ملخص
صمم المعماري #أدولف_لوس تحفة فنية لسكن الراقصة الشهيرة #جوزفين_بيكر، لكن ذلك البيت لم ينفذ أبدا
لعل المشروع الذي ينطبق عليه القول الشائع في عالم الإبداع من أن أجمل المشاريع الكبرى والإبداعية في هذا العالم، ولا سيما إذا كان الإبداع من النوع المركب، كفن السينما أو المسرح أو الهندسة العمرانية، هي التي قد لا تجد طريقها إلى التنفيذ، ذلك أن المشروع هنا تظل له عفوية خيال الفنان وإبداعيته، قبل أن يصل إلى أيدٍ أخرى تنفذه، مما يجعل "المساومات" و"التنازلات" تنطلق محدثة فيه تغييرات، قد تكون مفيدة على الصعيد العملي، لكنها قد لا تتطابق مع ما كان الفنان يريده في البداية. الأمثلة على هذا كثيرة ولا يتسع لها المجال... ولكن يمكن القول إن ثمة الآن في فن السير وتاريخ الفن فروع دراسة خاصة تهتم بتلك المشاريع، على اعتبار أنها أكثر قدرة، وهي على الورق، على التعبير عن الفن الحقيقي لأصحابها. علماً أنه يحدث في بعض الأحيان أن يصبح المشروع غير المنفذ لفنان ما أشهر مشاريعه إلى درجة يعتقد معها الناس أن المشروع تحقق فعلاً، ولعل المثال الأسطع على هذا - في مجال السينما في الأقل - المشروع عن سيرة نابليون الذي انقضت حياة السينمائي الأميركي ستانلي كوبريك يحاول تحقيقه فأضحى من أساطير السينما الأيقونية.
بيت راقصة استثنائية
نقول هذا وفي ذهننا في مجال العمران هذه المرة، مشروع المعماري أدولف لوس، الذي يعرف بـ"بيت جوزفين بيكر". فبيت جوزفين هذا يعتبر في عالم الهندسة المعمارية بيتاً شهيراً، تدرس قواعد بنائه وتجديداته، على رغم معرفة كثر أنه ظل حبراً على ورق ومجموعة خرائط وتحول اليوم إلى موقع إلكتروني يدعى الناس إلى زيارته... ولكن يحدث في مرات كثيرة أن يتوجه سياح إلى باريس سمعوا ببيت جوزفين بيكر هذا، وراحوا يبحثون عنه راغبين في مشاهدته، وقد اختلطت عليهم الأمور فظنوه بيتاً حقيقياً. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن "بيت جوزفين بيكر" يدرس، معمارياً، في مدارس ألمانية وغير ألمانية عدة. ويساعد على ذلك واقع أن اسم جوزفين بيكر هو من الشهرة بحيث يجتذب أي عمل مرتبط باسمها اهتمام الطلاب الذي سرعان ما ينصب على البيت نفسه، بصفته بيتاً نموذجياً. فجوزفين بيكر "صاحبة" البيت هنا هي نفسها تلك الراقصة الأميركية الشهيرة التي عاشت وحققت شهرة كبيرة في باريس، وعرفت بتبنيها أطفالاً من كل جنس ولون، وبرقصها المثير ذي الإيقاعات الأفريقية، وبحزام حبات الموز الذي كانت تضعه حول خصرها خلال الرقص إعلاناً منها عن انتمائها الاستوائي الأفريقي، ناهيك بما هو معروف من عملها مع الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية. وحكاية البيت هي أن المهندس أدولف لوس، حين عاش في باريس ردحاً من الزمن خلال الربع الثاني من القرن العشرين، تعرف إلى جوزفين التي كانت آتية لتوها من أميركا، وأغرم بها مثل كثر من مجايليه، وصار مثلهم من أبناء الحلقة المحيطة بها، ثم ذات يوم طرأت على خاطره، إذ راح يدرس شخصيتها ويناقشها في الكثير من الأمور الاجتماعية والحياتية، والسياسية حتى، فكرة أن يصمم لها بيتاً يتناسب تماماً مع رغباتها ومع صورتها عنده. ومن هنا ولد ذلك المشروع، الذي كان لوس قد استبقه بمشروع حققه تلك المرة، هو "بيت تريستان تزارا" الشاعر الدادائي الذي كان صديقاً له ولجوزفين بيكر في الوقت نفسه. والحقيقة أن لوس صمم البيتين، ونفذ واحداً منهما بالفعل، تطبيقاً لمبادئه الهندسية التي كان صاغها منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر حين صاغ نظريات قائمة على أساس نزعة نفعية جمالية بسيطة تتفادى استخدام أية زينة.
