Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الماء... تعويذة الإنسان للخلاص من الآثام والدنس

منحت الأديان السماوية لهذه الهبة الطبيعية مكانة خاصة ضمن تعاليمها وتشريعاتها

موقع المغطس في الأردن (أ ف ب)

الماء مقدر لدى جميع الحضارات والشعوب لذاته وصفاته الحيوية، حتى وصلت قيمته إلى درجة التقديس لدى كثيرين على مر التاريخ، لذلك عبرت الأديان عموماً الوضعية والسماوية (الإبراهيمية)، عن بعض التجليات الخاصة بهذه الحالة ضمن تعاليمها وتشريعاتها، وذلك منذ بزوغ فجر البشرية وعبر ملايين السنين وحتى وقتنا المعاصر، لكن المفارقة الكبرى في هذا الموضوع من وجهة نظر معاصرة، تتجسد في إمكان إقناع الرعايا وأتباع الديانات والناس عامةً خصوصاً الأجيال الناشئة، بواقعية هذا الطرح الذي يتحول فيه الماء خلال لحظات إلى دواء روحي وجسدي أحياناً من خلال القراءة عليه من كتبنا المقدسة وأبرزها القرآن الكريم والإنجيل والتوراة.
المسيحية بوصفها واحدة من أكبر الديانات الإبراهيمية حملت هذه الفكرة إلى أبعاد شعبوية كثيرة، واحتفلت أخيراً بانتهاء مراسم الحج السنوي إلى موقع المغطس على الضفة الشرقية من نهر الأردن ضمن إقبال وصف بأنه نوعي وفاق بعض الأرقام المتداولة إعلامياً لحج هذا العام والأعوام السابقة، لكن المياه كما يؤكد رجال الدين من مختلف المذاهب والطوائف الذين تحدثنا إلى بعضهم وكان أكثرهم من الأردنيين المسيحيين نظراً لارتباط الموضوع بتوقيت مناسبة الحج السنوي، ليست مقدسة بذاتها، بل إن عوامل خارجية ومنها القراءة على الماء والنفخ فيه من الروح المقدسة هي التي تنجز ذلك التحول الذي يحمل هذه المادة الحيوية ضمن طبيعتها الجديدة إلى آفاق روحانية أرحب بكثير من آفاق الحياة الدنيوية والمادية، هذا ما أكده مجموعة من المواطنين المسيحين والمسلمين الأردنيين من مختلف الطوائف.

ثقافة دينية

تحدثت "اندبندنت عربية" إلى عينة من المواطنين المسيحين الأردنيين والمقيمين العرب من الديانة ذاتها زاد عددهم على عشرين شخصاً، أكثرهم من طائفتي اللاتين والكاثوليك، وإلى مسلمين سنة ورؤساء روابط مسيحية شرقية ورؤساء كنائس وفعاليات شعبية دينية أخرى في الأردن، وجاء ذلك بمناسبة انتهاء مراسم الحج إلى المغطس (مكان عماد يسوع المسيح في نهر الأردن) هذا العام، وكان لافتاً إحجامهم جميعاً عن الإسهاب في الحديث عن هذا الموضوع عبر وسائل الإعلام، حيث تتفاوت الطوائف المسيحية (وفق رجال دين مسيحيين طلب منهم توضيح هذه الظاهرة) في تطبيق هذه الشعائر الرمزية، لأنها تأخذ طابعاً عند طوائف قد يختلف عنه لدى طوائف أخرى، حتى أن رئيسة واحدة من روابط المسيحيين الشرقيين الأبرز عبرت أيضاً عن رغبتها بالإسهام في هذا الموضوع من خلال مكالمة صوتية مقتضبة وعبر هاتف شخصي لأحد أقاربها مفضلة ترك المساحة لرجال الدين المتخصصين للحديث في هذه الرمزيات المقدسة، وعبر المواطنون من خلال حديثهم المقتضب عن انطباعات شخصية وعن قلقهم من عدم تمكنهم من إيصال الصورة الحقيقية التي تعكس معاني ومضامين هذا الطقس المقدس، وهذا شأن خاص وجب علينا احترامه وتقديره.

 بدورهم مارس المسلمون هذه الفكرة ضمن تطبيقات مغايرة تجلت من خلال "الوضوء" والاغتسال بالماء للتطهر من أعراض طارئة مثل الجنابة والحيض، فيما يعد الختان في الإسلام علامة من علامات التطهير البدني للذكور، وفي هذا المضمار عبروا عن اتساع دلالات المفهوم التي يظهر قليل من تجلياتها عبر تطبيقات عملية كثيرة، حتى أن علماء الشيعة قد أسهبوا في الحديث عن "المطهرات العشرة" التي من ضمنها أيضاً إلى جانب الماء، النار التي تطهر بالاستحالة والأرض والشمس التي تطهر الأشجار وثمارها وغيرها من المطهرات المادية والعقلية.


