاص الذين قرروا بمحض إرادتهم أيضاً تأخير خطوة الإنجاب بعد الزواج".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات