يفترض بالدول العربية أن تكون سباقة في رفض الاستفتاءات التي أجرتها روسيا في شرق أوكرانيا وقررت بموجبها ضم نحو ربع مساحة تلك البلاد إلى أراضيها واعتبارها أرضاً روسية ستكون أي محاولة لتحريرها من قبل الحكومة الأوكرانية اعتداء على روسيا. فما جرى ويجري في كييف من عملية "خاصة" بحسب التعبير الروسي وصولاً إلى إلحاق الأراضي الأسبوع الماضي لا يعتبر في عرف القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة سوى اعتداء تجري ترجمة نتائجه بالقوة على الأرض، فيما تستمر المعارك بين دولة تعرضت للاجتياح وأخرى لا تخفي مطامعها ومشاريعها التوسعية.
كان العالم أكثر انضباطاً في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وخلال أعوام الحرب الباردة والصراع المديد بين المعسكرين الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة. بقيت الصراعات الإقليمية محدودة الأبعاد وفي نطاق ضيق، ولم يطرح في أي وقت مبدأ تغيير الحدود التي جرى تعيينها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وإذا كان من استثناء في تلك المرحلة والتي تلتها، فهو الاستثناء الإسرائيلي- الفلسطيني- العربي. فإسرائيل كانت الدولة الوحيدة في العالم التي تتخطى القرار الدولي بقيامها، فتتوسع تباعاً على حساب الفلسطينيين ثم الدول العربية المجاورة وتمضي في احتلالها لأراض فلسطينية وسورية عابرة مرحلتي صراع الأقطاب الدولي ثم الحرب الباردة وما بعد انتهائها لمصلحة ما يسمى "هيمنة القطب الأوحد" إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.
يمكن الحديث عن انهيار التوازنات الدولية بدءاً من تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتي. فبعد هذا السقوط وقبله بقليل أعيد توحيد ألمانيا، ثم كرت سبحة الدول المستقلة في الفضاء السوفياتي السابق. وبعد قليل في منتصف التسعينيات من القرن الماضي تحولت يوغوسلافيا إلى جمهوريات عدة بدعم صريح من الولايات المتحدة وأوروبا، لكن هذا الدعم المتعدد الوجوه لم يتحول يوماً إلى عملية إلحاق أو ضم .
كانت القيادة الروسية تتصرف في هذه الأثناء بمنطق آخر قوامه ودافعه العميق الرغبة في ضمان توسيع مناطق النفوذ عبر الحرب والاحتلال والضم. هذا ما حدث عام 2008 مع جورجيا لدى إلحاق أبخازيا وأوسيتيا، ثم لدى ضم القرم عام 2014 والآن مع قسم الأقاليم الأوكرانية الأربعة لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون.
كان ضم القرم قبل ثمانية أعوام فاتحة لتحول عميق في موقف العالم من روسيا وبلغ هذا التحول ذروته في أعقاب بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، فدخلت أوروبا وأميركا ساحة الصراع بدعم كثيف لكييف وبفرض عقوبات شديدة على موسكو ولم تحظ روسيا بتعاطف الصين حليفتها المفترضة، فبكين حرصت كما فعلت إثر ضم القرم على التمسك بوحدة أوكرانيا وبشرعة الأمم المتحدة ولم يأت موقفها معزولاً عن تهديد الغرب بالعواقب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فالولايات المتحدة هددت بوتين بـ"ثمن خاطف وقاس" وأكدت أن أي بلد يدعم الضم الروسي "سيدفع الثمن" و"حلف الأطلسي" الذي تلقى طلب انضمام عاجل من أوكرانيا أكد دعمه لها في تحرير أراضيها وقادة الاتحاد الأوروبي أعلنوا أنهم لن يعترفوا إطلاقاً بالضم وكذلك مجموعة السبع الكبار. أما جورجيا ميلوني، زعيمة اليمين الإيطالي الفائزة في انتخابات بلادها الأخيرة، فاعتبرت أن "لا قيمة قانونية أو سياسية لضم الأراضي الأوكرانية".
من مصلحة العالم العربي أن ينظر بدقة إلى المنطق الذي يجري فرضه في العالم انطلاقاً من التجربة الروسية- الأوكرانية. فالدول العربية عانت وتعاني محاولات مشابهة. صدام حسين حاول ضم الكويت فكانت النتائج الكارثية للاحتلال في الكويت ولاحقاً في العراق. قبله فكر حافظ الأسد بضم لبنان فطالت الحرب اللبنانية واضطر الجيش السوري إلى الخروج في ظروف مذلة بعد أكثر من 30 عاماً من إمساكه بالسلطة في البلد الشقيق. وبالنسبة إلى الدول العربية فإن التمسك بميثاق جامعتها وبالشرعية الدولية هو الأساس الذي يحصن مستقبلها.
لقد قامت القيامة، وهذا أمر طبيعي وشرعي، على قرار الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب الاعتراف بضم إسرائيل للجولان، لكن النظام السوري كان سباقاً في الاعتراف بأوسيتيا وأبخازيا كجمهوريتين، ثم بضم القرم وبعده لوغانسك ودونيتسك. فعل ذلك فيصل المقداد وزير خارجية سوريا في فبراير (شباط) الماضي قبل بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا.
والسؤال الذي يطرح هنا هو كيف لدولة مثل سوريا أن تمارس مثل هذه السياسة وهي محتلة ومقسمة وما الذي يمكن أن يمنع تركيا من إجراء استفتاء لضم مناطقها الشمالية أو يمنع الكرد من إجراء مماثل بهدف الاستقلال والانفصال؟
الغريب في الأمر هو حماسة كل هؤلاء الذين ينادون بتحرير الأراضي المحتلة لاحتلال بوتين في أوكرانيا، الحماسة تبدأ من طهران التي تتهم منتقدي بوتين بالهيستيريا، لتشمل أنصارها في الإقليم الذين ينحازون إلى تمزيق بلد ليست أوطانهم بأفضل حال منه.