من خلال رفض الحزب الجمهوري ترشيح النائبة في مجلس النواب الأميركي عن ولاية وايومينغ ليز تشيني فقد برهن لنا الحزب من دون أدنى شك عن حقيقة توجهاته. وعلينا الاقتناع بما يقولون.
تحولت ليز تشيني بين ليلة وضحاها من النائبة التي شغلت منصب ثالث أهم مسؤول في الحزب الجمهوري إلى شخصية منبوذة في حزبها. ففشلها في الفوز في الانتخابات التمهيدية هو مؤشر على سقوط الحزب الجمهوري في استبداد مجنون. ففيما بدا أنه كان هزيمة مدوية لها، فقدت تشيني مقعدها في الكونغرس الأميركي لصالح مرشحة تلقى الدعم من الرئيس ترمب هي هارييت هاغيمان Harriet Hageman. ويأتي ذلك بعد قضائها العام الماضي كنائبة لرئيس لجنة التحقيق في الكونغرس الأميركي في الهجوم الذي وقع على الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني)، حيث انتقدت الرئيس ترمب بعنف وحققت في ضلوعه في الهجوم المستمر على الديمقراطية الأميركية.
فبعد التخلص من تشيني من منصبها القيادي كرئيسة لمؤتمر الحزب الجمهوري في مجلس النواب العام الماضي، كنت قد كتبت كيف أن تلك الخطوة كانت قد شكلت دليلاً حاسماً على نوع الاستبدادية والولائية لترمب والتي ينزلق إليها الحزب الجمهوري، فيما يجمعون حول فكرة "الكذبة الكبيرة" Big Lie [الإيمان بأن كل شي (وفي هذه الحالة نتائج الانتخابات) يجري التلاعب فيه وبأنه مجرد أكاذيب]، ما جرى بعد ذلك من أحداث تعبر عن نفسها من دون الحاجة إلى تفصيلها. فمع خسارة تشيني، يكون ثمانية من أصل عشرة من جمهوري مجلس النواب الذين صوتوا لصالح عزل الرئيس ترمب بسبب أحداث السادس من يناير (كانون الثاني)، خسروا مقاعدهم إما عبر هزيمتهم في الانتخابات التمهيدية للفوز بترشيح الحزب أو انهم قاموا هم بالإعلان عن تقاعدهم. وفي الانتخابات التمهيدية التي جرت في مختلف أنحاء الولايات المتحدة رشح حزب الجمهوري عدداً كبيراً من الأشخاص الذي يؤمنون بزيف نتائج الانتخابات في 2020، لمناصب على مستوى الولاية أو الاتحادي، ومن ضمنها مناصب لها علاقة مباشرة بعملية المصادقة على نتائج الانتخابات.
رحلة تشيني من مرحلة سطوعها كنجمة للتيار المحافظ، ووصولاً إلى يومنا هذا ربما تستحق بعض التحليل. تشيني انتخبت في عام 2016 نائبة عن المقعد الذي كان والدها ديك تشيني قد فاز به قبل أربعة وأربعين عاماً. وفيما كانت توجه الانتقاد إلى الرئيس ترمب من وقت لآخر، إلا أنها كانت من بين الذين صوتوا لصالحه في 93 في المئة من المرات. إنها فعلاً محافظة ملتزمة بالكامل. وكانت تتمتع بشعبية، وكانت دائماً ملتزمة سياسات الحزب الذي تمثله. ولكن، كل شيء تغير بعد أحداث السادس من يناير [تاريخ اقتحام الكابيتول].
بعد المرحلة التي تلت جهود الرئيس ترمب لقلب نتائج انتخابات عام 2020 والتي انتهت بالهجوم العنيف على مبنى الكابيتول، أصدرت تشيني بياناً رسم التوجه العام لمواقفها خلال العام الذي تلا وقالت فيه، "ليس لدي أي شك في أن الرئيس قام بتنظيم جموع الغوغاء التي هاجمت الكابيتول، وأن الرئيس قام بتحريضهم، وأن الرئيس هو من قام بإلقاء كلمة أمامهم. والرئيس ترمب أيضاً هو من قام بإشعال الفتيل. هناك أسئلة جدية هنا عن دور الرئيس ومسؤوليته حيال ما جرى الليلة، هنا، اليوم، في مبنى الكابيتول، وهو أمر لا يمكن السكوت عنه".
