دأب منتدى أصيلة الدولي في المغرب منذ أربعة عقود على تنظيم مهرجانه السنوي على مدار ثلاثة أسابيع كل سنة، محتفياً بأطياف مختلفة من الثقافة والفن، وفاتحاً نقاشات موسعة حول التغيرات العالمية. فالمنتدى يجمع في برامجه الكثيرة بين الأدب والتشكيل والموسيقى والفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع. وتحرص الأمانة العامة للمنتدى في كل دورة على استقدام أسماء بارزة في مختلف المجالات والمحاور التي تتناولها ندوات المهرجان.
آثر منتدى أصيلة أن يخصص ندوة كبرى في مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية حول راهن الشعر في بلدان الجنوب، متطرقاً بذلك إلى قضايا أساسية في جغرافيات هذا النوع الأدبي، من قبيل المحلية وخطاب ما بعد الاستعمار والتلاقح الثقافي، وطبيعة الوشائج التي تربط بين شعريات بلدان الجنوب، سواء في أفريقيا أو العالم العربي أو أميركا الجنوبية.
استمرت الندوة يومين متتالين 30 و31 أكتوبر (تشرين الأول)، وتخللتها قراءات شعرية بثلاث لغات، العربية والإسبانية والفرنسية. وتعاقب على مداخلات ندوة "الشعر العربي وشعريات عالم الجنوب" نقاد ومترجمون من عدة بلدان: السنغالي أمادو لامين صال واللبناني شوقي بزيع والكولومبي خوان بابلو روا والسوري نوري الجراح والعراقي عبدالله إبراهيم والسوري صبحي حديدي والعراقي فاضل السلطاني والتونسية جميلة الماجري والموريتاني محمد ولد إدومو، إضافة إلى آنا لوتشيا دي باستوس من فنزويلا وأحمد الشهاوي من مصر وجوسلين ميشيل ألمايدا من أوروغواي وترينو كروز من جبل طارق وعبدالرحيم الخصار من المغرب.
جغرافيا فكرية
واستطاع المنتدى أن يجمع في ندوته الكبرى أسماء تنتمي إلى جغرافيات وحساسيات فكرية مختلفة. وتساءل محمد بنعيسى رئيس منتدى أصيلة في افتتاح الندوة عن مدى حضور الشعر العربي خارج العالم العربي، وعن تأثير السلطة والسياسة الدولية في طبيعة هذا الحضور، مؤكداً أن السلطة القوية حين تريد لثقافة معينة أن تحضر عالمياً، فإن ذلك يحدث، ملمحاً إلى أن آداب الجنوب موكول لها أن تدافع عن نفسها بنفسها وتبحث لها باستمرار عن مواقع وفرص في سياق التدافع العالمي نحو مراكز الضوء. وتساءل الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين، منسق الندوة، عن راهن الشعر اليوم في العالم العربي وبلدان الجنوب، مستقرئاً تاريخه، ومحاولاً الوقوف عند نقاط التقاطع والتلاقح. واستغرب شرف الدين حديثنا الدائم في الأوساط الثقافية عن تأثير الأدب الغربي على نظيره العربي، في حين نغض الطرف عن التأثير الأفريقي.
وأكد الناقد العراقي عبدالله إبراهيم وجود قطيعة بين الأدب العربي وأدب الجنوب، وعزا ذلك للسياق الكولونيالي. ولمح إلى أن ما نعرفه من أدب أفريقيا وأميركا الجنوبية ضئيل جداً، ولا يعكس الغزارة الأدبية في هذه البلدان، ذلك أن القارئ العربي يعرف في الغالب الأسماء القليلة المترجمة والمتداولة. وتساءل الشاعر السوري نوري الجراح عن مدى معرفة الشعريات العربية بذاتها قبل انفتاحها على شعريات أخرى من جغرافيات بعيدة. وعن لغة الكتابة أشار الجراح إلى ما صارت إليه القصيدة العربية اليوم من تشابه وتشابك، بحيث تكاد نصوص الشعراء في زمننا الراهن يشبه بعضها بعضاً. فهي بحسب الشاعر السوري مبنية في غالبها على التثاقف الناجم عن عملية القراءة بدل التجربة الشخصية.
ودعا الناقد المصري حسين حمودة إلى الانفتاح أكثر على الأدب الأفريقي في الأساس واستثمار أدب السود لما يتميز به من خصوصية محلية ومن ثراء في اللغة وفي تجارب الحياة، بينما توقف الشاعر السنغالي أمادو لامين صال عند مشكلة القطائع في المنهجيات التربوية بين بلدان العالم العربي وبلدان أفريقيا السوداء، إذ ليس ثمة شاعر عربي مدرج في مناهج التعليم بالسنغال وبلدان الجوار. وأكد أمادو أن هذا العطب يمكن إصلاحه مع الأجيال الجديدة، كي لا تتوقف المعرفة الأدبية في البلدان التي لها سطوة سياسية، في حين يستمر تجاهل آداب البلدان العريقة والمتقاربة جغرافياً وتاريخياً.
