هل هي معركة المئة عام بين فرنسا وبريطانيا قد اندلعت على أرض الجزائر؟
ثمة في الأفق حرب لغوية حامية الوطيس في الجزائر! فيها مدافع الشعبوية وميليشيات الحشد السياسي وضحيتها المدرسة؟
لقد بدأت طلائع حرب لغوية جديدة تلوح في الأفق والجزائر لم تغلق بعد ملف حرب "التعريب" المدمرة، التي بدأت مطلع سبعينيات القرن الماضي بنكهة إخوانية دينية، كان المقصود منها "أخونة" المجتمع الجزائري من خلال "أخونة" المدرسة. ولم تكن هذه الحرب حباً ولا دفاعاً عن اللغة العربية التي كتب بها المعري وابن رشد والراوندي والمتنبي وأدونيس ومحمود درويش.
هجم إخوان عبد الناصر على المدرسة الجزائرية وبتواطؤ مع حراس المعبد في المنظومة الحاكمة آنذاك وعلى رأسها الرئيس هواري بومدين، الذي كان أزهرياً حتى ولو كان يرفع شعارات اشتراكية، التي كانت موجة العصر، والتي أصبحت لاحقاً "اشتراكية إسلامية".
وما إن خفتت حرب التعريب بعد تخريب المدرسة الجزائرية، حتى دخلت البلاد، في السنوات القليلة الأخيرة، في حرب لغوية أخرى، هذه المرة حول اللغة الأمازيغية التي جرت دسترة وجودها وأصبحت بالتالي "لغة وطنية ورسمية"، كما نصّ على ذلك الدستور الجديد لعام 2016. ومرة أخرى اشتعلت نيران الحرب داخل المدرسة الجزائرية، إذ ارتفعت بعض الأصوات متحفظة أو رافضة أن يدرس أبناؤها هذه اللغة، وهي أصوات مدفوعة من قبل قوى سياسية ذات توجه عنصري شوفيني، وبحس إسلاموي متخف برداء "وطنياتي". وفي هذه الحرب حول اللغة الأمازيغية فتحت جبهة ثانية حول "الحرف"، الذي يجب أن يعتمد في كتابة هذه اللغة الوطنية الرسمية الثانية للبلاد، حرب بين المطالبين بكتابتها بالحرف اللاتيني والمطالبين بكتابتها بالحرف العربي وأولئك المطالبين باعتماد حرف التيفيناغ وهو الحرف الأصلي للغة.
يجب الاعتراف بأن المناضلين الأشداء الذين قادوا معركة استرجاع اللغة الأمازيغية منذ الاستقلال، قطعوا شوطاً كبيراً في كتابتها بالحرف اللاتيني، وقد أنشأ بعض علمائهم في اللسانيات والبيداغوجيا قواميس ومعاجم كثيرة سواء فردية اللغة أو مزدوجة اللغة أو ثلاثية اللغات، كما قطع بعض المترجمين الذين اعتمدوا الحرف اللاتيني أشواطاً مهمة في هذا الباب، فترجموا أعمالاً أدبية وازنة لكثير من الأدباء مثل "العجوز والبحر" لهمنغواي و"هاملت وروميو وجولييت" لشكسبير و"النبي" لجبران خليل جبران و"الغريب" لألبير كامو و"الأمير الصغير" لسانت إكزوبيري ولغيرهم. وقطعت الرواية الأمازيغية بالحرف اللاتيني مساراً مهماً، وبعد كل هذا المسار ترتفع أصوات كانت إلى عهد قريب خصماً لهذه اللغة، ولعرقلة مسار تعميمها طالبت بكتابتها بالحرف العربي.
وما كاد الإعلان عن إنشاء "الأكاديمية الجزائرية للغة الأمازيغية"، وصدور المرسوم الرئاسي لتشكيلة أعضائها ورئيسها، بحسب ما نص على ذلك الدستور، مع كثير من الانتقادات على طريقة اختيار الأعضاء التي خضعت لعامل السياسة والتمثيل الجهوي أكثر من احترامها للبعد العلمي للأسماء التي تضمنتها القائمة الرئاسية، حتى انطلق الحراك الوطني وخرج الشارع في 22 فبراير (شباط) ليوقف كل شيء ويؤجل كل شيء، واندلعت حرب أخرى حول العلم الأمازيغي الذي رفع في التظاهرات، وهي حرب لغوية وسياسية بالأساس.