في تاريخ 12 يناير (كانون الثاني) 2021، أدلت تشيني بصوتها لصالح عزل الرئيس ترمب. وبعدها كانت هناك محاولة مبكرة لإطاحتها من منصبها ضمن قيادات حزب الجمهوري في مجلس النواب وفشلت تلك المحاولة في وقت لاحق من ذلك الشهر، لكنها كانت أيضاً قد بدأت تواجه انتقادات قاسية على تصرفها في ولايتها، فقد صوت الحزب الجمهوري في ولاية وايومينغ بالأغلبية لمعاقبتها في السادس من فبراير (شباط) 2021. ولأشهر طويلة بعد ذلك زادت التوترات [الخلافات والنزاعات] بين تشيني وزعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب كيفين ماكارثي النائب عن ولاية كاليفورنيا، بسبب استمرارها في انتقاد من يصدقون "الكذبة الكبيرة"، فيما كان ماكارثي يعمل على تملق الرئيس ترمب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التوتر وصل إلى ذروته في شهر مايو (أيار) بعد أن قامت تشيني بأكبر عملية لتفكيك سردية الرئيس ترمب و"الكذبة الكبيرة" في مقال رأي كتبته في صحيفة "واشنطن بوست" داعية أنصار الحزب الجمهوري "للابتعاد عن تقديس شخصية ترمب الخطيرة والمعادية للديمقراطية". تشيني أكدت في المقال نفسه أن "التاريخ شاهد [على ما يجري]". وأعضاء مجلس النواب من الجمهوريين لم يضيعوا الكثير من الوقت قبل أن يظهروا لها إلى أي جانب من ذلك التاريخ يقفون.
ففي تاريخ الثاني عشر من مايو، 2021، قاد زعيم الأقلية في المجلس كيفين ماكارثي تصويتا لإطاحة تشيني من منصبها كرئيسة مؤتمر الجمهوريين في مجلس النواب House GOP Conference Chair. استسلام الحزب في مرحلة ما بعد هجوم السادس من يناير كان قد اكتمل عند تلك اللحظة. وتمت إطاحة تشيني من قيادات الحزب، ولكن لم يشكل ذلك نهاية النائبة تشيني.
في يونيو (حزيران) 2021، قامت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي وهي ديمقراطية تمثل ولاية كاليفورنيا بتشكيل لجنة البرلمان الخاصة للتحقيق في هجوم السادس من يناير وقامت بتعيين تشيني إلى جانب العضو الجمهوري عن ولاية إيلينوي آدم كينزينغر Adam Kinzinger لتمثيل الحزب الجمهوري في اللجنة. وعينت تشيني في موقع نائبة رئيس اللجنة. وأفضت التحقيقات بعد عام من العمل إلى جلسات استماع علنية للشهود طوال هذا الصيف، لعبت خلالها تشيني دوراً محورياً من خلال تقديمها إيجازات قاطعة عن دور الرئيس ترمب، مطالبة بمحاسبته جنائياً على ذلك.
وقبل خوضها الانتخابات التمهيدية هذا الأسبوع في وايومينغ، قام كل من الرئيس ترمب ورئيس الأقلية الجمهورية كيفين ماكارثي بدعم ترشيح منافسة تشيني. وهذا لم يغير الأمور كثيراً، بخاصة أن الحزب الجمهوري فرع ولاية وايومينغ كان قد قام عملياً بطرد تشيني من الحزب. وفي مقابلة أجراها يوم الإثنين على قناة "فوكس نيوز" أطلق زعيم الأقلية الجمهورية في المجلس كيفين ماكارثي على الانتخابات التمهيدية بين تشيني وهاغيمان على أنها "استفتاء على شرعية لجنة التحقيق في أحداث السادس من يناير". وإلى حد ما كان ماكارثي صادقاً في ذلك، فقد أتيحت الفرصة للناخبين الجمهوريين لرؤية وقائع ما جرى خلال عملية الاقتحام، ودور الرئيس ترمب فيها. وعلى الرغم من من ذلك، فقد فضلوا أن يتجاهلوا تلك المعطيات وأن يواصلوا الإيمان بما ينشره إعلام تيار اليمين من أكاذيب. لقد اختاروا إنهاء المسيرة المهنية لامرأة في الكونغرس، لأنها وقفت في جه التهديد الحالي المحدق بالديمقراطية [الأميركية] ودونالد ترمب الذي يمثل ذلك الخطر.