ما بعد الإستعمار
وعاد الناقد السوري صبحي حديدي إلى نظريات خطاب ما بعد الاستعمار لاستقراء مظاهر الحداثة في شعر بلدان الجنوب، في ظل حداثة مركزية غربية سبق لها أن تورطت مع المشاريع الكولونيالية. وتعقب حديدي تدرج الحداثة في الآداب النامية واقترانها بالحركات التحررية واتصالها وانفصالها عن الآداب المركزية.
وتوقف الناقد ترينو كروز من جبل طارق عند المفارقات الثقافية بين شعراء الجنوب أنفسهم، داعياً إلى ضرورة بذل مجهودات من بلدان أوروبا وأميركا لفهم وأدب الجنوب واستيعابه على نحو أفضل، بعيداً من كل تصنيفات ذات طابع ترتيبي. وبدا لكروز أن الشعر ينبغي في النهاية أن يكون فوق كل الجغرافيات، معتبراً أن الحرية معيار أساسي للرفع من قيمة الآداب المحلية.
وفي سياق الاحتفاء بالشعر الأفريقي تم منح الشاعر الكاميروني بول داكيو جائزة تشيكايا أوتامسي للشعر الأفريقي التي سبق أن حازها شعراء معروفون من القارة السمراء منذ انطلاقها سنة 1989.
ويعتبر الشاعر الفائز بول داكيو من الأسماء الأساسية في الشعر الكاميروني والأفريقي، بدأ نشر أعماله الأدبية مع مطلع السبعينيات، ونشط لاحقاً في مجال النشر.
ومنح المنتدى جائزة مخصصة للشباب العرب تحمل اسم الشاعر العراقي بلند الحيدري، نالها في الدورة الحالية الشاعر المغربي عمر الراجي والشاعرة المصرية نهاد زكي.
الفلسفة ومشكلات العالم
وإذا كان الشعر قد أخذ حيزاً كبيراً ضمن منتدى أصيلة، فإن الوضع العالمي شكل هاجساً كبيراً لدى إدارة المنتدى، فتم تنظيم ندوات تناولت مواضيع راهنة من قبيل: الخليج العربي بين الشرق والغرب، تأثير الطاقة على التوازنات السياسية والاقتصادية الدولية، النظام العالمي بعد حرب أوكرانيا. وقد دعي إلى هذه الندوات عدد كبير من السياسيين والمحللين وخبراء الاقتصاد.
وارتأى منتدى أصيلة أن يشرك الأطفال في فعاليات دورته الجديدة، من خلال ورشات الكتابة والرسم، وخصص ورشة مسرحية للنساء، كما تم تخصيص لقاء مع الكاتب التونسي حسونة المصباحي من أجل تقديم كتابه الجديد "الرحلة المغربية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن إحدى أبرز محطات المنتدى لهذا العام كانت لحظة تكريم المفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي، أحد أبرز دارسي الفلسفة الحديثة في العالم العربي. ألف بنعبدالعالي نحو 35 كتاباً في الفكر الفلسفي المعاصر والتاريخية والعقلانية والحداثة والهوية والميتافيزيقا والترجمة. ويحسب له اشتغاله الدائم على تبسيط النظريات وتقريب الفلسفة إلى القارئ. وشارك في الندوة التكريمية الناقدان عبدالفتاح كيليطو وكمال عبداللطيف والكاتب محمد الأشعري، والمترجم محمد آيت حنا، والأكاديميان سعيد بنسعيد العلوي ومحمد الحيرش، والإعلاميان عبدالعزيز كوكاس ولحسن العبسي والمترجم والكاتب المعطي قبال والباحثان محمد المصباحي وعبدالجليل طليمات، فضلاً عن المفكر الموريتاني عبدالله ولد باه.
وعلى مدار أيام المنتدى الدولي في أصيلة وموازاة مع المعارض الفنية الجماعية والفردية، يتم تنظيم مشاغل فنية للحفر والليتوغرافيا والصباغة وغيرها من الفنون المرتبطة بالتشكيل، أسهم في تنشيطها فنانون من المغرب وسوريا وإسبانيا واليابان. وأسهم فنانون موسيقيون من المغرب والإمارات وإسبانيا والبرتغال وهنغاريا في إحياء سهرات موسيقية وغنائية في فضاءات تراثية بمدينة أصيلة.