في الربع الأول من القرن الماضي، أطلق الشاعر الإنجليزي روديارد كيبلنغ (1865- 1930)، المولود في الهند والحاصل على جائزة نوبل للآداب 1907، مقولته الشهيرة: "الشرق شرق والغرب غرب... ولن يلتقيا أبداً"، وجاءت تعبيراً عن نزعة إمبراطورية استعمارية في حينه، باعتبار أن الهند في تلك المرحلة كانت مستعمرة بريطانية، وأن لكل المستعمِر والمستعمَر حضارته المختلفة عن الآخرى. غير أن الأرباع الثلاثة المتبقية من القرن نفسه والربع الأول من القرن الحالي تدحض تلك المقولة، وتثبت أن الصراع بين الشرق والغرب ليس قدراً، وأن اللقاء بينهما ممكن تحت مظلّة الإنسانية الكبرى. ولعل كتاب "حوار بين الشرق والغرب" للإسباني ريكاردو دييزـ هوشليتنر والياباني دايساكو إيكيدا، الصادر حديثاً عن الدار العربية للعلوم ناشرون بتعريب ربيع هندي، هو أحد التمظهرات الأخيرة لهذا اللقاء.
يكتسب الكتاب قيمته من أهميّة الشخصيتين المتحاورتين، وخطورة المحاور التي يخوضان فيها، وإنسانية الأفكار المطروحة وعمقها. ويشكّل درساً متقدّماً في الحوار الحضاري والثقافي الراقي بين قامتين باسقتين، تمثّل كل منهما حضارة تختلف عن الأخرى، وتتكامل معها في آن، وتلتقيان في المساحة الإنسانية المشتركة بينهما. ويجري الحوار في إطار من الاحترام المتبادل، واعتراف كل من طرفيه بمنجزات الآخر، والتحسّس الكبير بالأخطار المحدقة بالإنسانية، والحرص على اجتراح الحلول المناسبة. وبذلك، لا يعود حواراً بين مختلفين بل بين متنوّعين في إطار الوحدة الإنسانية الشاملة. وهو ما نتناوله في هذه العجالة.
طرفا الحوار
في أهمية طرفي الحوار، لا بد من الإشارة إلى أن ريكاردو دييزـ هوشليتنر عالم تربوي ومفكّر سياسي واقتصادي. يتحدر من أب إسباني وأمٍّ ألمانية، ويتقن عدة لغات. ترأس نادي روما بين عامي 1991 و2000، وتقلّب في مناصب دولية عدة، وأسّس عدة جامعات ومعاهد، وتسنم مسؤوليات كبيرة في غير منطقة من العالم ما يجعل منه مواطناً عالمياً بامتياز. أمّا دايساكو إيكيدا فهو ياباني الأصل، يرأس منظمة سوكا غاكاي العالمية البوذية التي تضم اثني عشر مليون تابع من مئة واثنتين وتسعين دولة ومنطقة حول العالم، وله أكثر من ثمانين كتاباً حول البوذية، ومساهمات عدة في السلام العالمي والتبادل الثقافي. وبذلك، لا يقل عالميّة عن شريكه في الحوار. على أن العلاقة بين الطرفين بدأت بلقاء في باريس، في عام 1991، على هامش افتتاح دار فيكتور هوغو للآداب، اتفقا خلاله على استكمال حوار سابق كان بدأه إيكيدا مع صديقهما المشترك أوريليو بيتشي، مؤسس نادي روما، ونشر وقائع الحوار في كتاب. وهو ما جرت ترجمته في عقد اثنتي عشرة جلسة حوارية بين الرجلين، تمخّضت عن اثني عشر فصلاً شكّلت محتوى الكتاب الذي صدر باليابانية وجرت ترجمته لاحقاً إلى الانكليزية، فالعربية التي تشكّل موضوع هذه القراءة.
في محاور الكتاب، تتعدد في "الحوار بين الشرق والغرب"، وتتراوح بين الخاص المرتبط بالعام من موقع التمهيد له والتفاعل معه والعام الذي يتناول قضايا ومشكلات عالمية ملحة ويحاول اقتراح الحلول المناسبة لها، وتتوزع هذه المحاور على الطفولة والثقافة والعولمة والمواطنة العالمية والحوكمة والتعليم والدين والسلام العالمي وسواها من القضايا والمشكلات العالمية، ناهيك بثلاثة ملاحق تندرج في الإطار نفسه. وإذا كان المتحاوران يتناولان في كل حلقة من سلسلة الحوار المؤلفة من اثنتي عشرة حلقة موضوعاً محدّداً، فإن هذا التوزيع الشكلي لم يحل دون أن تتداخل الموضوعات في الحلقة الواحدة، وتتكرر الأفكار، وهذا أمر طبيعي يترتب على شفهية الحوار وما يقتضيه من ارتجال وعصف ذهني وذكريات. وبهذا المعنى، قد ترد المشكلات العالمية والحلول المقترحة لها في غير فصل، وفي سياقات مختلفة. ولا ريب في أن في مثل هذا التكرار يرسّخ الأفكار المطروحة ويؤكد أهميتها.