كان بإمكان تشيني اختيار الطريق الأسهل والأناني لو قامت بالالتزام بمواقف الحزب ومواقف ترمب الكاذبة وغير الديمقراطية ومواصلة سعيها للحصول على المناصب والتأثير والسلطة. فهذه كانت الخيارات التي اتبعها من حل مكانها كرئيس لمجلس مؤتمر الحزب الجمهوري، النائبة إليز ستيفانيك الجمهورية عن ولاية نيويورك. ستيفانيك تحولت من نائبة تنتهج الوسطية إلى مؤيدة راديكالية تتملق ترمب بإذلال واضح خلال فترة قصيرة من الزمن، لكن تشيني فضلت التمسك بمواقفها ومبادئها، حتى لو كان ذلك يعني خسارتها للسلطة.
بأمكان أعداء تشيني أن ينتقدو الكثير من مواقفها المحافظة جداً تجاه قضايا مهمة للغاية، وبالطبع لطالما كان من الصعب التوفيق بين بعض مواقف تشيني المؤيدة للديمقراطية، وموقفها مثلاً من حقوق التصويت، لكن عملها من خلال لجنة السادس من يناير في الكونغرس يعتبر موقفاً مشرفاً ويعكس عملاً شجاعاً. ومن الممكن لكل هذه المعطيات أن تتجمع في شخصيتها في الوقت نفسه.
إذا، ماذا سيخبئ المستقبل لليز تشيني؟ نحن سنواصل رؤيتها في جلسات الاستماع الخاصة بأحداث السادس من يناير في الخريف المقبل، وربما سيكون هناك مزيد من الفعاليات التي قد تشارك فيها بعد ذلك. فالخطابات التي ألقتها من موقعها ضمن لجنة التحقيق كانت دائماً موجهة للرأي العام على المستوى الوطني الأميركي. لقد نجحت في إبراز الأدلة وبقوة لإدانة ترمب، كما دانت مواقف الحزب الجمهوري الحالية أكثر من مرة. وقد يتساءل البعض إن كانت تشيني ستحمل تلك القضية إلى مسرح الانتخابات الحزبية التمهيدية لاختيار المرشح الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية التي ستجري عام 2024.
إن فرص تشيني للفوز في الانتخابات التمهيدية على المستوى الوطني [الأميركي] ضئيلة للغاية طبعاً، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار موقف أنصار الحزب وتفضيلهم شخصيات مثل ترمب وحاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس Ron DeSantis، لكن ربما قد يكون لصوتها تأثير على الناخبين المستقلين ومن بقي على وسطيته في الحزب الجمهوري قبل الانتخابات العامة المقبلة. تشيني لا تزال في السادسة والخمسين من عمرها. هل هي تقوم حالياً في إعداد العدة للعودة في انتخابات 2026 النصفية؟ هل لديها الطموح لقيادة حزب جمهوري أقل راديكالية في مستقبل بعيد هو 2028؟ لا أحد يمكنه البت بذلك.
في جلسة الاستماع الأولى التي عقدتها لجنة التحقيق في هجوم السادس من يناير على الكونغرس، وجهت تشيني رسالة إلى الحزب الجمهوري يتردد وقعه اليوم ويبدو مصيباً أكثر مما كان عليه يوم الإدلاء به "سيأتي يوم يرحل فيه الرئيس دونالد ترمب، لكن العار الذي ألحقتموه بأنفسكم سيبقى". وبغض النظر عما سيحمله المستقبل، إن التاريخ يستذكر دوماً أولئك الأشخاص الذين وقفوا بوجه الاستبداد، والجبناء الذين أذعنوا له. بالنسبة لدونالد ترمب تحديداً، ليز تشيني كانت من بين من وقفوا وأعلنوا أنه لا يمثل ما نحن عليه كأميركيين.
نشر في اندبندنت بتاريخ 17 أغسطس 2022
© The Independent