أهم ملابسات هذا المفهوم

وأكد المتحدثون جميعاً أن رجال الدين المسيحيين وتحديداً رؤساء الكنائس ومشايخ الإسلام المعتبرين أيضاً وغيرهم من رجال الديانات التي أقرت هذا الطقس ومنهم الصابئة (المندانية) يستطيعون التعبير عن ملابسات هذا المفهوم الإعجازي في وقتنا المعاصر أكثر من غيرهم من عامة الناس لأن المفهوم واسع ودلالاته كثيرة لدرجة أن بعضها يشتبك أو يتناقض أحياناً مع روح العصر وظواهر حداثية يبدو من الصعب تبرير حدوثها حتى دينياً، لولا رحابة المفهوم الديني العام الذي نبعت منه طقوس الوضوء والحج والتطهر بالمياه عموماً، الذي يسهل تلمسه من خلال إسهاب المتدينين في الحديث عنه بعمق، إضافة إلى توضيح علاقته المباشرة مع غيره من الرموز الدينية الرئيسة المهمة.
ولعل أبرز مظاهر الاشتباك التي تقع بين المفهوم الديني وفقاً لتعاليم المسيحية والإسلام والمندائية أو غيرها من الأديان الإبراهيمية وغير الإبراهيمية التي تطبق هذا الطقس وتؤمن بتجلياته، تكمن في الواقع في سهولة الإساءة إلى هذا المفهوم والقول إنه أقرب إلى الخيال الديني وزمن السحر والخرافة منه إلى العلم والحقيقة، خصوصاً بعد تعاقب الأزمنة وصولاً إلى وقت يعتمد التفسير العلمي لكل الظواهر والتجليات الإعجازية للأشياء بعيداً من المعتقدات الشخصية، ولعل هذا ما يفسر إحجام كثيرين من أتباع جميع الديانات عن ممارسة أقسام هذا الطقس الغرائبي التي مورست قديماً على مستوى شعبي واسع تحت مفهوم التعويذة التي تعني القراءة على الماء وغيرها من طقوس مشابهة لها حرفياً، كما ورد في الديانات السماوية منذ القدم وحتى وقتنا الراهن، وبما يدلل على سبب امتناع عدد غير قليل من المسيحيين والمسلمين الأردنيين تحديداً والعرب والأجانب عموماً عن أداء هذه الطقوس أو التصريح عن رأيهم فيها لوسائل الإعلام، على رغم قرب موقع المغطس منهم وسهولة تحضير هذه التعويذات منزلياً وتداولها شعبياً حتى في زمننا المعاصر، الأمر الذي يفنده رجال دين مسيحيين ومسلمين من خلال تصريحات ومحاضرات عبر شبكة الإنترنت والقنوات الفضائية ومقاطع الفيديو في وسائل التواصل وغيرها من وسائل الإعلام.
ويؤكد بعض الرهبان أن الديانة المسيحية عملت على الرموز الدينية بعناية، وفسرتها جيداً لأتباعها ورعاياها، فالمهم ليس عدد الممتنعين عن أداء طقس الحج أو التعويذة أو عدد غير القادرين على ممارسة هذه الطقوس لأسباب متنوعة قد تكون اقتصادية أو أمنية أو اجتماعية، بل الأهم هو العبور إلى الطهارة والتخلص من الآثام روحياً وليس جسدياً، إذ يمكن (وفقاً لهم) أن يقوم الشخص بالحج ضمن بيته أو كنيسته، إن لم يتمكن من الوصول إلى ذلك المكان أو غيره من المواقع المتاحة.

 وقال أحد المتحدثين المسيحيين الذي تمكنوا من الحج إلى موقع المغطس لـ"اندبندنت عربية"، "لا تستطيع أن تقول لبعض الأشخاص في كندا وأستراليا إن عليهم القدوم وتكبد مبالغ مالية وهم غير قادرين على ذلك، مما يدفعهم إلى الاتصال بأقرباء لهم وصلوا إلى المكان من أجل جلب الماء المقدس معهم". وهذه حال المسلمين الذين لا يستطيعون الوصول إلى الكعبة المشرفة فيجلب لهم أقاربهم مياه "زمزم " هدية. أما في ما يتعلق بتفسير الإعجاز الكامن في هذه الأشياء للأجيال الناشئة فيرى بعض رجال الدين (من الديانات كلها) أنه لا داعي لأن نبرر لأبنائنا وجود هذا الطقس في وقتنا الراهن على اعتباره مخالفاً لروح العصر، إذ يمكن "من خلال التنشئة" إيصال المفهوم لهم تدريجاً.
أما في ما يتعلق بقضية زعم بعض الأديان نسبة فكرة هذا الطقس إلى تعاليمها والزعم بأن الديانات الكبرى أخذته منها، فقد أكدت مجموعة من المتحدثين عدم الحاجة أيضاً إلى البحث في أسبقية تطبيق الطقس أو التحيز في نسبته إلى جماعة أو ديانة معينة، فجميع الأديان الإبراهيمية مارسته، بل يمكن القول بوجود مفهوم المياه المقدسة منذ آلاف إن لم يكن ملايين السنين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