وفي خضم الحراك الذي يدخل جمعته العشرين، وتبدل قوى الصراع السياسي في أعلى هرم السلطة، اندلعت حرب لغوية أخرى في الجزائر، والمتمثلة في الدعوة إلى تدريس اللغة الإنجليزية محل اللغة الفرنسية.
والحقيقة أن دعوة تعويض الفرنسية بالإنكليزية في المدرسة ليست بجديدة، فقد حاول البعثيون والعروبيون التقليديون فرضها في مرحلة معينة، لكن بمجيء الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم، والذي أول ما قام به على مستوى الرسائل "اللغوية" المشفرة، هو اعتماده اللغة الفرنسية في كثير من أحاديثه الرسمية وشبه الرسمية، واعتماد الفرنسية في بعض خطبهم في المحافل الدولية، وهو الواقع الذي جعل هؤلاء الانتهازيين والوصوليين يتراجعون عن مطالبهم.
وها هي هذه القوى السياسية المحافظة والقريبة من التيار الإسلامي والتيار الوطني التقليدي تعود مرة أخرى للواجهة السياسية والبيداغوجية مستغلة بعض الإيحاءات السياسية الشعبوية التي ترفع شعارات مناهضة للغة الفرنسية والقادمة من بعض الأطراف التي تمسك بزمام الأمور في هذه المرحلة.
ويعتقد دعاة تدريس الإنجليزية بديلة عن الفرنسية بأن هذه اللغة، أي الإنجليزية، هي البوابة السحرية إلى "التقدم"، وأنها البساط الطائر نحو "العلم" الذي سيوصل الجزائر إلى مصاف الدول المتقدمة. لقد فات هؤلاء بأن هناك العديد من الدول الأفريقية الغارقة في التخلف تعتمد هذه اللغة الإنجليزية لغة "رسمية" ولغة "التربية والتعليم" مثل (نيجيريا، السودان، كينيا، أوغندا، غانا، مدغشقر، الكاميرون، زمبابوي، رواندا، سيراليون، ليسوتو، بوتسوانا...)، وهي دول لم تخرجها الإنجليزية من الحروب ولم تخلصها الإنجليزية من المجاعات والأمراض والتخلف والفقر والعنف ولا أن تخلص هذه الطبقة السياسية الأفريقية الحاكمة من الفساد والرشوة والحروب والقبلية والتبعية لأسياد أوروبيين أو أميركيين.
منذ 60 سنة تقريباً وهو عمر الاستقلال، والجزائري يتباكى أمام حائط اللغة، تارة على اللغة العربية وتارة ثانية على الأمازيغية وثالثة على الفرنسية، واليوم نصبوا حائط مبكى جديداً هو الإنجليزية، يبكي اللغة وهو غارق في تخلف أو في حلم ليلة صيف!.
أعتقد أن إحلال اللغة الإنجليزية محل اللغة الفرنسية في المدرسة الجزائرية سيكون كارثة أخرى على التعليم، فنحن وعلى الرغم من العلاقة التاريخية، وما تتميز به من توتر مع اللغة الفرنسية، لم نتمكن من توفير الشروط اللازمة والمهنية والبيداغوجية السليمة لتدريسها التدريس الأمثل للجيل الجديد، فما بالك بالإنجليزية؟
إن إحلال الإنجليزية محل الفرنسية هي دعوة مُغامرة سياسياً وبيداغوجياً، تشبه تلك التي أطلقها في سبعينيات القرن الماضي أصحاب "التعريب" الفوري والذين كانوا سبباً في ما لحق المدرسة الجزائرية اليوم من كوارث.
ويجب الاعتراف وبشجاعة علمية وثقافية، ومن دون شعبوية سياسية فارغة، بأن اللغة الفرنسية في الجزائر حالة تاريخية استثنائية، على المستوى الثقافي والديمغرافي، فهناك بحسب الإحصاءات الجديدة، غير الرسمية، أكثر من 10 ملايين جزائري يستعملون هذه اللغة في معاملاتهم الاقتصادية والثقافية والفنية والسياحية والخدماتية واليومية.