انفتاح على العالم
"بيت جوزفين بيكر" الذي صممه أدولف لوس في عام 1927، أي في العام التالي لتحقيقه "بيت تريستان تزارا" لا يخرج عن تلك القواعد، إضافة إلى أنه، في تصاميمه وألوانه التي وصلت إلينا، يبدو إلى حد كبير شبيهاً بشخصية الراقصة نفسها، بل إنها هي من أملى عليه الكثير من التفاصيل، وفي مقدمتها أنها كانت تريد للبيت أن يكون مفتوحاً على العالم في الوقت نفسه الذي يضم كل شيء في داخله مثل حصن، كما لو أن بيكر أرادت أن ترى العالم من بيتها من دون أن تعطي العالم فرصة واسعة لكي يراها. والحال أن من يشاهد اليوم صوراً لجوزفين بيكر أو شرائط تصور رقصات لها أو مشاهد من حياتها العامة يلحظ بسرعة أن هذه الفنانة تنظر إلى العالم من خلال الصورة، بأكثر مما تسمح للعالم بأن ينظر إليها. ولنقل إن هذا البعد يتطابق، من ناحية، مع نظريات لوس حول العمران، ومن ناحية ثانية مرتبطة بالأولى بالفكرة الأساسية التي تقف وراء هذا المشروع.
مشروع بلا برنامج
منذ البداية يعتبر الدارسون أن مشروع "بيت جوزفين بيكر"، الذي لا ينطلق من أي اتفاق مسبق، ولا يرتبط حتى بأي برنامج لهندسة بيت معين في مكان جغرافي معين، هو عبارة عن درس في العمران يعبر عن موهبة مصمم البيت الاستثنائية، لأنه أطلق في رسمه العنان لمخيلته، لكنه يعتبر في الوقت نفسه تحية من المهندس إلى الراقصة، وكشفاً عن مدى النزعة الإنسانية الكامنة في عمق أعماقها، انطلاقاً من حماسة لوس لجوزفين. ولعل الجزء الأكثر تجديداً في المشروع يقوم في احتواء مبناه على حوض سباحة داخلي صمم بحيث إن السابحين فيه يبدون، عبر واجهات زجاجية داخلية وكأنهم أسماك في حوض مغلق. وإذ كانت جوزفين أبدت رغبتها في أن يكون منزلها مضافة عامة، أي بيتاً ومؤسسة تستقبل الضيوف العابرين والدائمين، انطلاقاً من نزعتها الاجتماعية الناتجة من خوفها من الوحدة والحواجز التي تحد من انطلاقة المرء داخل المكان، حرص المشروع على أن يجعل الصالون وغرفة الطعام فسيحين متكاملين، كأنهما قاعة رقص أو صالة اجتماع في فندق كبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سباحة في الفضاء
وكان لوس يقول إنه إنما أراد أن يوفر لـ"تلك الأفريقية الرائعة" حيزاً هو من الاتساع بحيث يمكنها أن ترقص فيه على سجيتها، وكأنها تسبح في فضاء لا نهاية له. ومن هنا إطلالة الحوض في الطابق الثاني من المبنى، على الصالون وغرفة الطعام كتعبير عن استعراضية داخلية على النمط الذي كانت جوزفين تفضله. أما بالنسبة إلى واجهة البيت الخارجية فقد حرص لوس على أن تظهر الأشكال المستطيلة التي كان يفضلها دائماً على غيرها من الأشكال، وهو الذي كان يرى في الدوائر نزعة غير عقلانية وفي المثلثات نزعة صوفية، فيفضل عليهما عقلانية المربع والمستطيل والخطوط المتلازمة. وفي هذا السياق يأتي مبدأ جعل الواجهة ذات خطوط أفقية بيضاء وسوداء على مدار محيط البيت، تعلو قاعدة من المرمر الأبيض، الذي كان أدولف لوس يفضله على أية مواد أخرى، وغالباً ما استخدمه في مشاريعه. ولا بد من أن نشير هنا إلى أن لوس كان يعتبر هذا المشروع واحداً من أجمل وأهم "أعماله"، انطلاقاً من تجديداته المهمة في مجال ما كان يسميه "الترابط الدرامي بين السلالم الداخلية" ومحاور الرؤية المتنوعة والمتقاطعة في معظم النقاط داخلياً وخارجياً، ناهيك بالحوض الداخلي وجدرانه الزجاجية.
خلاصة فن بأكمله
طبعاً تتعدد الأسباب التي حالت دون إنجاز هذا المشروع. ومع هذا يرى كثر فيه خلاصة طيبة لكل الفن الذي كان أدولف لوس يسبغه على مشاريعه. الفن الذي جعله يعتبر من سادة الحداثة في العمران الأوروبي... وجعل له مقلدين وحواريين ومتأثرين بأعماله، من بينهم الأميركي الكبير فرانك لويد رايت الذي كان يقول دائماً إنه يعتبر نفسه مكملاً للوس الذي "أنجز على الصعيد الأوروبي ما أنجزته أنا على الصعيد الأميركي".
وأدولف لوس ولد عام 1870 في برنو بمورافيا التي ستصبح لاحقاً جزءاً من تشيكوسلوفاكيا، ليموت بعد ذلك بثلاثة وستين عاماً في مصح عقلاني في فيينا، كان نقل إليه بعد أن أصيب بأمراض عدة منها أمراض عصبية، وهو الذي كان درس في درسدن بألمانيا، وحقق مشاريعه بينها وبين فيينا التي كانت وطنه الذي ارتبط به أكثر من أي وطن آخر، على رغم تنقله بين البلدان، وبين اللغات التي كان يتقن الكثير منها. وأعمال لوس الثورية التجديدية، المحققة هذه المرة، لا تزال قائمة اليوم في فرنسا وسويسرا وألمانيا والولايات المتحدة، إضافة إلى النمسا بالطبع.