مشكلات وحلول
في الأفكار المطروحة، تتمحور حول الأخطار المحدقة بالعالم، منذ ستينيات القرن الماضي، على الأقل، حتى تاريخه، والحلول المقترحة لها على المدى الطويل. وهو ما يتداول فيه المتحاوران في الفصول المختلفة، في إطار استراتيجيتهما المشتركة لبناء المواطن العالمي وتحقيق السلام بين الشعوب. على أن تشخيص الأخطار والحلول يختلف من فصل إلى آخر تبعاً للمحور الذي يعالجه الفصل؛ ففي الفصل الأول، على سبيل المثال، يتناول المتحاوران الأعطاب البشرية وآليات معالجتها، من منظور صديقهما المشترك أوريليو بيتشي، مؤسس نادي روما والمواطن العالمي بدوره، فيحدد الأعطاب في: الانفجار السكاني وتدمير البيئة وهدر الموارد الطبيعية والفجوة الاقتصادية بين الدول وشهوة الاستهلاك والعبث بالطبيعة.
ويحدد آليات العلاج بيقظة روحية تؤدي إلى ثورة بشرية يترتب عليها وجود قادة مسؤولين، واستخدام النمو المستدام، وترشيد الاستهلاك العالمي. وفي الفصل الثالث، ينطلق المتحاوران من تجربة الثقافة الإسبانية وما تتميز به من مميزات يمكن أن تسهم في ردم الهوة بين الشرق والغرب، من قبيل: التنوع الديني، والتعدد الوراثي، والاحترام العميق للآخر، والانفتاح على الثقافات الأخرى. وفي هذا السياق، يتوقف المتحاوران، في الفصل الرابع، عند تجربة الملك الإسباني خوان كارلوس، ونجاحه في قيادة بلاده من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وإعادة دمجها بالعالم، وتأمين الفرص المتكافئة في التعليم والتنمية، وتشكيله نموذجاً للقيادة الإنسانية المستنيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الفصل الخامس، يناقش المتحاوران تقرير "ما وراء الحدود"، الصادر عن نادي روما في عام 1992. وهو على قدر كبير من الأهمية، يحدد عناصر المشكلة في: الاحترار العالمي، وتلوث الغلاف الجوي، واستنفاد طبقة الأوزون، والأمطار الحمضية، والتصحر وتدمير الغابات، وتلوث المحيطات، والأعمال البشرية المخلة بالتوازن الطبيعي، والانفجار السكاني، وعجز الأرض عن تحمّل النمو الاقتصادي بوتيرته الحالية. ويحدد عناصر الحل في: ثورة عالمية لإنقاذ البيئة، وتعليم عريض من أجل حمايتها، واستخدام ميثاق الأرض مادة تثقيفية، والقضاء على الفقر، وتطوير القدرات المتّسقة مع الواقع الجديد، والتضامن البشري. وهكذا، نرى أن عناصر المشكلة مزمنة، وأن عناصر الحل طويلة الأمد. على أن عناصر المشكلة والحل تتخذ لها مساراً آخر، في الفصلين السادس والسابع، بتمحورها حول العولمة وإفرازاتها، فتتمظهر المشكلة في: عولمة الصراعات المحلية، عولمة العنف، شريعة الغاب الاقتصادية. ويتمظهر الحل في: ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء، تعزيز ثقافة الحوار، نشر ثقافة السلام، نبذ العنف، التربية على السلام، التناغم مع الطبيعة، التفكير محلياً والتصرف عالمياً، والحوار بين الشمال والجنوب. وتتمظهر المشكلة، في الفصل الثامن، في أحادية القيادة الأميركية للعالم. ويتمظهر الحل في عالم ثلاثي الأقطاب تشترك في قيادته أوروبا وآسيا.
التعليم والدين
يتوقف العالمان المتحاوران في الفصل العاشر عند التعليم ودوره في بناء المواطن العالمي وإرساء السلام بين الشعوب، انطلاقاً من تجربة كل منهما الغنية في هذا المجال؛ فيركّز إيكيدا على التعليم الإنساني الملتزم احترام السلام والحياة والطبيعة وحقوق الإنسان. ويركّز دييز- هوشليتنر على تكافؤ الفرص والتعليم مدى الحياة والتميّز والتعدد والحب. وغير بعيد من هذا السياق تاكيدهما، في الفصل الحادي عشر، على أهمية الدين في حياة الإنسان والحاجة إلى قفزة روحية تصالح الإنسان مع نفسه، فعبثاً تسعى البشرية إلى السلام الخارجي ما لم يتحقق السلام الداخلي في النفس الإنسانية، وهو ما يتكفل الدين بتحقيقه.