إن الجالية الجزائرية المقيمة بفرنسا أو بكندا "الكيبك" الفرنسي والتي تستعمل اللغة الفرنسية، يقارب عددها خمسة ملايين نسمة، إحصاءات غير رسمية، وأعتقد أن هذا يعدّ رأسمالاً بشرياً مهماً يجب الرهان عليه من أجل اقتصاد جديد لجزائر جديدة، إنه رأسمال بشري وثقافي واقتصادي يمثل جسرنا الصلب نحو الآخر.
لا أحد ينكر بأن الجزائر تعد الدولة الفرانكفونية الأولى بعد فرنسا، على الرغم من أنها ليست عضواً في "المنظمة الدولية للفرانكفونية"، وعلينا الاعتراف أيضاً أن ما ينتجه الجزائريون على مستوى الآداب والسينما والمسرح والفنون الأخرى باللغة الفرنسية يعتبر من أهم الإنتاجات الإبداعية بهذه اللغة وفيها، ومن جميع الأجيال، وفي هذا الإنتاج الفكري والأدبي والفني ومن خلاله يجري التسويق لصورة الجزائر في العالم الأوسع، فمن اللغة الفرنسية تحصل الترجمة إلى لغات العالم.
إن اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية التنويرية العقلانية ليستا ملكاً للنظام السياسي الفرنسي، فاللغة الفرنسية كما الثقافة الفرنسية (فولتير وسارتر وبودلير ورامبو وديريدا وألتوسير وزولا...) هما مكسب إنساني كما هي الثقافة واللغة الألمانية والإنجليزية والعربية وغيرها. التي تبدع فيها نخب في شتى الميادين الأدبية والفنية والعلمية ومن شتى جهات الأرض.
إن الجزائري لا يتعلم الفرنسية التي يفتح عينيه عليها، بمستويات متفاوتة، في الإعلام ومع سائق التاكسي والبقال والوزير والجار والأخ والعم والخالة المقيمين بفرنسا أو بكندا، ولا توجد عائلة جزائرية واحدة لا تملك قريباً على الأقل في فرنسا، والمثقف الجزائري لا يتعلم هذه اللغة ليقرأ بها الفكر الفرنسي وحده، بل ليقرأ بها أيضاً الفكر الإنساني المترجم إلى هذه اللغة، وهي ترجمات احترافية ومحترمة ومتواترة. فبالفرنسية قرأت النخب الجزائرية غالبية الثروات الفكرية العالمية الألمانية والأميركية والروسية واليابانية والصينية وغيرها.
والذين يحاربون الفرنسية في المدرسة الجزائرية ينسون أن اللغة الإنجليزية موجودة في هذه المدرسة وهي اللغة الثالثة، ويجري تدريسها بشكل طبيعي ابتداء من السنة الثانية متوسط وبحجم ساع متميز أيضاً، ويجب الحفاظ عليها ودعمها.
إن الحثّ على تدريس الإنجليزية شيء إيجابي، خصوصاً في ما يتعلق بالتخصصات الدقيقة، لكن النوايا الأيديولوجية التي تنام خلف هذه الدعوة وهي تأجيج الفتنة في المدرسة الجزائرية هذا هو المثير للقلق، أعتقد أن التخصصات الدقيقة لا تحتاج إلى لغة شكسبير بل إلى لغة تقنية قائمة على المفاهيم والعلامات وكل متخصص في حقله يستطيع أن يتعلمها في ظرف زمني قصير جداً.
يجب أن نفرق ما بين اللغة الإنجليزية كلغة تواصل، وهذا شيء مهم بالنسبة للمتخصصين، وواقع اللغة الفرنسية في الجزائر كوجود ثقافي وسوسيولوجي يومي، وكنافذة للانفتاح على العالم المعاصر الذي يحيط بنا فلسفياً وأدبياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً.
وإذا كان منطق ومنطلق دعاة تدريس اللغة الإنجليزية بديلاً عن الفرنسية، هو مناهضة فرنسا الاستعمارية كما يروجون، فليعلموا بأن الإنجليزية هي لغة الإمبريالية ولغة أميركا التي حطمت العراق وخربت سوريا، والتي أعلنت القدس عاصمة لإسرائيل على الرغم من اعتراض العالم الأوروبي بأكمله بما فيه فرنسا.
الجزائر اليوم ليست مستعمرة فرنسية، إنها مستعمرة للتخلف الذي يمارسه أبناؤها ضدها وفيها، يمارسه ضد بعضهم البعض.