استقر سعر صرف الدولار الأميركي الرسمي عند 24.7 جنيه مصري بينما بلغ سعر الصرف غير الرسمي قرابة 31 جنيهاً على رغم أخبار إيجابية عدة كان من المفترض أن تسهم في تدعيم سعر صرف العملة المحلية، إذ ارتفع احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي للشهر الثالث على التوالي، وأعلن وزير المالية المصري محمد معيط عن قرب تسلم الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي ولكن التوقعات السلبية للمتعاملين المصريين أبقت الجنيه عند أدنى مستوى في تاريخه.
وارتفع صافي الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية في مصر خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بنحو 121 مليون دولار أميركي في زيادة للشهر الثالث على التوالي ليصل إلى 33.532 مليار دولار، بحسب بيان صادر عن المركزي المصري، ومن ناحية أخرى أدرجت مصر على جدول أعمال صندوق النقد الدولي في 16 ديسمبر (كانون الأول) للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، مما يفتح الباب للحصول على قروض وتسهيلات من مصادر أخرى بقيمة 6 مليارات دولار.
"النقاشات الموسعة حول سعر صرف الدولار تزيد التوقعات بالارتفاع، بالتالي تحدث مضاربات على سعره مما يرفع قيمته بالفعل"، تقول أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة عالية المهدي لـ"اندبندنت عربية"، "نحن نضر بأنفسنا وبسعر صرف عملتنا عندما نتحدث كثيراً وبلا خبرة عن سعر صرف عملتنا، علينا أن نتوقف عن التصريح والإفتاء بلا علم".
وفقاً لنظريات الاقتصاد الكلاسيكي يتحدد السعر العادل لصرف أي عملة بين بلدين وفقاً لمحددات عدة هي الفروق في أداء النمو الاقتصادي ومعدلات التضخم ومتوسط أسعار العائد على الودائع والاستثمارات وعجز (فائض) ميزان المدفوعات والدين العام.
إضافة إلى هذه العوامل هناك عامل مهم أصبح أكثر تأثيراً خلال الأعوام الماضية وهو توقعات المتعاملين ونقاشاتهم التي لا تعتمد بالكامل على نظيرتها في بنوك الاستثمار للسعر العادل لصرف أي عملة، إنما على تحليلهم وحدسهم الخاص.
تحجيم تحسن الاقتصاد المصري
في دراسة نشرها موقع الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) في سان فرانسيسكو عام 2008 بعنوان "التوقعات وأسعار الصرف الحقيقية والسياسة النقدية"، يتضح أن تأثير "الأخبار" المتداولة في أسعار الصرف ليس تأثيراً محدوداً، خصوصاً مع تحول سعر الصرف إلى عامل مهم في تقييم "الأصول"، وليس مجرد عامل في تحديد أسعار تداول البضائع والخدمات بين الدول.
والعملات الأجنبية بالفعل جزء أساسي من أصول الشركات والدول، ويمثل توافرها على هيئة "احتياطي نقدي" علامة على قوة الدول والمؤسسات، وفقاً لمؤسسات التصنيف الدولية.
وتظهر الدراسة أن التوقعات يمكن أن تؤدي إلى تقلبات كبيرة وطويلة الأمد في أسعار الصرف لا تتوافق مع أي تغييرات حالية في تداول السلع أو التكنولوجيا أو غيرها من محددات قوة الاقتصاد وقوة العملة التابعة له.
وتشرح الدراسة طريقة التغير عبر مراحل عدة، بحيث تنتشر التوقعات بارتفاع قيمة عملة، فيصعد التقييم المستقبلي لقيمة هذه العملة وقيمة الأصول المرتبطة بها، فيشعر المتعاملون بـ"أثر الثروة".
و"أثر الثروة" نظرية اقتصادية سلوكية تشير إلى أن الناس ينفقون أكثر مع ارتفاع قيمة أصولهم، إن إن المستهلكين يشعرون بمزيد من الأمان والثقة عندما تنمو قيمة منازلهم أو محافظهم الاستثمارية أو احتياطاتهم من العملات الأجنبية، أي إنهم يشعرون بأنهم أكثر ثراء حتى لو كان دخلهم وكلفهم الثابتة من دون تغيير.
هذه النظرية تنفي تماماً نظرية العالم الأميركي الحاصل على نوبل في الاقتصاد ميلتون فريدمان، بأن ارتفاع سعر صرف العملة يؤدي إلى تراجع أداء الدول من حيث ميزان المدفوعات.
على العكس، وفقاً لنظرية "أثر الثروة" ستؤدي توقعات انخفاض سعر صرف العملة إلى زيادة الاستثمار في العملات الأجنبية الأخرى، بالتالي تراجع أداء الدول من حيث ميزان المدفوعات. وعلى رغم التدني الكبير في قيمة الجنيه هذا العام، فإن عدداً من المؤسسات يتوقع هبوطاً أكبر، فقد ارتفع سعر صرف الدولار أمام الجنيه بحوالى 56 في المئة منذ مارس (آذار) بعدما خفض البنك المركزي قيمة العملة مرتين.
حيرة المصريين بين الدولار والذهب
يستثمر المصريون في الدولار عبر طريقين رئيسين، أولهما الادخار به وثانيهما الذهب "المقوم بالدولار".