المرأة والتطهير من الآثام

في معرض حديث الشهود، جاءت المرأة عموماً بوصفها أماً، والمرأة الأردنية خصوصاً، ممثلةً بدور الأم أو المرأة العصرية العاملة، أتت ضمن سياق يختلف تماماً مع ما يسوقه بعض الناس من اتهامات للأديان بظلم النساء وتعزيز سلطة الذكور في المجتمع بطريقة غير مباشرة، وتحديداً من خلال مبدأ التطهير من الآثام الذي استغله المجتمع الذكوري لقمع الإناث وصولاً إلى الرجم والتعذيب والقتل بداعي عدم صون العرض، وتجنيات أخرى من هذا النوع، فأكد بعض هؤلاء أن المسيحية والإسلام رفدا الحداثة التي ينسب إليها أكبر الفضل بإنصاف المرأة بكثير من الأفكار والإسهامات الثقافية، ولعل هذا يتقاطع مع ما عرض له رئيس المفوضية الأوروبية الثامن، جاك ديلور، الذي قال إن "هوية أوروبا لها ثلاثة أبعاد هي الديانة المسيحية والقانون الروماني والفلسفة اليونانية"، بمعنى أن "الحداثة أُخذت من الثقافة الدينية" ومنها المسيحية. كما أن المسيحية طورت بعض جوانب الثقافة الشرقية، خصوصاً في ما يخص تحرر المرأة، إذ يمكن النظر إلى حال المرأة قبل المسيحية وبعدها خصوصاً في فترة احتقار المرأة من قبل جهات متعددة منها القبليات القديمة وحتى بعض الممارسات الكنسية الخاطئة، معبرين عن مشاعر الاعتزاز بالمرأة وخصوصاً بعض الشخصيات النسائية الأردنية البارزة في مجال التعليم والإعلام والثقافة.

عيد الغطاس هذا العام

وعلمت "اندبندنت عربية" من مصادر مسيحية مطلعة أن بعض الأرقام التي وردت في أخبار سابقة وتناقلها مصورون ومراسلون لوكالات أنباء عالمية تخص تحديداً عدد حضور قداس الحج في "المغطس" (عيد الغطاس) شرق نهر الأردن هذا العام، تراوحت ما بين 5000 و6000 زائر، إلا أنها لم تكن دقيقة، فسجلات الكنائس التي حضر رؤساؤها المشاعر كاملة تشير إلى أن العدد كان أكبر من ذلك وبلغ في أيام زيارة طائفة واحدة 10 إلى 11 ألف عابر، إضافة إلى العابرين من طوائف أخرى.
ونوه أحد رؤساء الكنائس التي تمثل طائفة وازنة في الأردن وبلاد الشام بأن "فتح الطريق أمام حجاج لبنان وسوريا سيضاعف الأرقام، فهناك ما يقرب من مليون ومئتي ألف من اللبنانيين المتشوقين لهذه الرحلة"، متمنياً أن "تزول قريباً كل مشاعر الخوف والعوائق المالية والأمنية والسياسية، وأن يفتح الطريق كذلك أمام الحج في الأراضي المقدسة"، واصفاً "العوائق الاقتصادية بأنها تأتي بالدرجة الأولى ضمن قائمة العوائق حالياً".  


ارتباط التطهير بالمياه والطبيعة

نشأت الحضارات كلها تقريباً من الماء، لذلك ارتبط التطهير بواسطة المياه بالمكان والطبيعة بشكل وثيق، حتى ما تعلق بالحضارات الصحراوية قليلة المياه، حتى أن بعض الديانات السماوية مثل الإسلام ربطت تشريعياً بين قلة الماء وأداء الفروض من خلال الوضوء بالتراب الطاهر إذا استحال الوصول إلى الماء (التيمم)، فيما عد الإسلام سقيا الماء من أعظم الصدقات الجارية، ووصلت قيمة الماء دينياً في الإسلام إلى تأكيد علماء إمكانية التداوي والاستشفاء من خلال مياه "زمزم" فيما المخيلة الدينية الإسلامية ذهبت للتعبير عن بعض صفات الجنة من حيث كونها مليئة بالأنهار الجارية وأشهرها نهر الكوثر.
أخيراً، يذكر أن 71 في المئة من سطح الأرض مغمور بالمياه، لكن 96.5 في المئة من هذه النسبة هي مياه البحار والمحيطات غير العذبة، ما يعني أن ما نسبته ثلاثة في المئة فقط ماء عذب، منها وفق دراسات على شبكة الإنترنت اثنين في المئة مجمدة في القطبين الشمالي والجنوبي، بمعنى أن واحداً في المئة مما تبقى من مياه الكرة الأرضية صالحة للشرب، وفي هذا السياق أعلنت إحصاءات للأمم المتحدة أن ما يقرب من مليار شخص في زمننا يفتقرون إلى الوسائل للوصول إلى مصادر آمنة لمياه الشرب.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات