عندما ذاع نبأ اعتقال الصحافي، إيفان غولونوف، في وقت متأخر من صباح السابع من يونيو (حزيران) قال المحررون في صحيفة ميدوزا الإلكترونية حيث يعمل، إنهم متأكدون من ارتباط الاعتقال بتحقيق سري كان غولونوف يعدّه في ذلك الوقت.
صار اليوم في إمكان الاندبندنت أن تكشف فحوى ذلك التحقيق وعالم الجريمة المظلم الذي فضحه. وهو درب مليء بالأموال الطائلة والدماء والعظام يربط كبار المسؤولين في جهاز الأمن الفدرالي الروسي، وهو وكالة الأمن في البلاد، بنخبة من المصرفيين المراوغين الريفيين وعصابات المافيا التي تسيطر على قطاع الخدمات الجنائزية.
يوم 9 يونيو، أي بعد مرور ثلاثة أيام على توقيفه، وُجّهت إلى غولونوف تهمٌ خطيرة لارتكابه جرائم تتعلق بالمخدرات، فدارت عجلة العدالة الروسية، وتقل نسبة إصدار أحكام البراءة فيها عن 0.25 في المئة من مجمل المتهمين. غالباً ما تؤدي تهم الاتجار بالمخدرات التي وجهت الى غولونوف إلى إصدار أحكام طويلة بالسجن. لكن المفاجأة وقعت حين أدى الاستنكار الشعبي إلى تدخل مسؤولين كبار في الكرملين في القضية وإطلاق سراحه وإعفاء جنرالين في جهاز الشرطة من منصبيهما. يوم السبت وصف بوتين القضية قائلاً "ليست ظالمة فحسب بل غير قانونية" لذا، تستدعي التحقيق.
لكن الرجال الذين أصدروا أوامر الاعتقال، وهم مسؤولو جهاز الأمن الفدرالي الذين وردت أسماؤهم في التحقيق، قد أفلتوا في السابق من العقاب.
ويبحث تقرير غولونوف الذي تنشره "ميدوزا" بالتزامن مع صدور هذا المقال، في خفايا قطاع خدمات الجنائز المظلم في موسكو. ويظهر كيف استحوذت مجموعة من المصرفيين من مقاطعة ستافروبول جنوب روسيا على قسم من هذا السوق في عامي 2015-2016. كما يوضح كيف ساعدتهم في مسعاهم بعض القوى المقرّبة من رئيس المديرية الإقليمية لجهاز الأمن الفدرالي في موسكو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقطاع خدمات الجنائز في روسيا ليس بالمكان المناسب للشرفاء، سواء كانوا أحياء أم أمواتاً. وتستفيد السوق السوداء في هذا القطاع من الفساد والبيروقراطية الإدارية وتقلص مساحة القبور، وتبلغ عائداتها بين 12 و14 مليار روبل كل عام (150 إلى 175 مليون جنيه استرليني).
وعندما لا تسّير الأعمال على ما يرام يلقى بالجثث من فوق جدران المدافن و"ينتحر" مدراء المدافن.
أكثر الحوادث شهرة في إطار عملية الاستيلاء على قطاع الخدمات الجنائزية في موسكو وقعت في العام 2016 حين نشبت مشادة كبيرة تخلّلها إطلاق النيران في مقبرة خوفانسكوي في الضواحي الجنوبية الشرقية. ذلك اليوم، زُهقت أرواح ثلاثة أشخاص.
كان القتال في الظاهر بين مجرمين مرتزقة يركبون الدراجات النارية وعمال مدفن الطاجيك، وهم يشكلون القسم الأكبر من القوى العاملة في مدافن موسكو. لكنه في الواقع كان صراعاً بين العصابتين القديمة والجديدة.
تشكلّت المجموعة القديمة من قدامى العسكريين الذين أسسوا امبراطورية لخدمات الجنائز في ضواحي مدينة خيمكي في العقد الأول من الألفية الحالية. عُرف عن مجموعة خيمكي بطشها ومقاربتها للأعمال بطريقة غالباً ما تودي بمنافسيها إلى العجز أو الموت. لكن على إثر بعض المناورات التي حصلت في العام 2015، تزعزعت مكانة المجموعة هذه في القطاع. وآلت مقاليد الأمور إلى رجال أعمال ومصرفيين من ستافروبول الذين بسطوا سلطتهم بدعم من كبار المسؤولين في مديرية جهاز الأمن الفدرالي في موسكو.
يربط تحقيق غولونوف بين أليكسي دوروفييف البالغ من العمر 58 عاماً، وهو الذي يشغل منصب الجنرال المسؤول عن مديرية موسكو في جهاز الأمن الفدرالي من جهة، وحلقة أو خلية ستافروبول من جهة أخرى. واستناداً إلى التحقيق، في عِداد الحلقات الرئيسية في سلسلة المتورطين ضابطان في جهاز الأمن الفدرالي، مرات ميدوييف وأرتيوم إكيموف. ويصف أحد المصادر في وكالة أمنية هذين الشخصين بأنهما على التوالي "يد دوروفييف اليمنى" و"رجُل دوروفييف".
أما دوروفييف نفسه فهو وفقاً للمصدر ذاته "شبه إله... رجل أمن برتبة فريق لديه مكتب وغرفة زجاجية للتمتع بأشعة الشمس".
وكان غولونوف الذي يقول إنه تلقّى تهديدات مبطّنة كثيرة من مصادره، يضع اللمسات الأخيرة على التحقيق الذي استغرقه العمل عليه عاماً كاملاً حين تمّ توقيفه. وعندما انتشر الخبر، تعهّد فريق من أهمّ الصحافيين الاستقصائيين في روسيا التعاون لإنهاء التحقيق. وواصلوا العمل على جواب الأسئلة التي طرحها التحقيق والتأكد من صحة المعلومات حتى بعد إسقاط تهم المخدرات عن غولونوف وإطلاق سراحه.
شكّل الجهد الجماعي جزءاً من ظاهرة تضامن غير مسبوقة شملت نشر ثلاثة من كبرى الصحف الروسية الصفحة الأولى نفسها دعماً لغولونوف. في تعليقها على الموضوع للاندبندنت قالت غالينا تيمتشنكو، المديرة العامة لصحيفة "ميدوزا"، إنّ هذا الدعم جاء بسبب تضافر ثلاثة عوامل هي شخصية غولونوف المتواضعة وسمعته التي لا تشوبها شائبة وارتكاب الشرطة تجاوزات واضحة.
ويرجح أن المسؤولين الذي أمروا باعتقال غولونوف لم يكونوا يعرفون على وجه التمام من يكون وقوة شبكة معارفه.
من جانبها، أكّدت منصة "بروييكت" الإستقصائية التي لديها مصادر موثوقة في الإدارة أن الكرملين اضطر إلى التدخل بسبب توقّع تنظيم تظاهرات حاشدة. لكن الغضب من تصرّف المسؤولين عن التحقيق، ويبدو أنهم لجأوا إلى تضليلهم أكثر من مرة، هو ما دفع بمسؤولين كبار مثل رئيس إدارة شؤون الرئاسة، أنطون فاينو، ونائبه سيرغي كيرينكو و"رئيس الدعاية" أليكسي غروموف إلى المطالبة بإطلاق سراح غولونوف.
وقال مصدر مقرّب من الكرملين للمنصة الاستقصائية "لو اعترفت (الشرطة) بخطئها وتحدثت عن سبل الحد من الأضرار اللاحقة بالنظام لكان غولونوف ظل قيد الاعتقال".
© The Independent