وخلال أول شهرين من السنة المالية 2022-2023، يوليو (تموز) وأغسطس (آب) 2022 ارتفعت قيمة الودائع بالعملات الأجنبية بما يعادل 35.9 مليار جنيه (1.46 مليار دولار) بمعـدل زيادة 4.2 في المئة وهو ضعف معدل زيادة الودائع غير الجارية بالعمـلة المحلية.
وقفزت حصة الودائع بالعملة الأجنبية من إجمالي الودائع خلال ستة أشهر فقط إلى 14.8 في المئة خلال أغسطس مقارنة بنحو 12.96 في المئة خلال فبراير (شباط) الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكلما زادت التوقعات بارتفاع سعر صرف الدولار زادت معدلات الادخار بالدولار (الدولرة)، وكلما صعد الطلب على الادخار بالعملة الأجنبية صعدت احتمالات ارتفاع سعر صرف الدولار، مما يخلق دائرة جهنمية من الزيادة المستمرة في أسعار صرف الدولار مقابل الجنيه.
وعن الطريقة الثانية للاستثمار في الدولار، يقول عضو شعبة الذهب والمجوهرات في اتحاد الغرف التجارية رفيق عباسي في تصريحات سابقة إلى "اندبندنت عربية"، إنه السبب الرئيس للارتفاع التاريخي في أسعار المعدن الأصفر بمصر، إضافة إلى سعر الدولار الأميركي في الأسواق الموازية (السوداء)"، موضحاً أن "تجار الذهب يقيمون الأسعار وفقاً لسعر الدولار في السوق الموازية حيث تخطى حاجز 30 جنيهاً تقريباً مقابل كل دولار".
وقال رئيس شعبة الذهب والمعادن الثمينة في غرفة الصناعات المعدنية باتحاد الصناعات إيهاب واصف إن "قوى العرض والطلب بشكل عام غير مؤثرة في أسعار الذهب إلا أن العام الحالي، خصوصاً منذ الحرب الروسية في أوكرانيا كان لتلك القوى عامل كبير في تلك القفزات السعرية مع الندرة، علاوة على التعويم"، موضحاً أن "هناك ندرة في حجم المعروض من الذهب مقابل ارتفاع في حجم الطلب أخيراً".
تقييم الأخطار يلتزم بسعر صرف أعلى للدولار
بدوره يرى رئيس إدارة الأخطار في إحدى شركات التمويل متناهي الصغر بالقاهرة هشام إبراهيم أن "النقاش المستمر حول سعر صرف الدولار يدفعه إلى الزيادة أكثر، وهذا ما نضعه في الحسبان عند إقرار سياسات الائتمان وتجنب الأخطار المستقبلية، واحتلت جملة (سعر الدولار) قمة قائمة "عمليات البحث الأكثر رواجاً لعام 2022"، الصادرة عن محرك البحث "غوغل".
يضيف، "عندما يتوسع النقاش حول أي ظاهرة اقتصادية ترتفع قابلية الناس لتصديقها والعمل وفق التوقعات بحدوثها، وفي الحالة المصرية نشهد توسعاً كبيراً في نقاش أمرين، ارتفاع سعر صرف الدولار والركود".
ووفق خبرة امتدت لـ15 عاماً في دراسات السوق والأخطار، يذهب إبراهيم إلى أن توقعات العاملين بالسوق تصح بنسبة 80 في المئة أو أكثر، "إذا توقع العاملون بالتجزئة انخفاضاً في المبيعات أو توقع العاملون بالصرافة ارتفاعاً في سعر الصرف الأجنبي، نلتزم توقعاً مقارباً لأرقامهم بنسبة 80 في المئة ونلتزم بهذه التقديرات عند تقييم المحافظ المالية والمتعاملين، هذه النسبة تضمن حماية أعمال الشركات المصرية من التقلبات".
وتراجع مؤشر مديري المشتريات الصادر عن وكالة "إس أند بي" على نحو كبير من 47.7 نقطة في أكتوبر (تشرين الأول) إلى 45.4 نقطة خلال نوفمبر، وهي ثاني أدنى قراءة منذ يونيو (حزيران) 2020، لتمتد بذلك سلسلة الانكماش في الاقتصاد غير النفطي في مصر (دون 50 نقطة بالمؤشر) إلى عامين.
وعن مصادر الحصول على المعلومات يعتمد إبراهيم على ثلاثة مصادر، "أولها قسم تطوير الأعمال الذي يرتبط عمله بالتقارير والقراءات الأكثر عمقاً، والثاني فريق التسويق والتواصل الاجتماعي وهم متابعون رائعون للنقاشات التي يدخل فيها المجتمع، والمصدر الثالث والأهم هو القسم التجاري، ونطلق عليه ’صوت السوق‘ وهؤلاء يتعاملون بشكل مباشر مع المحال الصغيرة، وهم الأقرب للواقع".
ولا تقتصر التوقعات السلبية على الشق المحلي، فمصر تعد بين أقرانها من الدول النامية، صاحبة الاقتصاد الأكثر عرضة لأزمة عملة خلال الـ12 شهراً المقبلة، وفقاً لبنك "نومورا هولدينغز" الذي توقع في وقت سابق موجات لبيع العملة. أما "إتش إس بي سي" (HSBC) الذي رجح سابقاً أن يستقر الجنيه حول 24 للدولار، فيتصور مبدئياً الآن تحركه تجاه 26 جنيهاً للدولار، وهو ما ينطوي على هبوط يناهز 5.5 في المئة عن المستويات الحالية.